عندما يتصرف الرئيس بحماقة ‏
من يدفع ثمن حماقته؟
علي الكاش
في عام2010 حدثت حالة ربما هي فريدة من نوعها في مدينتنا الصغيرة في وسط النرويج (تروندهيم) ‏عندما قام مراهقان نرويجيان بالإعتداء على زميل لهما من أفريقيا، فقد ذهبا الى بيته، واخذا يرميان ‏الحصى الصغار على شباك غرفته في فصل الشتاء، حيث البرد القارص (ناقص15 درجة مئوية) ولم ‏يعرهما الصبي الأفريقي إهتماما بعد ان رآهما من خلال النافذة، وتجاهلهما في باديء الأمر، ولكنهما ‏إستمرا برمي الحصى لعدة مرات، فأشتاط الصبي الأفريقي غضبا وخرج ورائهما، فهربا، ولكنه تبعهما ‏وطعن أحدهما بسكين حاد، وكانت الإصابه خطيرة مما إضطر السلطات الصحية الى نقله بطائرة طبية ‏الى العاصمة اوسلو لإسعافه، والحمد لله فقد نجا من الموت بإعجوبة بسبب سرعة التعاطي مع وضعه ‏الحرج، كانت اعترافات زميله ـ الذي كان معه وإستطاع النجاة بنفسه ـ قد جرت كما بينا، فهناك نوع من ‏النزعة العنصرية وراء إستفزاز المراهق الأفريقي ولم تكن هناك سوابق بين الطرفين، فالجميع زملاء ‏في المدرسة المتوسطة، وقد كانت امرأة عجوز تلاحظ ما جرى منذ البداية من خلال النافذة، وهي من ‏إتصلت بالشرطة واعلمتهم بالحادث وأكدت عملية الإستفززز.‏
بعد يوم من الحادثة، تمت مناقشة الموضوع في مدرسة الكبار، وكان الحضور من عدة جنسيات ـ من ‏حوالي عشرين دولة ، بما فيهم المحاورة النرويجية وأفراد من الدولة الأفريقية التي ينتمي اليها المراهق ‏الأفريقي. كنا أحد الحضور، وبعد ان تمت المناقشة سألتني المحاضرة ما رأيك؟ فأنت لم تناقش ‏الموضوع او تتطرق الى أية فكرة في حين أدلى معظم الحضور بآرائهم.‏
أجبت: اولا انا أتفق بأن الحادثة تعتبر جريمة وفق كل المقاييس القانونية، وان المراهق الأفريقي ‏تصرف بعنف لا يتوافق مع تصرف زملائه المراهقين، وانه إستخدم سلاحا (سكين مطبخ) بمعنى انه ‏تقصد استخدام السلاح عن سابق إصرار. ولكن الحق ان لا ينظر الى هذا الموضوع من هذه الزاوية ‏فقط، ونحن لسنا بصدد الدفاع عن الصبي الأفريقي، انتم ناقشتم النتيجة ولكنكم تجاهلتم الأسباب، وهنا ‏يكمن العيب في الحوار. ‏
أود أن اسأل الجميع الأسئلة التالية:‏
اولا: لو لم يستمرا المراهقان النرويجان في إستفزاز الصبي الأفريقي، هل كان الأمر وصل الى ‏الجريمة؟ ثانيا: من جاء الى بيت الآخر لغرض الإعتداء وإستفزاز المقابل؟ ‏
ثالثا: هل يمكن لأي فرد منا ان يتوقع ردة فعل الطرف الآخر إذا إستفزه بطريقة ما؟ ‏
رابعا: اليست النزعة العنصرية هي التي تقف وراء الحادث، طالما انه لا توجد كراهية سابقة بين ‏الطرفين؟ خامسا: هل فكرتم بأن هناك مشكلة في إندماج الأجانب مع المجتمع النرويجي، وان السبب لا ‏يقع عليهم فقط بل أنتم تتحملون جزءا من فشل عملية الإندماج؟ ‏
سادسا: وانا في طريقي للمحاضرة سمعت طفلين من المدرسة الابتدائية لا تتجاوز اعمارهما العشر ‏سنوات، يقول أحدهما للآخر: انظر الى هذا (النكرو)! أقول: من أين تعلم الأطفال هذه الصفة المهينة ‏للأفارقة، أليس من الكبار، ربما الأهل او من المعلمين او طرف آخر؟
