د. سوسن الزبيدي
عرف بعض الولاة العثمانيين باهتمامهم بانشاء الطرق ، وتعمير اخرى وتأمين سلامتها ، ونخص بالذكر منهم والي بغداد نامق باشا الصغيرالذي اسند اليه عدد من الاعمال منها تعمير بغداد – دير الزوروطريق بغداد – حلب كما اهتم بانشاء عدد من نقاط الحراسة على امتداد الطريق التجارية منها طريق بغداد – الفلوجة، وعرف عن والي بغداد ناظم باشا مثل هذا الاهتمام حيث جرى تخصيص مبلغ (4) آلاف ليرة سنويا لانشاء الطرق

وتمهيد المعابر والمسالك ولا سيما طريق بغداد – دير الزور ، في حين تم تخصيص مبلغ (2000) ليرة لاجل تسوية بعض اجزاء طريق بغداد – الموصل – حلب. ورافق ذلك انشاء عدد من المخافر على طريق الموصل – حلب، فضلا عن اجراء التحسينات على طريق الموصل – كركوك والموصل – راوندوز.
الا ان اهم انجاز تم تحقيقه في هذا المجال ، وعده بعضهم مفخرة العصر في المشرق العربي حينئذ، هو انشاء مدحت باشا لترامواي بغداد – الكاظمية.
كانت هناك مجموعة من الاسباب دفعت هذا الوالي لانشاء هذا المشروع يقف في مقدمتها الاهمية الدينية لوجود مرقد الامام موسى الكاظم وما ترتب على ذلك من كثرة الزوار إلى الكاظميةيقابلها شيوع وسائط النقل البدائية التي لا تكاد تسد حاجة الراغبين في زيارة هذه المنطقة الامر الذي ادى إلى نتيجة طبيعة الا وهي حدوث الاختناقات في حركةالنقل بين بغداد والكاظمية فكان لا بد من ايجاد وسائل نقل جديدة تحل محل الوسائل التقليدية.
علاوة على ارتفاع الكثافة السكانية لمنطقة الكاظمية ، بحيث اضطرت الغالبية العظمى من سكانها ولا سيما العاملين في قطاع التجارة والصاناعة إلى الذهاب إلى اماكن عملهم في بغداد والعودة منها يوميا دون ان تتهيأ لهم وسائل سريعة للنقل باستثناء الحيوانات ، ناهيك عما يرافق هذه الرحلة اليومية من المصاعب فكان لا بد من ايجاد حل لهذه المعاناة.
وبعد استحصال الموافقات الاصولية تم تأسيس شركة مساهمة في ايار 1870م برأسمال قدره مليون وخمسمائة الف قرش وقد بوشر بطرح اسهم الشركة البالغ (6000) سهم للبيع في الاسواق ، بقيمة ليرتين ونصف الليرة للسهم الواحد ، وهو ما يساوي (250) قرشا.
ويبدو ان اسهم الشركة لقيت اقبالا شديدا في البداية من الاثرياء بتشجيع من مدحت باشاحيث احصي ما بيع منها في العشرة ايام الاولى فبلغ (784) سهما واستمر بيع الاسهم حتى وصل إلى خمسة الاف سهم. وقيل ان مدحت باشا اجبر بعضهم على اقتنائها. الا ان حملة بيع الاسهم ما لبثت ان فترت بعد مدة قصيرة ، إذ تعذر بيع الاسهم المتبقية وعددها (1000) سهم وبالتالي كانت الاسهم المباعة رأسمالا ثابتاً ثابت للشركة. وقيل ان الشركة منحت مدحت باشا ريع اسهمها تقديرا منها لجهوده في دعم الشركة ، وبادر مدحت باشا إلى تقديمها كهدية لمدرسة صنائع بغداد.
اما عن ادارة الشركة فقد اوكلت إلى ادارة الامور النافعة في الولاية ، حيث بلغت الاخيرة بمهمة جمع الايرادات والمصروفات الخاصة بالشركة ، والتي كانت تدون في دفتر خاص. كما تقرر تأسيس مجلس لادارة الشركة ، واشترط على الراغبين في عضوية المجلس امتلاكهم ما لا يقل عن (10) اسهم من اسهم الشركة.
