علي الوردي: ‘سألنى أمريكى عن علي وعمر، هل يتنافسان الآن على الرئاسة عندكم، كما يتنافس عندنا ترومين وديوى؟ فقلت لا، بل كانا قبل 1300 سنة والنزاع الآن حول أيهما أحقّ بالخلافة، فضحك وضحكت’.

ميدل ايست أونلاين

قلم: نبيل الحيدري

لم ينتقد الدين إنما فضح موظفيه ومستغليه

ولد علي الوردي في الكاظمية ببغداد العام 1913 ونشأ وترعرع فيها، وكان مولعا منذ صباه بقراءة الكتب والمجلات. وفي العام 1943 نتيجة تفوقه حصل على بعثة إلى بيروت للدراسة في الجامعة الأميركية. كما حصل بعدها على شهادة الماجستير، وكذلك الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة تكساس الأمريكية فى بعثة لتفوقه الدراسى أيضا. وبعد عودته إلى العراق عمل في قسم الاجتماع في جامعة بغداد حتى تقاعده. ألّف مجموعة من الكتب ومن أهمها “وعاظ السلاطين” لأنه أثار جدلا كبيراً، وألِّفَتْ ضدَّه فى العام نفسه خمسة كتب، وكُتبت عشرات المقالات، كتابها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.

جاء في الكتاب المذكور نقده اللاذع للأسلوب الوعظي، الذي يتبعه رجال الدين والوعاظ فى خطاب كلاسيكى إفلاطونى قديم لا يناسب الواقع ولا الحياة، فقد اعتبره رجوعا إلى الوراء إلى القرن العاشر، أى قبل قرون سحيقة. كما حمل بشدة على أسلوب الخطابة والحماسة الكلاسيكي العاطفى الذي يمجد الذات وعلو شأنها دون النظر إلى سلبياتها وهوانها، فهنالك ذاتيات فى النفس ولن يكون مجرد الوعظ الحماسى وسيلة كافية لزوال الذاتيات، فهذا محال لم يتحقق قديما ولن يتحقق لاحقا، فكل شخص يحب ذاته والذاتى لا يتخلى عن ذاتياته بالوعظ.

نقد الخطباء ووعاظ السلاطين بشدة فى كونهم مع الظالمين وضد الفقراء والمساكين؛ ثم يشرح أسباب ذلك فى مصادرهم المالية من المترفين والحكام والظالمين. يقول الوردى: “ويبدو لى أنّ هذا هو دأب الواعظين عندنا، فهم يتركون الطغاة والمترفين يفعلون ما يشاؤون ويصبّون جلّ اهتماماتهم على الفقراء من الناس فيبحثون عن زلاتهم، وينغصون عليهم عيشهم وينذرون بالويل والثبور فى الدنيا والآخرة. وسبب هذا الوعظ فى التحيز في ما اعتقده راجع إلى أن الواعظين كانوا ولا يزالون يعيشون على فضلات موائد الأغنياء والطغاة. فكانت معايشهم متوقفة على رضى أولياء أمره وتراهم لذلك يغضّون الطرف عما يقوم به هؤلاء من التعسف والنهب والترف ثم يدعون لهم فوق ذلك بطول العمر”.

يعتبر الوردي دور الوعاظ هو تخدير الناس واستغلالهم، وهكذا كان استغلال الحكام للوعاظ ونسيان الناس للظلم الكبير فيتحول إلى ظلم بعضهم بعضاً. فيقول: “ويخيل إلى أن الطغاة وجدوا فى الواعظين خير عون لهم على إلهاء رعاياهم وتخديرهم؛ فقد انشغل الناس بوعظ بعضهم بعضا فنسوا بذلك ما حلّ بهم على أيدى الطغاة من ظلم”. وعندها حدّد الوردى دور الوعاظ بالتخدير والإلهاء

لم ينقد الوردى الدين بل اعتبر الأنبياء ثواراً ضد التقاليد من أجل التقدم والفقراء والعدالة الاجتماعية؛ قال: “كان النبى ثائراً مجدداً يدعو إلى التقدم الاجتماعى فى أقصى معانيه، وهو لا يريد الركود لأمته لأن الدين لا يستقيم مع الجمود”. لكنه نقد الوعاظ والخطباء، وكان يجول فى المساجد والحسينيات ويسمع خطاباتهم النارية الحماسية فيسجلها وينقدها.

