بقلم وعدسة: زياد جيوسي
الحلقة الثالثة والأخيرة
ولشمال الأردن عبق يجمع بلاد الشام في بوتقةواحدة، فمن مطلّ طبريا كنا نطلّ على الأرض الفلسطينية وقلوبنا تتفطّر على الأراضيالمحتلّة من شمال فلسطين وهضبة الجولان السورية، فأكملنا المسير بطريق حاد بالنزولومتعرج باتجاه الحمّة حيث بدأت درجات الحرارة في الارتفاع فنحن الآن في الغورالشمالي، وبعد جولة صغيرة في البلدة اتجهنا الى أحد المتنزهات للراحة والغداء،وهناك تمتعنا بالجلوس على حافة نهر اليرموك ومشاهد الإوزّ والبطّ تسبح في النهر،وارتحت بالسباحة في بركة من المياه المعدنية حتى المساء فغادرنا إلى إربد وسهرناوتعشينا في مقهى جميل قبل أن نزور صديقتنا أم نضال حيث أصرت على استضافتي وزوجتيللنوم في بيتها العامر ولم تسمح أن ننزل للفندق.
في الصباح اتجهنا لبلدة الحصن التي ترتبطبروحي والقلب تلبية لدعوة لم يكن مجال للفكاك منها لدى بيت صديقنا محمد الحتاملةوابنته الفنانة التشكيلية رنا الحتاملة على إفطار شعبي جميل، ومن هناك كنا نتجهلبلدة الشونة الشمالية في شمال الغور لزيارة مقام الصحابي الجليل وابنه عبد الرحمنشهداء طاعون عمواس، وللتجوال في البلدة التي تعتبر مركز لواء الأغوار الشمالية فيالأردن حيث يحدها نهر اليرموك شمالا وغربا يحدها نهري اليرموك والأردن، وهي بلدةساحرة الجمال في العديد من مواقعها وخاصة بيارات الحمضيات والفواكه، فقد سبق انزرتها قبل مرحلة زمنية طويلة في ثمانينات القرن الماضي برفقة أسرتي وقضينا فيهانهارا جميلا في بيارة ساحرة الجمال حافلة بكل ما تشتهيه النفس من فاكهة، وآبارالمياه وقنواتها الباردة والمنعشة للروح، والشونة الشمالية اسمها القديم هو”القصير” نسبة الى معين الدين أحد أمراء المماليك، ولكن في العهدالعثماني وبحكم مساحاتها الزراعية وما تقدمه من الخضروات والفواكه تحول اسمها إلى “الشونة”وهي كلمة حسب المصادر تعود للغة المصرية الفرعونية وتعني مخازن الغلال وينتشرالاسم في مصر ويوجد في فلسطين أيضا، وأضيف لها كلمة الشمالية لتمييزها عن الشونةالجنوبية.
اتجهنا مباشرة أنا وزوجتي باتجاه مقام الصحابيمعاذ بن جبل وهو مسجد ضخم بني في العهد العثماني له خمسة قباب خضراء ترمز لأركانالإسلام الخمسة، ومأذنة مربعة الشكل ومساحة واسعة وأمام المسجد في الساحة الخارجيةمجموعة من الأزهار والورود الجميلة، ومن الدخل باحة واسعة وفي آخر المسجد الضريحالمبني على نظام العقود المتصالبة منذ العهد العثماني، وحين دخلته وقرأت الفاتحةشعرت برهبة ورعشة اجتاحت كل جسدي، وبني المسجد بجوار ضريح الصحابي الجليل وولدهوكان قد استخلفه الصحابي عبيدة بن الجراح حين أصيب بالطاعون ولكنه توفي وابنيهوزوجتيه فيه وانتقلوا إلى الرفيق الأعلى.