وعندما تجمع لدى الشركة المال الكافي من بيع الاسهم، تم استيراد الادوات والمعدات اللازمة من لندن حيث سار العمل في المشروع وفقا لما هو مرسوم له عندما قام عمال عراقيون بمد السكة لمسافة 7كم ، كما امتلكت الشركة ورشة عمل تم تكليفها بصنع اجزاء العربات محليا.
اما عن شكل العربات ، فكانت تشبه عربات الترام في لندن ، التي كانت تسير على سكة ويجر كل عربة حصانان ، ووصلت اعداد عربات الترام إلى (40) عربة ، ولم تكن جميع العربات صالحة للاستعمال ، اما عن مصدر الخيول المستخدمة في جر العربات فانها كانت تشترى من سماسرة الخيول ، أو تجلب من فرق الخيالة التابعة للجيش.
حددت الطاقة الاستيعابية لكل عربة من عربات الترامواي بـ (40-50) راكبا . الا ان احد المساوئ التي سجلت على الترامواي هو عدم الالتزام بالعدد المقرر الذي كان يصل في ايام الزيارة إلى 70 أو 80 راكبا واحيانا يصل إلى 100 راكب، فيما جرى تحديد موعد انطلاق عربات الترامواي بدءا من السادسة صباحا، اما اخر عربة فكانت تذهب إلى الكاظمية الساعة 10 مساءا وكان الفاصل الزمني بين تحرك عربة واخرى ربع ساعة ، اما عن مدة رحلة الترامواي فكانت تستغرق نصف ساعة يتوقف خلالها الترامواي بضع دقائق لاستراحة الخيل في عدد من المراحل.
اتسمت اجرة ركوب الترامواي بعدم الثبات، فبينما تراوحت هذه الاجرة في بداية تأسيس هذا المشروع بين (20-40)(*) بارة ، ارتفعت بعد ذلك إلى مبلغ يتراوح بين قرش واحد إلى قرشين، فيما جرى استخدام بطاقات مطبوعة ابان الاحتلال البريطاني وبشكل درجتين ، اولا بـ (4) قروش ، و(3) قروش للدرجة الثانية، لكن الشركة سرعان ما عادت وغيرت هذه التسعيرة.
عانت شركة ترامواي بغداد الكاظمية عددا من الصعوبات والمشاكل منها سرعة قيادة العربات التي اثرت كثيرا على راحة المسافرين وكانت سببا في كثير من الحوادث. كما عانت حافلات الترامواي من النقص الشديد في وسائل الانارة حيث اقتصرت على فانوس واحد، علاوة على قلة انارة الطريق الذي يسلكه الترامواي وكثرة تعرجاته وضيقه في بعض المناطق ، فاذا ما حدث وسقطت عربة أو تعطلت توقف العمل بالخط لمدة طويلةفضلا عن انعدام النظافة في عربات الترامواي.
بالرغم من السلبيات والمشاكل التي اعترضت سيرة هذا المشروع ، حقق المشروع نجاحا منقطع النظير ومن مظاهر هذا النجاح ، انه ظل طوال مدة عمله بعيدا عن متناول اية جهة اجنبية ، علاوة على كونه اول مشروع يتم تأسيسه في بغداد برؤوس اموال مشتركة ، كما انه قدم خدمات كبيرة لقطاعات مختلفة من الناس ولا سيما الزوار وابناء الكاظميةفضلا عن الارباح الكبيرة التي حققها هذا المشروع التي وصلت إلى 20% من راس المال في السنة الاولى وزع قسم منها على أرباب الحصص ، في حين خصص القسم الاخر لاطفاء ديون الشركة، واستمر الارتفاع التدريجي لارباح الشركة حتى وصلت سنة 1878م إلى 100% من راس مال الشركة الاساس. وبذلك اثبت ترامواي الكاظمية اهميته الكبيرة بالرغم من كونه مشروعا صغيرا.
