سليمان جبران في كتابه:
” على هامش التجديد والتقليد في اللغة العربية المعاصرة “.
بقلم : نبيل عودة
الكتاب : هلى هامش التجديد والتقليد في اللغة العربية المعاصرة
المؤلف : بروفسور سليمان جبران
اصدار : مجمع الللغة العربية – حيفا – 2009
يجري حول اللغة العربية حوار صاخب أحيانا ، بين العديد من المثقفين واللغويين ومختلف أصحاب الرأي . ويبدو ان هذا الحوار هو مميز للغة الضاد فقط ، ومع ذلك لا يشير ذلك الى اهمية غير عادية للغة الضاد ، بقدر ما يشير الى أزمة عميقة باتت تقلق المتعاملين مع اللغة ، بقصورها الفاضح في المجالات المختلفة ، وبالأساس المجالات العلمية والتقنية ، وأيضا في مجال الاستعمال الأدبي الإبداعي. وتبرز الأزمة بوزنها الكبير ، في هرب أصحاب اللغة من لغتهم الى لغات أجنبية للتعبير ، واشكاليات استيعاب الطلاب العرب للغتهم ، بل ونفورهم من اساليب تعليمها ومن التناقضات الكبيرة بين اللغة المحكية واللغة التي تسمى فصحى ، لدرجة ان تعريف الفصحى بات يشكل موضوعا للخلاف ، نتيجة دخول اساليب تعبيرية واصطلاحات وجملا متعارف عليها ، لا يمكن ان تخترفق أسوار الحواجز النحوية التي وضعها سيبوية قبل مئات كثيرة من السنين ، في مناخ ثقافي ولغوي مختلف وبات غريبا عن لساننا مفرداتنا وعن صياغاتنا وعن متطلباتنا اللغوية في هذا العصر الذي يشهد نقلة نوعية عاصفة في العلوم والتقنيات ، في اللغات واستعمالاتها، الا لغتنا العربية المسجونة داخل كهف يقف على ابوابه حراس اللغة بظن انهم يخدمون لغتهم ، وهم لا يستوعبون ان حراستهم تقود لغتنا الجميلة الى الموت السريري ، وقد تتحول الى لغة لا يتجاوز عدد المتحدثين فيها عدد المتحدثين اليوم باللغة الآرامية في العالم !!
الموضوع أشغلني منذ سنوات ليس كلغوي ، بل كمثقف وكاتب يعيش نبض اللغة التي تشكل سلاحه التعبيري ، وأداته الهامة للتواصل ، الأمر الذي وضعني بمواجهة اشكاليات لغوية تعبيرية في الحديث او الكتابة عن مواضيع تكنلوجية وعلمية وفلسفية ، لم أجد لها صيغة عربية ، ووجدت باللغة العبرية التي اتقنها بشكل جيد ، لا يرقى الى مستوى اتقاني للعربية بالطبع ، تعابير واصطلاحات سهلة واضحة ميسرة مفهومة ، وقابلة للإستعمال، بدون تعقيدات نحوية .
واشغلني سؤال ما زال مطروحا: بأي لغة عربية نكتب ؟
الفصحى القديمة أضحت لغة لا مجال لاستعمالها وفهمها من الأكثرية المطلقة لمن يعرفون أنفسهم كعرب. الفصحى الجديدة السهلة ، او لغة الصحافة كما يسميها البعض ، أيضا غير ميسرة لأوساط واسعة جدا من العرب..بسبب انتشار الأمية المريع الذي لا يقلق حراس اللغة بقدر قلقهم على مواصلة السجن القسري للغة في زنزانة نحو وضع لمناخ لغوي لم نعد نعيشه ، ومن المستحيل ان نعود اليه.
في كتاباتي دائما اتلقى نقدا لغويا حول استعمالاتي للغة. ومحاولات تصحيح لغتي ، وانا على قناعة تامة ان تمكني من التعبير بلغتي العربية ، متطور جدا ، ليس بسبب دراستي للغة ، بل نتيجة ممارستي وتجربتي الغنية قراءة وكتابة ، وأعترفت مرات عديدة اني لا أعرف قواعد اللغة ولا اريد ان أعرف اكثر مما اعرفه اليوم ، واذا كان لا بد من اصلاح فلغتي هي لغة معيارية عربية حديثة ، متطورة في تعابيرها ، وسهلة الفهم لأوساط واسعة ، وتحمل من جماليات التعبير والصياغة أكثر من كل نصوص المتقعرين ، الذي لا استطيع ان افهم نصوصهم أو أهضم ثقالة دم لغتهم !!