بعد قراءة الفاتحة والصلاة في المسجد والتجوالفي مساحته الجميلة الباعثة للراحة في النفس غادرنا لمنتجع جميل في الشونة محاطبالتلال والجبال، وحجزنا غرفة مع بركة للتمتع بالمياه المعدنية الحارة والكبريتيةفي منتجع جميل، بسعر معقول ولمدة ساعتين ونصف مع أنابيب تسكب نوعين من المياهالكبريتية، المعقولة بحرارتها والعالية الحرارة والمتخمة بالمعادن والكبريت، وهناكبرك سباحة وبرك مشتركة بأسعار جدا متواضعة، لكننا فضلنا الخصوصية بسعر أعلى ولكنهمقبول، وحين أنهينا وقتنا ارتحنا في حدائق المنتجع بين الأشجار والورود واحتسيناالقهوة وتغدينا لنكمل المسير بإتجاه بلدة مخربا بدعوة من صديقي الشاب حمزة العزاموحين اقتربنا منها خرجنا من الشارع الرئيس وبدأنا بصعود مرتفع شاهق.
مخربا بلدة مرتفعة وجميلة في غرب محافظة إربدومطلة من هذا المرتفع الاستراتيجي على تلال فلسطين ومدينة بيسان بحيث أن الهواءالغربي يحمل إليها دوما عبق فلسطين وأريجها، وعبر مساحات خضراء بالزراعة والأشجاروصلنا البلدة وتوقفنا قليلا قبل الوصول لنتأمل جمال فلسطين ونتنشق عبقها الجميلوتنعشنا نسماتها الغربية، وواصلنا المسير باتجاه وسط البلدة حيث الجامع القديمومأذنته الأحدث الجميلة حيث توقفنا واستقبلنا مضيفنا حمزة العزام بكل الفرح وحسنالترحاب ودخلنا إلى الديوان وتعرفنا إلى أسرته وطفلتيه الجميلتين.
الديوان بني في عهد جد مضيفنا أبو صالح عام1885م على طراز العقود المتوازية وسقف من القصب والطين المخلوط بالتبن على طرازغالبية المباني التراثية في شمال الأردن، وله بوابة مرتفعة بقوس على أعلاها،وبوابته الأصلية أزيلت وأصبح مكانها بوابة معدنية حديثة وعلى أعلى الحائط يافطةحجرية حديثة تحمل اسم الديوان، وفي الساحة ما زال بئر الماء القديم الذي كان يعتمدعلى تجميع مياه الأمطار ما زال مستخدما وشجرة برتقال تهمس بالجمال، وبعض القطعالحجرية والبوابات الداخلية والنوافذ كلها ذات أقواس نصف دائرية من الأعلىوالجدران سميكة، وما أن دخلنا أروقة الديوان حتى فوجئنا أننا في متحف تراثي جميلورائع، ففي كل زواياه قطع تراثية جميلة تروي حكاية الأباء والأجداد، فجلسنا إلىالمراتب التي تحفّ الديوان ومن حولنا حكايات التراث وشعرت بأروح الأجداد تشاركناالفرح، وبعد احتساء القهوة بدأنا زوجتي ختام وأنا بجولتنا مع هذه التراثيات التيبهرتنا، وكل الجدران كان معلق عليها أثواب تراثية سواء للرجال أو النساء إضافةلرفوف تحمل وسائل الإضاءة التراثية قبل عهد الكهرباء من أسرجة و”لمباتالجاز” وشمعدانات الإضاءة وما كنا نسميه “لوكس أبو شنبر”، وعلىالجدران أدوات استخدمت بالزراعة مثل المناجل وغيرها وأدوات لمهام أخرى، ودلالالقهوة ومطاحن الحبوب البازلتية والقدور والسدور الكبيرة الحجم والغرابيلوالكرابيل وميزان قديم والمكاوي المعدنية والمهابيش والجرار الفخارية والصورالقديمة وغيرها العشرات وربما المئات من هذه التراثيات التي أعادتني لذاكرةالطفولة المبكرة.
غادرنا الديوان مودعين مستضيفينا حمزة وشقيقهمختار البلدة الأخ عطاالله شاكرين لهم حسن الضيافة ومعتذرين عن إصرارهم أن نقضيليلتنا ضيوف عندهم فقد كان المساء قد حل تقريبا، فقد كان برنامجنا التوجه لبلدةحوفا الوسطية وزيارة أصدقائنا الأخ أبو مجدي “عادل لبابنة” وزوجته خديجةعبد العال والمبيت عندهم لكي نواصل الجولة في حوفا الوسطية في اليوم التالي كيتكون خاتمة جولتنا لمدة ثلاثة أيام متصلة، فوصلنا بعد صلاة العشاء وسهرنا علىالشرفة الواسعة نتأمل جمال المنطقة ومتمتعين بالهدوء والحديث والحوار مع مضيفيناالرائعين لبعد منتصف الليل.
