ترجمة: جلال الخياط
باحث ومترجم راحل
مازال العراق يجتذب إليه طلاب المعرفة والمتعة من مختلف أقطار المعمورة ولذلك يرجع الاهتمام الذي يبذله الرحالون والدارسون بالسفر إلى العراق والتطوف في أرجائه , إلى أقدم العصور فحتى ما قبل ميلاد السيد المسح بقرون عديدة قام عدد كبير من الأغريق والرومان برحلات إلى العراق ودونوا مشاهداتهم وملاحظاتهم عنه في كتب ضخمة تعد من أوثق المراجع وأغناها عن تاريخ العراق القديم وجده التليد والعابر .
وحين بدأت حركة الانبعاث في أوربا وظهرت الثورة الصناعية في عدد كبير من أقطارها وراحت الأمم الأوربية , نتيجة تلك الثورة , تتطلع إلى الفتح والاستعمار , نشطت حركة السياحة والسواح في الشرق ولا سيما في العراق خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر للميلاد , فقد توارد عليه عدد من الرحالة من مختلف الجنسيات منهم الفرنسي والألماني والإنكليزي والأمريكي .
والمعروف أن جون نيوبري كان أول رحالة انكليزي يهبط أرض الرافدين سنة 1581م ويكتب ما يشاهده عنها . ثم تضاعف عدد الرحالة الإنكليز في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر وكان من أشهرهم جيمس بكنغهام الذي زار العراق في صيف 1816م قادما إليه من حلب في سورية ووضع عن رحلته تلك كتابا ضخما يقع في مجلدين .
ولد جيمس س. بنكغهام سنة 1786م في إنكلترا ونشأ وترعرع فيها ثم أنتقل وهو في عنفوان شبابه إلى الهند ليعمل في دوائر الإدارة الإنكليزية فيها وكان مغرما بالأسفار والرحلات تكاد لا يقر له قرار في مكان واحد وقد تفرغ وهو في الهند لتحرير عدد من الصحف الصادرة باللغة الإنكليزية في الهند ثم اقبل بعد ذلك يجوب الشرق , ولا سيما البلاد الغربية , وينتقل في أطرافه, يتحمل الجوع والعطش ويتعرض للسلب والاحتجاز وهو لا يبالي بذلك كله ويجد فيه لذة لا تعدلها لذة أخرى .
ومما هيأ له سعة الاطلاع على أحوال البلاد التي زارها تعمقه في دراسة تواريخها ووفرة ما كان يحذقه من اللغات الحية كالفرنسية واللاتينية والأسبانية والسريانية والعبرية والعربية بالإضافة إلى الإنكليزية لغته الأصلية .
كانت أولى رحلات بكنغهام في الشرق العربي رحلته إلى مصر التي تلتها رحلته الثانية إلى فلسطين وشرقي الأردن ثم رحلته الثالثة إلى سورية والعراق وقد أصدر كل واحد من هذه الرحلات الثلاث مجلدين كبيرين . كما أصدر سنة 1825م كتابا آخر عنوانه « رحلات بين العشائر العربية « وكان في الوقت ذاته عضوا في عدة جمعيات علمية وأدبية في الهند وبريطانيا .
وأستقر بكنغهام بعد ذلك في إنكلترا وانقطع للكتابة والتأليف وهداه تفكيره المتعمق في الأحوال التي شهدها في الشرق والاضطراب الذي عم أوربا كلها في منتصف القرن التاسع عشر , إلى مجاراة الطوبائيين فيما كانوا يحملون به من أنشاء عالم مثالي تزول فيه أسباب النزاع بين البشر وبواعث الحروب بينهم ويختفي منه الفرق الكبير بين حياة الأقلية التي تستأثر بوسائل الانتاج وموارده الثروة , وحياة الأكثرية التي تكد وتحيا في عذاب وشقاء , عالم يخيم عليه الاخاء والرخاء والتقدم . وفي هذا الموضوع أصدر سنة 1848م , وهي السنة التي سادت الثورات الشعبية فيها أكثر أرجاء أوربا , كتابه الذي تخيل فيه أيجاد مجتمع تعاوني متحرر متآلف .
