بقلم وعدسة: زياد جيوسي
لم أتخيل حينما دعاني صديق العمر من أيامالدراسة الجامعية باسل ذيب النمري “أبو شجاع” لزيارة بلدة هجرها سكانها،أن هذه البلدة ستشغل تفكيري 3 سنوات متواصلة وأنا أبحث عن سرها بعد أن زرتهاوصورتها أول مرة عام 2016 برفقة أبو شجاع، وسعيت عبر 3 سنوات للقاءات مع رجالات منصمد من كبار السن ليحدثوني عنها.
حين أطللنا على بلدة صمد الواقعة على طريقرئيس يبدأ من إربد مرورا بإيدون باتجاه عجلون، طلبت من أبو شجاع أكثر من مرةالتوقف للتصوير عن بعد لهذه البلدة الساحرة ببيوتها الحجرية المهجورة على رأس تلةوكأنها من البعيد عروس على رأس التلة، وما أن وصلناها وبدأنا الجولة بين البيوتالتي هجرها سكانها وتركوها على حافة النسيان حتى كنت أتساءل عن سر هجرة البلدةبأكملها عبر سنوات حتى أوائل ستينات القرن الماضي حين لم يتبقى بها أحد.
البلدة التراثية هجرت بالكامل، البيوتات،المسجد، الكنيسة، المدرسة ولم يتبقى بتلك الفترة فيها أحد أبدا، وفيما بعد وعلىبعد من البلدة القديمة بدأت تنشأ صمد الحديثة من جديد، وبقيت صمد التراثية تعانيمن وحدتها على رأس التلة، فتهدمت معظم أسطح بيوتها وقسم كبير من الجدران، وما تبقىكنت أشعر بالدمعات تترقرق على وجنات الحجارة، رغم أن هذه القرية التي تركت علىحافة النسيان تعود إلى أكثر من 2000 عام عبرتها في مركب الزمان، فما زالت آثاركنيسة بيزنطية موجودة وبعض من الآثار اليونانية أيضا، وكان يسكنها أبناء البلدالواحد بغض النظر عن الديانة فقد تآخى بها المسلمون والمسيحيون وعاشوا معا حتىبدأت الهجرة منها وتُركت على رأس التلة تشكو الوحدة.
ثلاثة جولات في ربوع صمد، الأولى بدعوةومرافقة صديقي باسل النمري “أبو شجاع” والثانية بعد ثلاثة سنواتبتنسيق وترتيب التربوية الألقة فدوى حداد، حيث تطوعت مشكورة بالتنسيق ليلزيارة صمد واللقاء بالعديد من سكانها، فرتبت لي اللقاء مع العزيز قدري الجراحوالذي رتب لي جولة ولقاء بعض الأشخاص في صمد، والأستاذ قدري هو من العاملين فيمديرية تربية المزار ومن المهتمين جدا بتراث الأمكنة وتصويرها وذهبت برفقة العم أحمدأبو دلو “أبو خالد” والذي سبق أن رافقني جولاتي في إيدون، وفي هاتينالجولتين تجولت بين دروب وأزقة صمد التراثية الترابية والممتلئة بالحجارةالمتساقطة، فهي حين كانت نخلة باسقة لم تعرف عهد تعبيد الطرق.
أبنية صمد بشكل عام كانت مبنية بأسلوبين منأساليب البناء، الأسلوب الأول للبيوت الواسعة نوعا ما وهو قائم على نظام العقودالمتوازية ومسقوف بالقصب والطين المعجون بالتبن، وبعضه دخلت الى أسقفه العوارضالمعدنية، والبعض من البيوت اعتمد أغصان الأشجار مع القصب والطين المعجون بالتبن،وبعض البيوت ذات المساحات القليلة اعتمدت على جدران أربعة عريضة بدون عقودمتوازية، وأثناء جولتي لم أشاهد أي أثر لبيت قائم على نظام العقود المتصالبة،ومعظم البيوت قد سقطت أسقفها وبقيت الجدران الخارجية والعقود المتوازية قائمة،وبعض البيوت انهارت بالكامل وقليلة البيوت التي ما زالت محافظة على أسقفها، وبكلأسف خلال ثلاثة سنوات بين الزيارة الأولى والثانية وجدت البيوت القائمة تراجعتللخلف، ويظهر أن إشاعات وهم الذهب تثير البعض للحفر والتخريب الذي يؤدي مع عواملالطبيعة إلى مزيد من الخراب، وقد تجولنا من الأعلى على رأس التلة بين البيوتوحولها بالكامل، ولم يكن بها بيوت مأهولة إلا من الأعلى بالمنطقة المحيطة بالمسجد،والمسجد قائم من بناء جرى ترميمه ويقال أن البناء قائم على قواعد الكنيسةالرومانية والتي تحولت إلى المرحلة البيزنطية لاحقا، لكنني حقيقة لم أشاهد أيةقواعد تحت بناء المسجد تعود لتلك العصور حتى أجزم بهذا الموضوع.