في الصباح صحوت مبكرا وتناولنا الإفطارواحتسينا القهوة مع مضيفينا وبدأت عدستي مبكرا التقاط جماليات الأزهار والورود علىالشرفة وفي الحديقة ومشاهد للمنطقة المحيطة ببيت مضيفينا، ثم غادرت برفقة العزيزأبو مجدي لجولة في حوفا الوسطية وتسمى بهذا اللقب لكي تتميز عن حوفا المزار، وهيتقع في المنطقة الشمالية من محافظة إربد، واسمها مشتق من موقعها على حواف الجبالوالأودية وفعليا عرفت عن هذه القرية من خلال الفنانة التشكيلية ربا أبو دلو والتيكانت تعمل في الآثار سابقا وكان لها دور أساس في الإشراف على الحفريات التي جرتعام 1992م والتي أسفرت عن دير بيزنطي متميز بتصميمه، فاتجهنا في شوارع البلدةووصلنا إلى ديوان عشيرة اللبابنة وهو مبنى كبير مع مساحة تستخدم كما العادة فيالأفراح والأتراح، لكن هنا تم العمل على استخدامها لنشاطات ثقافية وأدبية متعددة،وهذه مسألة جميلة ورائعة بالتأكيد فعادل اللبنانة “أبو مجدي” منالمثقفين وله تاريخ نضالي.
من هناك إلى مقام الشيخ صالح وله اسم آخر هومقام الأربعين، وفي المسوحات الأثرية القديمة للألماني شوماخر عام 1890م أشار لهباسم الولي سعد، وبعض المصادر تشير أن اسمه سعد ولكن صالح لقب مأخوذ من الصلاح،وهذا المقام يعود لأحد أجداد أبو مجدي فأجداده ومنهم الجد الأكبر عقلة البياتنةوولده الشيخ ياسين كانوا من أصحاب الطرق الصوفية وكانوا يتقنون القراءة والكتابةفي الفترة العثمانية، وكان الناس يجلّونهم ويحضرون لهم الزيت لإشعال أسرجة الضوءويعتبرونهم من أصحاب الكرامات، وهذا المقام يعود للعهد العثماني وهو مبني على شكلمربع من الحجارة وعلى نظام العقد المتصالب مع قبة أعلاه، وأبواب قوسية من أعلاهاونوافذ على شكل طاقات صغيرة مرتفعة، ومن الداخل يوجد طاقات في الجدران تستخدمللتخزين ووضع المواد فيها، ولكن المقام عانى من الإهمال ومن حفريات التخريبللباحثين عن أوهام الذهب، فأصبح المقام الواقع على تلة وبجواره مقبرة صغيرة معرضللهدم والانهيار إن لم يجري ترميمه باعتباره أحد الآثار والتراث في البلدة كما جرىفي بلدات أخرى منها ايدون.
من المقام كنا نتجه لموقع الدير البيزنطي فلمأجد إلا قطعة مهملة من الأرض مسورة بشبك من الأسلاك لا يمنع الدخول لها، وفي مساحةمنها قطعة كبيرة من الصخر واضح أن طرفها كان معصرة للعنب وصنع الخمور، وفتحتينبالصخر متقاربتين إحداهما بشكل طولي والأخرى تنزل لكهف من الصخر وكانت مقابرللرهبان وأهملت ولم يعثر بها على رفات أو فخاريات بسبب اللصوص، وفي الأسفل رأيتكميات من الأعشاب النابتة والأخشاب والقمامة وآثار تدلل على عبث العابثين ولصوصالآثار، وحسب التقرير التفصيلي المكون من 19 صفحة والذي قدمته الفنانة التشكيليةربا أبو دلو بعد الحفريات وأعمال الترميم التي أشرفت عليها عام 1992م أن الموقعوكما أشار اليه “شوماخر” كان يحتوي على كهوف وآبار محفورة بالصخر ومعاصرللزيتون والعنب، ولم يتم الكشف عن الموقع إلا صدفة حين تمت عملية شق طريق زراعيفكشفت عن الفسيفساء في الدير عام 1992، وبدأت الحفريات من دائرة الآثار في الموقعحيث تبين أن جدران الكنيسة استخدمت حجارتها في البناء للبيوت، وعثر على بقاياكنيسة بمساحة 27،5/ 15 م من الخارج ومن الداخل 13،5/ 20م، ومقسمة إلى 3 أروقة كانتتفصلها أعمدة لم يعثر إلا على قاعدتين من قواعد الارتكاز لها، ومبلطة بالفسيفساءوالحجارة الملونة ووجد فيها مستطيل حجري مكتوب عليه باليونانية: “أيها الربالإله بارك هذا الملك وأسطفان ويوحنا وفوتينوس الكاهن وأسطفان أبناء ليونتيوسبذكرى أولميبيا واوستورجيا اختيهما”.