لذلك ثار عليه رجال الدين والوعاظ واعتبروه زنديقا كافرا ومنهم مرتضى العسكرى “أحد قياديى حزب الدعوة والذى هاجم أيضا على شريعتى وغيره من المتنورين”. فقد ألّف كتاباً ضد الوردى أسماه “مع الدكتور على الوردى”، وفيه يناقش قضية الجنس التى أثارها الوردى كظاهرة اجتماعية فى المجتمعات الدينية. يقول العسكرى: “أن الانحراف الجنسى قد انتشر فى الإسلام من جراء سببين لاثالث لهما أولا الأمراء والخلفاء حيث جرهم الترف فى الشهوة الجنسية إلى البحث وراء متعة جديدة صعبة المنال، فوجدها باللواط فى الغلمان. ثانيا الأديرة المسيحية حيث انقلبت فى العهد العباسى إلى حانات ومواخير للغلمان وذلك فى سبيل إفساد المجتمع الإسلامى وإضعاف أمره إزاء الدول المسيحية التى تربصت به الدوائر آنذاك”.

أجابه الوردى فى كتابه “مهزلة العقل البشرى” من جوانب كثيرة فهى ظاهرة اجتماعية ينبغى دراستها، وعدم الخلط بين السبب والنتيجة؟ قال: “وليس من قصدنا هنا الدفاع عن أمراء المسلمين أو أديرة المسيحيين إنما نود القول أن الانحراف الجنسى لا ينتشر بين الناس بتأثير أمير أو دير فهو ظاهرة اجتماعية عامة، وربما كان لواط الأمير وانحراف الدير من نتائج هذه الظاهرة لا من أسبابها. ومن العيوب المنطقية التى تعترى تفكير إخواننا أنهم كثيرا ما يجعلون العربة أمام الحصان وليس العكس أى يعدون السبب نتيجة والنتيجة سببا”.

نقد الوردى رجالَ الدين ووعاظ السلاطين وحبهم للدنيا، وتناقض أفعالهم مع أقوالهم واستغلالهم الدين لمصالحهم وتعاملهم مع الحكومات فضلا عن تقسيمهم الطبقى للمجتمع والارستقراطية الدينية. كسر الوردي في نقد وعاظ السلاطين المحرم وتجاوز الممنوع، في مجتمع ديني تقليدي ما يزال يرزح تحت وطأة الاستغلال والقمع، واستغلال الدين كحكم الكنيسة فى الغرب في العصور الوسطى، وبذلك فتح باب النقد الديني على مصراعيه، عندها شعر مستغلو الدين بالخطر على مصالحهم ودنياهم من هذا الوعى الناقد.

كان الوردى علمانياً يؤمن بالدولة المدنية الحديثة، وفصل الدين عن الدولة، ويدعو إلى الديمقراطية، وكان يرى أن الأمة تستغرق فى خلافات ماضية لا ثمرة لها فيها.

قال: “كنت فى أمريكا ونشب نزاع عنيف بين المسلمين عن علي وعمر، وكانت الأعصاب متشنجة والضغائن منبوشة، فسألنى الأميركى عن علي وعمر، هل يتنافسان الآن على الرئاسة عندكم، كما يتنافس عندنا ترومين وديوى؟ فقلت لا، بل كانا قبل 1300 سنة والنزاع الآن حول أيهما أحقّ بالخلافة، فضحك الأمريكى من هذا الجواب كثيراً حتى كاد يستلقى على قفاه، وضحكت معه كذلك كثيراً، ولكنه ضحك مشوب بالحزن والبكاء على حالنا”. وحق لنا أن نضحك معهما ضحكاً مليئا بالعَبرة والأحزان على واقعنا المعاصر. فما أحوجنا اليوم إلى علي الوردي في “وعاظ السلاطين”.