ما فاجأني ولا أثار استغرابي رد فعل رئيس اقليم كردستان مسعود بارزاني على ما كتبته في “شناشيل” أمس. بل لا أتردد في الزعم بانني كنت أتوقعه تماماً مثلما كنت أتوقع الا يكون له أي علم بشريط الفيديو الذي يتضمن أغنية تمتدحه وتشيد بمناقبه أنتجتها مجموعة كردية لبنانية.
والواقع انني تعمدت الكتابة عن هذا الشريط لكي يصل ما أريد قوله الى السيد بارزاني مباشرة. ولم أكن أعنيه هو شخصياً بالكلام بقدر ما عنيت الذين من حوله ممن خشيت انهم عرفوا بأمر الشريط ولم يتحركوا لوقف تداوله لأنه موضوعياً يسيء الى زعيمهم، وهو أساء بالفعل لأن البعض استغلوه ليتبادلوا عبر المواقع الالكترونية وحسابات مواقع التواصل الاجتماعي التعليقات بان الشريط هو من مظاهر “دكتاتورية” بارزاني.
السيد بارزاني اتصل أمس شاكراً الكتابة في هذا الموضوع ومؤكداً انه لم يعرف بأمره الا من “شناشيل” أمس، وانه وجّه بالسعي لمنع تداول الشريط أو الحدّ من انتشاره ( بالطبع من غير الممكن وقف عرضه عبر الشبكة العنكبوتية التي لا تعرف الحدود والقيود، وهذه فضيلة كبيرة لها، فهذا الاختراع الفذّ حوّل العالم الى دربونة صغيرة وجعله شفافاً للغاية بما يشبه الزجاج الذي جاء أبدع وصف لرقته وصفائه في البيتين المنسوبين مرة لأبي نواس وتارة للصاحب بن عباد:
رقّ الزجاجُ وراقتِ الخمرُ
وتشابها فتشاكلَ الأمرُ
فكأنما خمرٌ ولا قدحٌ
وكأنما قدحٌ ولا خمرُ).
لي تجربة سابقة مماثلة مع الرئيس بارزاني، ففي خريف العام 1999 اقترح عليّ الصديق هوشيار زيباري في لندن زيارة إقليم كردستان وحضور افتتاح المؤتمر الثاني عشر للحزب الديمقراطي الكردستاني. طرحتُ الأمر على رؤسائي في صحيفة “الشرق الأوسط” التي كنت مسؤولاً عن الملف العراقي فيها وترتبت تلك الرحلة الى الإقليم، كما رحلات عديدة سابقة، عبر تركيا (كان السفر الى هناك شاقاً بعض الشئ لكنه ممتع للغاية).
وفي أربيل حيث عقد المؤتمر لاحظت إسرافاً شديداً في نشر صور السيد بارزاني حتى على أبدان السيارات ما تسبب في تلطخ بعض الصور بالأتربة والوحل والماء. وفي فترة الاستراحة رتّب لي زيباري لقاءً مع السيد بارزاني الذي لم أتردد في لفت انتباهه الى ظاهرة الصور. أتذكر جيداً ان سحنته أحمرّت فيما سارع الى الحلف بأغلظ الإيمان بانه لا يرغب في ذلك بل انه يخجل منه. في اليوم التالي لم أر صورة واحدة له في طول أربيل وعرضها.
لا أشك في ان الرئيس بارزاني سيشدد الآن أيضاً التأكيد على عدم نشر صوره ومنع سائر مظاهر التمجيد الشخصي، لكن الأهم من هذه الأوامر أن تنتشر وتترسخ، عبر وسائل الإعلام وداخل التنظيمات الحزبية، ثقافة نبذ التمجيد والتأليه للزعماء السياسيين .. الثقافة التي تمنع الشعراء والكتاب والمغنين والموسيقيين والممثلين والموظفين العموميين والعناصر الحزبية تلقائياً من التزلف والتملق والارتزاق .. الثقافة التي تجعل الزعيم السياسي والموظف العمومي يفكر عن قناعة بان أفضل ما يمجّده ويجلب له الفخر هو العمل الذي ينفع الناس.