صمد التاريخية التي نشأت في عهد الرومانواليونان دمرت مرتين بالزلازل التي عصفت بالمنطقة عام 760 م، وكما أفادني د.مهنا حداد تعرضت لزلزال آخر في القرن 17حين زرته بعد الجولات الثلاثة في بلدةالحصن بترتيب من خلال صديقي باسل النمري، وقد استقبلنا د. مهنا بكل حفاوة وحدثنيالكثير عن تاريخ صمد وحكاياتها، حيث أعيد بناء صمد عام 1820م وبعد مائة عام بدأتالهجرات بالتدريج منها لأسباب اجتماعية واقتصادية، فقد كانت صمد تتعرض للغزوات منالبدو وهنا لعب الخوف على الأعراض دوره كون صمد كانت منعزلة تماما، وكانت تسكنهاعائلات مسيحية ومسلمة فبدأت الهجرات مبكرة من العشرينات من القرن الماضي واشتدتالهجرة لدوافع اقتصادية باتجاه المدن والمناطق الحضرية في الستينات حتى الثمانيناتحتى فرغت تماما، علما أنه كان بها مدرسة للروم الارثوذكس بجوار الكنيسة وممن علموابها الاستاذ المرحوم ذيب النمري والد صديقي باسل، وكان الحنين يشد د. مهندوهو يحدثنا عن صمد، وقال لي أنه شارك بتقديم مشروع لإعادة إعمار صمد كقرية تراثيةوسياحية حين كان في جامعة اليرموك، لكن بكل أسف لم يتم الموافقة على المشروع تحتبند الضائقة المالية، وقد ثار الحنين بمضيفنا قبل أن نودعه ويودعنا بمثل ما استقبلنامن حفاوة مقدما لي كتابين من مؤلفاته، فأنشد قصيدة من قصائده لصمد أذكر منها:
اذا شممت الصبا تأتي الصبامن صمد/ روحي في تلك القرى فيها الهوى يتقد
عيني على جبل ترقد فيه بلد/كالطفل في حضن أم لا يعانيه كمد
في جولاتي في صمد الأولى والثانية وجدت بعضالمباني ما زال وضعها جيدا ويمكن إعادة ترميمها وتحقيق حلم أهل المنطقة بقريةسياحية وتراثية تصلح لتصوير الأفلام والمسلسلات كما جرى التصوير في بعض بيوتهاالصالحة، وتكون قبلة للزوار والسياحة ولمن يرغب بقضاء أيام بالطبيعة والهواء الطلقبين عبق التراث والآثار والتاريخ، ومعظم البوابات التي ما زالت قائمة يلاحظ أنهااعتمدت على الحجارة الأثرية سواء بالعارضة الحجرية أعلى الباب أو بالحلق الحجريوكذلك بعض من زوايا البيوت وقاعدة الجدران، وهذه الحالة وجدتها في معظم المناطقالأثرية التي سكنها الناس حيث لم يكن هناك اهتمام بالحجارة الأثرية والآثار بشكلعام، وبعض البوابات والنوافذ اعتمدت نظام الأقواس وبعضها اعتمد على حجر مستطيل علىأعلى البوابة وبعضها ما زال منقوش عليه الصليب، وبيت آخر وجدت عليه حجر منقوش باسمصاحب البيت وتاريخ 1370 ه والشهادتين، وفي داخل البيوت كانت الفجوات في الجدرانالتي كانت تستخدم لحفظ المواد وخاصة الغذائية وفجوات لأسرجة الضوء والإنارة، ومعظمالجدران من الداخل كانت مكسوة بالجير المصبوغ وقد ترك عليها بعض المارون نقشاسمائهم او عبارات مختلفة، ومعظم البوابات الموجودة من الخشب والعوارض المعدنيةكما الأبواب بتلك الفترات، والعديد من الأبنية من الخارج ما زالت في حالة جيدةويمكن ترميمها بسهولة، وقد لاحظت أن الكنيسة وبناء آخر امتازت بالبناء على نمطالعقد النصف برميلي مما منحها قدرة على مقاومة عوامل الطبيعة والزمن نوعا ما، وعلىأعلى قوس البوابة يوجد حجر أثري عليه زهرة اللوتس.