الغرض من هذه الحكاية هو التبصر بحادثة التمييز العنصري في فرنسا الذي نجم عنه ذبح معلم فرنسي ‏‏(صامويل باتي) بعد أن عرض على طلابه صور عارية ومهينة للنبي العربي (ص)، ولو طبقنا ‏الملاحظات التي سبق أن سقناها على الحادث، لوجود هناك قواسما مشتركة، علما ان السلطات ‏النرويجية تصرفت بتعقل، فهي لم تستثمر الجريمة لأغراض سياسية، ولم يتدخل أي حزب سياسي، بما ‏فيه المتطرف اليمين في إستثمارها لأسباب عنصرية او حزبية، ولم يعلق الملك او رئيس الوزراء او اي ‏مسؤول حكومي على الحادثة، على العكس مما حدث في فرنسا، طالما ان الجريمة جنائية، لا نفهم لماذا ‏حشر الرئيس الفرنسي أنفه في الموضوع؟ ولو افترضنا انه حاول إستثمار الحادثة لأغراض إنتخابية ‏كضربة إسباقية للإلتفاف على اليمين الفرنسي المتطرف كما يروج البعض، لكنه بتدخله هذا فقد معظم ‏أصوات الناخبين المسلمين. والمسلمون يمثلون أكبر جالية في فرنسا، وكان يفترض ان يتصرف كرئيس ‏لجميع المواطنين الذين يعيشون في فرنسا، وليس كرئيس عنصري ومتطرف.‏
لقد تصرف الرئيس الفرنسي بشكل لا يتوافق مع مكانته السياسية، عندما وصف الحادث (أزمة الإسلام) ‏فالرئيس لا يفقه من الإسلام شيئا، وهو ليس فقيه إسلامي وغير مؤهل لإطلاق التوصيفات المهينة جزافا ‏على الإسلام، لو كان قد عبر عن الموضوع بدون تعميم لأنه التعميم سلاح خطر بحدين، وقال ( أزمة ‏المتطرفين الإسلاميين) لما إعترضنا على قوله، بل لكنا وقفنا معه لأنه على حق، لكن ان يسبغ صفة ‏البعض المتطرف على جميع المسلمين فهذا هو الظلم بأبشع صوره
الأمر المشين الآخر هو إصراره على نشر الرسوم المهينة للرسول العربي، بحجة حرية الرأي والحق ‏في التعبير، ويبدو ان هذه النزعة مرنة جدا وتتوافق مع الفرص الإنتهازية لثعالب السياسة، لأن الحرية ‏يجب ان لا تؤذي مشاعر الآخرين، فما بالك بأن الآخرين ما يقارب المليار مسلم! لا توجد حرية مطلقة، ‏والا تحولت الى فوضى عارمة، وهذه من ابتكارات الفرنسيين وليس نحن، عندما صفع أحد الفرنسيين ‏بعد الثورة الفرنسية مواطنا فرنسيا، قال المصفوع: لماذا صفعتني؟ فأجابه: انها حريتي الشخصية! ‏فأجاب المصفوع: لكن حرية يدك تنتهي حيث تبدأ حرية وجهي!‏
لقد جرمت أوربا ومنها فرنسا معاداة السامية وكل من ينكر المحرقة النازية، فهل يمكن ان يطبق الرئيس ‏الفرنسي معيار حرية الرأي والتعبير التي تشدق بها، ويتهجم على السامية وينكر المحرقة النازية؟ وهل ‏يمكن للصحيفة الفرنسية التي نشرت الرسوم المسيئة للرسول ان تقوم بنفس الفعل؟ الجواب معروف. ‏وهذا يُلزم تجريم كل من يتعرض للرموز الدينية ومن يسيء لمشاعر اخوانه في الوطن.‏
سبق ان أحرقت نسخ من القرآن الكريم في العديد من الدول الأوربية تحت حماية الشرطة المحلية، وتم ‏تدنيس نسخ من القرآن الكريم في حظائر الخنازير التبول عليه من قبل بعض القسسة والمتطرفين، هل ‏فكر الرئيس الفرنسي لماذا لا يقوم المسلمون بحرق وتدنيس الأنجيل إسوة بما يفعله البعض تحت لافتة ‏حرية الفكر والتعبير؟ لماذا المسلم يحترم مشاعرك، وانت لا تحترم مشاعره؟ لماذا يحترم دينك ولا ‏تحترم دينه؟
هل عالج الرئيس الفرنسي الأمر بحكمة أم زاد من شرخ جدار المواطنة في داخل فرنسا وخارجها؟ ‏