لكن المشروع سرعان ما تعرض للاهمال والتدهور ، واقتصر الاهتمام بالترامواي على بعض المحاولات لاعادة بناء السكك وبناء نهايات الخط. فيما لم يبد أي من ولاة بغداد محاولة لتطوير هذه الشركة باستثناء محاولة ناظم باشا (1328-1329هـ/1910-1911م) لاستخدام الطاقة الكهربائية في تشغيل الترامواي تلك المحاولة التي لم يكتب لها النجاح.
وفي سنة 1331هـ/1912م اسس التاجر البغدادي محمود الشابندر في لندن شركة تنوير بغداد ، حيث اوكل اليها مهمة توليد الطاقة الكهربائية في بغداد ، واستخدام هذه الطاقة في تشغيل عدد من المشاريع منها مشروع ترامواي الكاظمية.
وسعيا من سلطات الاحتلال البريطاني لديمومة العمل في هذا المشروع الحيوي فقد اصدرت سنة 1918 سلسلة من التعليمات جرى بموجبها تحديد الحد الاعلى لركاب كل من عربات الترامواي بـ (48) راكبا ، فضلا عن اعطاء المفتشين صلاحية انزال ما يزيد على هذا العدد كما صدرت في السنة نفسها تعليمات اخرى عالجت من خلالها مشكلة الازدحام الشديد وخصوصا ابان موسم الزيارات الدينية ، إذ جرى تمديد ساعات عمل العربات مع التأكيد على ضرورة الاهتمام بنظافتها وتعقيمها ، وكذلك اجراء الفحص اليومي لعربات الترامواي من مهندس يتم تنسيبه من الحاكم العسكري البريطاني.
ظلت الشركة مستمرة في اعمالها بالرغم من السلبيات التي اكتنفت مسيرتها الطويلة حيث استطاعت ان تحظى بمدراء اكفاء استطاعوا ان ينظموا ادارتها وتأمين سير عرباتها ، حتى انتقلت ملكية الشركة المذكورة إلى الدولة وبهذا انتهى المشروع كشركة مساهمة حيث ظلت تدار من الحكومة لحين الغائها في 15 كانون الاول سنة 1946.
كان النجاح الذي حققه المشروع حافزا للكثير على تاسيس مشاريع مماثلة . اما ولاية البصرة فشهدت سنة 1292هـ/1875م تشكيل شركة مساهمة لتشغيل الترامواي بين البصرة والعشار حيث تم طرح اسهمها البالغ عددها (2500) سهم للبيع بسعر ليرتين للسهم الواحد لكن هذا المشروع لم ينفذ.
وفي نهاية القرن التاسع عشر انشئت سكة حديد (تارم حص) ، بين النجف والكوفة ، إذ خصصت لها سكة الحديد الممتدة من النجف إلى الكوفة بخطين خط للذهاب واخر للاياب، وتسير على هذا الخط (عربات للركاب) ، كما قدم كل من عبد الرحمن الباجة جي ومحمد صالح الشابندر سنة 1325هـ/1907م طلبا إلى وزارة التجارة والاشغال (نظارة النافعة) ، لتسيير ترامواي بين النجف والكوفة ، وبعد استحصال الموافقات الرسمية ، تم تأسيس شركة عثمانية ، برسمال قدره (24000) ليرة عثمانية ، لانشاء المشروع المذكور الذي تم الانتهاء من تنفيذه سنة 1328هـ/1910م.
ومن الجدير بالاشارة ان هناك عددا من مشاريع الترامواي المقترحة لم تدخل حيز التنفيذ بسبب رفض وزارة التجارة والاشغال العامة (نظارة النافعة) المصادقة عليها ، على الرغم من موافقة السلطات المحلية على تنفيذها ، نخص منها بالذكر مشروع ترامواي البصرة – العشار بين سنة 1309هـ/1891م ومشروع الترامواي الكهربائي بين الاعظمية وبغداد.