وكان عنوان الكتاب « الشرور الأهلية والعلاجات العملية لها : مخطط لإقامة بلدة نموذجية «.وقد ظل بكنغهام يبشر بدعوته تلك حتى وفاته سنة 1855م .
تقع رحلة بكنغهام إلى العراق وسوريا , وعنوانها « رحلات فيما بين النهرين « في جزءين كبيرين يضمان نحو ألف وعشرين صفحة ويقع القسم الذي يخص العراق من هذين الجزءين في أكثر من ستمائة صفحة والرحلة محلاة بصور رائعة لكثير من المواضع الشهيرة لعلها من رسم المؤلف ذاته وهي تعكس جانبا هاما من جوانب المجتمع العراقي آنذاك وتصور نمط حياته .
وقد بدأ بكنغهام رحلته تلك من مدينة حلب في السابع والعشرين من أيار سنة 1816م وبعد أن عبر الحدود السورية في نقطة « البير « توجه إلى « اورفه « التي تقع الآن داخل الأراضي التركية فأمضى فيها زهاء سبعة أيام ثم غادرها إلى مادرين ومنها إلى ديار بكر التي مكث فيها ثلاثة أيام أنتقل بعدها إلى نصيبين ومنها دخل الحدود العراقية عبر سهل سنجار حيث وصل مدينة الموصل في الخامس من شهر تموز .
وحين استأنف بكنغهام رحلته من الموصل لم يأخذ نهر دجلة ولا الطريق البري المحاذي له وإنما أتخذ بدلا عن ذلك طريق الموصل , أربيل , كركوك , بغداد . وقد كانت مدينة الحلة منتهى رحلته .
ولقد أنفق في الموصل بضعة أيام اطلع خلالها على كل معالم المدينة و آثارها فوصف أسواقها ومساجدها وكنائسها وحماماتها وآثار نينوى القريبة منها وصفا دقيقا مسهبا , كما أفاض في الحديث عن أحدى المرات التي حضر فيها مجلسا .
وفي طريقه من الموصل إلى بغداد وصف الأماكن التي مر بها بشيء من الإسهاب من أمثال أربيل وكركوك وطوزخرماتو وهبهب ودلي عباس وغيرها .وصل بكنغهام بغداد في العشرين من تموز فنزل ضيفا فيها على المقيم البريطاني المستر كلوديوس ريج , وهو رحالة شهير أيضا طاف ووصف مشاهداته عنه في جزءين كبيرين بالإضافة إلى كتاب مستق وضعه عن أطلال بابل . ولقد مكث في بغداد حوالي أربعين يوما قام خلالها بالتنقل في جميع أرجائها وضواحيها وأطلع على الأحوال العامة فيها ولم يترك مظهرا من مظاهر حياتها الا وأسهب في التحدث عنه مدونا ملاحظاته عن أوضاع السكان وطرائق معيشتهم وانطباعاته عن الكثيرين منهم وعن الحوادث التي جرى ذكرها أمامه . ومع أنه لم يسمح له بدخول المراقد المقدسة كالكاظمية وأبي حنيفة والكيلاني وغيرها الا أنه لم يغفل ملاحظاته عما شاهده من ظواهر تلك الأضرحة .