ربما أطلت في مقدمتي ، ولكني اندفعت اليها بحماس اثر قراءتي لكتاب شدني بلغته الجميلة وشروحاته المنفتحة الراقية ، حول اشكاليات لغتنا العربية صادر عن مجمع اللغة العربية في اسرائيل ، للبروفسور سليمان جبران ، الذي كان رئيسا لقسم اللغة العربية وآدابها في جامعة تل أبيب ، قبل خروجه للتقاعد. يحمل الكتاب عنوانا دالا : “على هامش التجديد والتقييد في اللغة العربية المعاصرة ”
افتتح سليمان جبران كتابه ببيتين من الشعرعن “الغيورين” على اللغة:
جاروا عليهــا زاعمين صلاحها
في نبذ طارقهــا وفي تقييدهـــــا
لم يفقهوا ان اللغــات حياتهــــــا
في بعث تالدها وفي … تجديدها
وهناك مقدمة للدكتور عادل مصطفى ( باحث مصري في اللغة والعلوم والفلسفة ) يقول فيها: ” العربية في أزمة ، يجفوها أهلها ، ويهجرها بنوها، ولا يكاد يتقنها سدنتها وأحبارها .
ان العربية على فراش المرض ، تعاني من تضخم في القواعد والأصول ، وفقر في المصطلح ، وعجز عن مواكبة الجديد ومجاراة العصر . الداء واضح للعيان ، ولم يعد بالامكان اخفاؤه . فبئس الدواء إنكار المرض، وبئس الحل إنكار المشكلة.”
مقدمة الدكتور عادل تستعرض اشكاليات اللغة ، التي يعالجها البروفسور سليمان جبران في كتابه ، وتتطابق أفكاره تماما مع طروحات وشروحات سليمان جبران. وبدى لي متحمسا للكتاب وطرحه الذي يثبت ليس فقط معرفة سليمان جبران الكاملة باصول اللغة ونحوها ، انما معرفة موسوعية نادرة بكل ما عبرته اللغة العربية من تحولات وتطوير في القرن التاسع عشر ، خاصة منذ بدأ اللبناني فارس الشدياق : “رجل النهضة الأدبية الحديثة الأول ” – كما وصفه مارون عبود ، وسائر النهضويين الرواد العرب أمثال المصري رافع الطهطاوي ، جهودهم العظيمة في احياء اللغة العربية التي قتلها التتريك والتخلف السائد في الأقطار العربية والذي كان لا بد ان ينعكس سلبا على واقع اللغة العربية ، وللأسف يبدو وكأن الزمن توقف ، وما زلنا نحاور من نفس المنطلقات ، وما زلنا نلوك نفس الحجج ..
قلت اني لست لغويا ، ومع ذلك قرأت بحث سليمان جبران اللغوي بشوق كبير ، أولا بسبب لغته الجميلة واسلوبه التعبيري الواضع ، وقدرته على التعامل مع الاشكاليات اللغوية المختلفة بتحليل وتفسير واستنتاج ، مبني على المعرفة الموسوعية ، وهو أمر سحرني به سليمان جبران ، لأني وجدت به أجوبة عن القضايا المطروحة اما م تطور مجتمعاتنا المدنية ، والذي يظن انه بنحو لغة قديمة خاضع للمرحلة التي نشط فيها سيبوية ، يمكن بناء مجتمع مدني علمي تقني حديث هو واهم . اللغة أداة للتواصل لا بد منها للعلوم والتقنيات والثقافة والفلسفة والمجتمع ، وليس للقداسة فقط.
من المواضيع التي يطرحها الكتاب: ” لغتنا العربية : لا هي عاجزة ولا معجزة” – ” متى نؤلف نحوا حديثا للغتنا العربية ؟ ” – ” دور الشدياق في تطوير اللغة العربية ” – ” العامية والفصحى مرة أخرى ” – “الترادف غنى ام ثرثرة ؟ ” – ” تصحيح الصحيح ” – “تجليات التجديد والتقييد ” .
لغة سليمان تتميز بالإقتصاد في اللغة والابتعاد عن الفضفضة ، التي نواجهها في الكثير من النصوص. وكأني به الى جانب بحثه القيم يعطينا درسا ونموذجا في الصياغة الحديثة بدون فضفضة وترهل لا يضيف للمعنى شيئا ، وقناعته تقول اننا في عصر السرعة ولا يمكن الا ان نقتصد في الكلمات لنؤدي نفس المعنى.
ترددت في طرح نماذج لسبب اني شعرت بأني سانقل كل الكتاب للقارئ ، وهذا غير ممكن .
وأعتقد ان انتباه معلمي اللغة العربية لهذا الكتاب ، في كل مستويات التعليم ، خاصة الثانوي والجامعي ، واستعمال المداخلات والنماذج التي يطرحا سليمان جبران ، سيحدث ردة فعل ايجابية تقرب اللغة العربية لأبناء هذه اللغة ، وتفتح امامهم آفاق لغوية جمالية ستنعكس بشكل ايجابي على تقريب اللغة للطلاب العرب وتقريب الطلاب العرب من لغتهم وقدراتها التعبيرية والجمالية ، وفهمهم ان الاشكاليات التي يهربون منها ، هي وليدة واقع مريض ، وليس نتيجة لغة عاجزة ومعقدة.
nabiloudeh@gmail.com