رافق تعنت الرئيس الفرنسي بإصراره على نشر الصور المسيئة للرسول العربي، قيام عدد من ‏الفرنسيين بلصق الألاف من الصور المسيئة للنبي محمد على الجدران والساحات العامة ومحطات ‏المترو، وتابع ذلك إعتداء مسلم على ثلاثة مواطنيين فرنسيين أبرياء في كنيسة، وبالطبع سوف لا تنتهي ‏الأمور الى هذا الحد، فالتعنت في الإساءة سيقابلة الإصرار على رد الإساءة، وعندما يتصرف الإنسان ‏بحمق، فسيواجه من هو أحمق منه بالتأكيد، وهذا ما يجب أن يفهمه الرئيس الفرنسي. في مجتمع ‏متعدد الأديان والقوميات والأجناس كفرنسا، على الرئيس ان يكون أبا للجميع، ولا يفرق بين ابنائه ولا ‏يقبل بالإساءة لأي منهم.‏
كانت ردة الفعل الإسلامية والعربية بمستوى تعنت الرئيس الفرنسي واصراره على الإساءة للنبي ‏العربي، وستدفع المؤسسات التجارية الفرنسية ثمن حماقته من خلال وقف إستيراد السلع الفرنسية، ومن ‏يحاول ان يقلل من هذا الشأن نقول له، انه سلاح فعال، عندما يتسع ويعم من قبل المسلمين عموما، سيما ‏اذا إتخذت الحكومات الإسلامية إجراءات رادعة ضد البضائع الفرنسية ومنعت دخولها، لا يمكن وضع ‏حد لمثل هذه الإنتهامات المقصودة إلا من خلال المقاطعة الإقتصادية، والدليل على كلامنا انه خلال ‏اسبوعين فقط حاول الرئيس الفرنسي التهرب من تصريحاته والإدعاء بأنها أولت من قبل البعض، في ‏لقاء‎ ‎له مع قناة الجزيرة، وصف الرئيس الفرنسي المقاطعة ” هذا شأن غير لائق وندينه وأدينه، لكن هذه ‏الحملة هي من فعل بعض المجموعات الخاصة التي استندت إلى أكاذيب بشأن رسوم الكاريكاتور، ‏وأحيانا هي من فعل بعض الزعماء الآخرين، وهذا أمر غير مقبول لأنكم تفهمون ما يحدث فيما يتعلق ‏برسوم الكاريكاتور”. وهو كاذب في هذا الشأن، فقد اكد خلال مراسم عزاء المعلم الفرنسي بأنه سوف ‏يستمر في نشر الصور المسيئة للنبي العربي، لذا كان الكلام واضحا وغير قابل للتأويل. وأكده في ‏تغريدة نشرها بالعربية صور مجلة (شارلي إيبدو) “ما من شيء يجعلنا نتراجع، أبداً. نتعلق بالحرية، ‏ونضمن المساواة، ونعيش الإخاء بزخم. تاريخنا تاريخ النضال ضد كل أشكال الطغيان ‏والتعصب،وسنستمر”. اما قوله” “اتخاذ قرار بمقاطعة بلد ومقاطعة شعب لأن صحيفة كتبت شيئا ‏جنونيا”. ان كان ما عرضته المجلة (جنونيا) فلماذا تقف ايها الرئيس مع الجنون ضد التعقل؟
نحن ضد الجريمة بعض النظر عن مرتكبها ولأي سبب كان، ولكن نذكر الرئيس الفرنسي بضرورة ‏قراءة كتاب الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (عارنا في الجزائر) الذي يكشف عن فضائع الجرائم ‏التي ارتكبها الجنود الفرنسيون خلال احتلالهم للجزائر، نقول للرئيس الفرنسي إنك تألمت لمقتل معلم ‏واحد ومواطنيين فرنسيين، وجُرحت جرحا كبيرا لمقتلهم كما زعمت. فما بالك بجرحنا وقد قتلتم مليون ‏جزائري؟ قتلتم مليون مسلم في الجزائر فقط، ناهيك عن قتلى بقية الدول التي احتليتموها، ولكننا قلنا: ‏قتلهم ، ولم نقل قتلهم المسيحيون، لأن الدين لا علاقة له بهوية القاتل، هذا هو الفرق بيننا وبيتكم. ‏
انك بتصرفك المتهور وبتصرف مجلتك الحقيرة تتحملان مسؤولية كل الدماء التي سالت وستسيل ‏مستقبلا في فرنسا، ولات ساعة ندم.‏
علي الكاش