يتركز اهتمام بكنغهام في رحلته هذه في ثلاث نقاط اولها اهتمامه الشديد بوصف هيئات الناس الذين شاهدهم في مختلف المناطق التي مر بها وتحليل أخلاقهم وأوضاعهم وتباين أذواقهم في المأكل والمشرب والملبس والمسكن وفي السحنة والشكل ولاسيما أشكال الوجوه والعيون والشعور وألوانها , وهو في هذا الميدان فارس لا يباري بما عرف عنه من دقة الملاحظة وصدق الوصف وحسن التقدير وتلك صفة قلما تتوفر في الكثيرين من السواح , كما أنها تضفي على مشاهداته شيئا من الأمانة وعدم الغلو . فسرده لكثير من الحوادث التي تدلل على اختلال النظام وفقدان الأمن في كثير من مناطق العراق في الأرياف والمدن كانا من الأمور المألوفة في ذلك العهد ولهذا فإن ما ذكره من تعرض القوافل والمسافرين لحوادث السلب كان من الأمور الشائعة فعلا في بلاد الشرق وأن كانت تثير دهشة أولئك الذين لم يجروبها .
والنقطة الثانية هي هذا التعمق في دراسة الآثار التي شاهدها في أطلال المدن التاريخية القديمة التي زارها ولاسيما بابل ونينوى وعقرقوف فهو في بحوثه واستطلاعاته عن هذه الأطلال يمكن أن يعتبر من علماء العاديات وأن لم يكن العلم باللغة الأشورية والبابلية والسومرية شائعا في أيامه بالصفة التي نعرفها اليوم .
لقد كان في زيارته لهذه الأطلال يستطلع أشكال الأبنية التي كانت قائمة فيها عن طريق قياسات أجراها للتلول المؤلفة من الأنقاض وفحص المواد التي شيدت منها تلك الأبنية ثم الإتيان بكل ما وقعت عليه يده من الشواهد التاريخية عنها ولاسيما كتب الرومان والاثاريين الذين سبقوه في مشاهدة تلك تلك الآثار ووصفها .
فقد خصص صفحات في رحلته لوصف آثار بابل مضمنا إياه الكثير من كتبه السابقون له في هذا الموضوع ولم يكتف بذلك وحده بل عمد إلى أجراء مقارنة بين تلك الكتابات وتحديد ماهو أقرب إلى الصحة منها . ومثله هذا فعل بحثه عن أطلال نينوى وآثار عقرقوف وبعض الأماكن التاريخية في بغداد من أمثال جامع الخليفة وخان الأورتمه وقبر الست زبيدة وغيرها وتدور النقطة الثالثة من النقاط التي أهتم بها بكنغهام حل تحقيق بعض الأحداث التاريخية القديمة في العراق فقد أجرى تصويبات فيما يتعلق بمعركة اربيل التي وقعت بين دارا ملك الفرس والأسكندر المقدوني اليوناني سنة 331 قبل الميلاد والتي انتهت بهزيمة دارا وانفتاح العراق أمام الأسكندر و اجتياحه إمبراطورية فارس وبلوغه الهند حتى أصبح آنذاك سيد العالم ولم يكن عمره ليتجاوز ثلاثين سنة .
وكذلك أجرى نفس التصويبات عن معركة سنجار بين الإمبراطور الروماني تراجان والجيوش الفارسية وكيفية محاصرة « الحضر « عاصمة المملكة العربية الكبرى التي قامت هناك في القرن الرابع للميلاد .
ولم يقتصر بكنغهام على تدوين مشاهداته وملاحظاته حسب وإنما أقتبس ما يؤيد تلك المشاهدات من كتب الرحالين الذين زاروا العراق قبله عن القدامى منهم من أمثال هيرودوتس وسترابو وسيلاريوس وبنيامين التطيلي واوتر الفرنسي ودانفيل واوليفسيه وكلوديوس ريج وراوولف الألماني والميجر رنل وغيرهم بالإضافة إلى مدونات بعض المؤرخين العرب .
لقد عكفت منذ زمن على ترجمة رحلة بكنغهام هذه وقد انتهيت منها ولم يبق أمامي الأ تدوين الشروح والتعليقات الضرورية لبعض الأماكن والشواهد التاريخية وستجد طريقها للطبع في فرصة قريبة أن شاء الله .
مجلة بغداد 1964