لاحظت وصديقي باسل النمري أن الحجارة المنقوشةفوق البوابات جرى خلعها وسرقتها وهذا يثير التساؤلات إلى أين ذهبت، ففي فلسطين جرىسرقة مثل هذه الاحجار ونقش عليها آثار توراتية وبنيت مع الحجارة القديمة من جديدفي العمق الفلسطيني 1948م في محاولات صهيونية لتزوير تاريخ فلسطين، وفي جولتنانزلنا لعدة كهوف تحت الأرض فيها بقايا البيوت التي هدمت بالزلزال وآثار تعودللمرحلة البيزنطية واليونانية والرومانية، وعلى قطعة صخرية كبيرة وجدت آثار معصرةرومانية أو بيزنطية كما في كل المناطق التي خضعت لحكمهم في تلك الفترات الغابرة،كما ما زالت بعض آبار الماء التي كانت تعتمد على جمع مياه المطر موجودة وخرزاتهاموجودة وأحدها منقوش عليه تاريخ عام 1937م وإن فقدت الخرزات من آبار أخرى مماجعلها خطرة على من لا ينتبه للآبار والفتحات المكشوفة، وفي جولتي الثانية مع الأخوالصديق قدر الجراح جلت نفس الأمكنة مرة أخرى إضافة لمبنيين كانا يستخدمان كمدارسأحدهما مبنى قديم والآخر أحدث، وهي مغلقة ومهجورة بعد بناء المدارس في صمد الحديثةالتي تمتد من طريق إربد عجلون وبعض من الأبنية بنيت بجوار صمد التراثية، وهذهالمدارس يمكن استخدامها كمعسكرات كشفية وطلابية وللزوار كأمكنة إقامة مؤقتة بدلامن تركها لعوامل الزمن، وبجوارها بعض من القبور القديمة التي يمكن تسويرها وعزلهاعن الأبنية، وفي جولتنا وللمرة الثانية لاحظت معاناة صمد سواء التراثية أو الحديثةمن مقالع الحجارة والكسارت المحيطة بها ناثرة للغبار ومسببة الأمراض للسكانوالتلويث للبيئة، وقد احتج السكان عليها ومنعوا الآليات التي تحمل الحصى والأتربةمن المرور من وسط البلدة، كما شاهدت مبنى ما زال منقوشا على أعلى بوابته على 3حجارة متجاورة تاريخ 1848م على الحجر الأيمن، وفي الوسط الصليب والحجر الأيسرمنقوش عليه عبارة “الله واحد”، وبعض البوابات عليها حجارة تحمل نقوشزخرفية وحجر منقوش عليه الهلال، كما شاهدنا مصنع للألبسة بني ولم يعمل ولم يستخدموقد تم منح الأرض التي كانت بركة رومانية لصاحب المصنع فضاع أثر مهم ولم يكتملالمشروع، وفي حديث مع مضيفنا عبد الله محمد أبو دلو “أبو عادل” الذياستقبلنا في بيته وتجول معنا أفاد أن الكثير من آثار صمد تعرضت للسرقة وأن انعدامالمواصلات عن الشارع الرئيس الذي تم فتحه من إربد إلى عجلون كان السبب الرئيس فيهجرة البلدة القديمة والاتجاه للبناء قرب الشارع، والبعض هاجر لبلدات أخرى للعمل،وغادرت البلدة مودعا مضيفينا مع الغروب برفقة العم أبو خالد إلى إيدون حيث كنامدعوين للعشاء في بيت الدكتور عصام أحمد زومط وزوجته هند أبو دلو ابنة أبوخالد المربية ومديرة مدرسة بيت راس للبنات، ومن هناك إلى عمَّان بعد عشاء فاخروكرم أصيل وسهرة جميلة.