وفي أكثر من موقع من هذه الكنيسة وجدت حجارةولوحات فسيفسائية مكتوب عليها دعاء للاله للمباركة والحفظ للمكان وبعض الأسماء،إضافة لزخرفات مختلفة بين الطيور والنباتات والأشكال الهندسية، ووجدت بعض القطع منالبرونز وبقايا فخاريات ولكن كان التخريب المتعمد واضحا على هذه الآثار إضافةلعوامل الزمن والطبيعة، والكنيسة في الأصل رومانية وحين أصبحت تحت السيطرةالبيزنطية جرى تشويه الأشكال الحية كي لا يتم تقديسها، وفي النهاية تم تغطيةالأرضيات بالبلاستيك والرمل الزجاجي “رمل صويلح” وإعادة طمر الموقع بدلامن الحفاظ عليه وتحويله لموقع سياحي في البلدة.
بالسيارة قمنا بجولة في البلدة لنرى معالمهاوجولة على الأطراف حيث المزارع والحقول ومن ضمن ما زرناه مزرعة تحت الإنشاء بموقعمشرف وجميل مطل على الأودية لمضيفنا أبو مجدي، وواضح من خلال الجولة أن الأبنيةالقديمة والتراثية قد أزيلت والمتوفر الآن أبنية حديثة حتى أن معصرة الزيتونومطحنة الحبوب حديثة العهد، وحقيقة أعتقد أن على شباب البلدة العمل على ترميمالمقام وإعادة إبراز وترميم الدير والكنيسة كي تصبح أماكن للزيارة والسياحة بعدالتعريف عليها بوسائل الإعلام المختلفة وترتيب زيارات مدرسية لها وغير مدرسية ترفعمن اسم البلدة عاليا، ومن ثم عدنا إلى بيت أبو مجدي من جديد حيث ودعناهم عصرا بعدالغداء شاكرين لهم حسن الضيافة والاستقبال والكرم العربي الأصيل، وشاكرا لأبي مجديتفريغ نفسه لجولتي في حوفا، ومن حوفا اتجهنا لإربد مارين بالعديد من القرى للتعرفإليها وجولة في إربد قبل أن نعود لبيتنا في عمَّان بوقت متأخر من الليل.
في وكني فيبلدتي الخضراء جيوس في فلسطين أجلس مقابل حديقتي وأشجار البرتقال والتين والليمونوأشجار أخرى وورود، مستقبلا أشعة الشمس والدفء في مرحلة الكوانين، أحتسي قهوتيوأستذكر جولتنا في شمال الأردن الجميل عبر ثلاثة أيام مع شدو فيروز وهي تشدو:”يا حبيبي و هذي الروابي لنا وهذا الجنا، وأنا أنشد لحني عن ولوعي، طائفافي الناس أسقيهم دموعي، ليس لي في هذه الأرض ربوع،حيثما كان الهوى تلك ربوعي، أيهاالسائر في الدرب البعيد، تتبع الشمس إلى كل جديد”، فأهمس: صباح الخير يافلسطين.. صباح الخير يا أردن.. صباحكم جميعا أجمل.
” جيوس 15/12/2019″ www.facebook.com/ziadjayyosi/notes www.facebook.com/ziadjayyosi/photos_albums