في الجولة الأولى غادرنا صمد صديقي باسلالنمري وأنا بعد الغروب الساحر إلى بيت في منطقة مواجهة لصمد لزيارة الحاج تركييعقوب فريح ” ابو يعقوب” وهو رجل كبير بالسن وزوجته وابنته المهندسةبسمة حيث استقبلونا في بيتهم التراثي في وسط البستان الذي أعادني إلى ذكريات قديمةوأصروا أن نتناول العشاء معهم وحدثني عن تاريخ صمد، وأن سكانها كانوا مسلمين ثمسكن معهم المسيحيون في تعايش أخوي كبير، وأنهم كانوا يتبادلوا مشيخة البلد وحدثناعن الشيخ سليمان عبدو وهو من آل النمري قد تسلم مشيخة البلد وعن الشيخ دخلالله عبد الحق البدور واخوته، وأن الشيخ دخل الله كان يدفع الضريبة عن البلدكاملة بانتظار الموسم الزراعي للسكان، وقال أن طبيعة الحجارة التي استخدت بالبناءتعود لآثار رومانية وبيزنطية ويونانية، وأن المدرسة بجوار الكنيسة كانت تعود لكلمن سعيد عقلة عميش ويعقوب سعيد عميش وأنه جرى استئجارها منهم لاستخدامهامدرسة، وقال لي أن من ظواهر التعايش الإسلامي المسيحي أنه درس بالمدرسة وختمالقرآن مرتين، وأنه خدم مع الجيش العربي فترة طويلة في الضفة الغربية وأحضر منهناك شتلات اللوز من بلدة جبع في جنين والزيتون وزرعها بالمنطقة وفي وادي البطمومنه أخذها الناس فترك أثر جميل على الزراعة، كما أحضر الدجاج البلدي البياضوانتشر بالبلدة.
كما حدثتنا ابنته بسمة عن ذكرياتالطفولة المبكرة في صمد التراثية، وكيف كانت عمتها تقدم لهم البيض المقلي بالفرنمع السمن البلدي وتسكب عليه اللبن، وعن ذكريات بيت موسى العبدو المفروشبالبسط اليدوية وفي جنوب البيت نافذة مزروع خلفها الريحان الذي كان يعبق بالبيتوكيف كان مضيافا وكريما، وكان أبو يعقوب يتحسر على تلك الأيام وبعد سهرة جميلةوالذكريات ودعناهم باتجاه الحصن ومن هناك أخذت سيارتي باتجاه عمَّان.
والجولة الثالثة كنت وحدي بجولة في صمدالحديثة باتجاه المزار للقاء مع د. حسينالسعيدين مديرتربية المزار والمعلمة ديمة العمري من مدرسة حوفا المزار الثانوية الشاملةللبنات والتي قامت بالتعاون مع المعلمة سيرين أبو لبدة “مدرسة العربية”وطالبات المدرسة مرام المومني ودانا الشرمان ورنا فائق بتقديم خطة مبادرة جرىتنفيذها مع الطالبات لزيارة صمد تحت عنوان: “صمد قرية نسيها الزمان”تهدف لتسليط الضوء على صمد ضمن خطة شاملة من اختيار فريق عمل وعصف ذهني لاختيارموضوع المبادرة وتوزيع الأدوار بين فريق العمل، وتصوير فوتغرافي وفيديو للقريةخلال الزيارة واللقاء مع الأهالي وكتابة تقرير عن القرية وتصميم صفحة على وسائلالتواصل الاجتماعي بنفس اسم المبادرة، ولكن بكل أسف أن هذه الجهود لم تجد الاهتماممن المعنيين ومن الإعلام المحلي الأردني/ تلفاز/ فضائيات/ إذاعة/ صحافة، وجرى حوارمطول بيننا د. حسين السعيدين والمعلمة ديمة العمري والاستاذ قدر الجراح حول مايمكن أن ندعم به صمد من أفكار، وأبديت لهم كل الاستعداد للتعاون في أية مبادرةقادمة إن كنت في الأردن وليس على سفر كما العادة، وبعد الجلسة الجميلة ودعتهممغادرا ومعتذرا عن دعوة الغداء التي أصروا عليها متجها إلى إربد ومنها إلى عمَّانلارتباطي بأمسية أدبية.
عمَّان وهذاالبرد والشمس الدافئة وأنا أجلس إلى مكتبي في شرفتي العمانية أستعيد ذكريات هذهالجولة عبر 3 سنوات حالما أن تعمل وزارة السياحة والآثار في الأردن الجميل علىإدراج صمد ضمن البرامج الملحة بإعادة ترميمها وتحويلها إلى قبلة للزائرين على هذهالقمة التي ترتفع 1030 م عن سطح البحر، مستمتعا بالقهوة وشدو فيروز: “مافي حدا لا تندهي ما في حدا، عتم وطريق وطير طاير عالهدا، بابُن مسكّر والعشب غطّىالدراج، شو قولكن؟ شو قولكن صاروا صدى؟”، فأهمس: صباح الخير يا وطني.. صباحكمأجمل.
“عمَّان1/1/2020”
www.facebook.com/ziadjayyosi/notes
www.facebook.com/ziadjayyosi/photos_albums