من أيام زمان

جدي

من أجمل أيام حياتي هي تلك السنوات التي قضيتها في بيت جدي وجدتي في طفولتي. كنت أنام ليلا في غرفة جدتي وعمتي، وكان سريري بجانب سرير جدتي التي كانت تحفظني سور القرآن كل يوم قبل منامي. وفي الصباح، أفيق على صوت الراديو من غرفة جدي حيث تنطلق دقات الساعة معلنة موعد نشرة الأخبار. كان جدي ينام في جانب من غرفة المطبخ الكبيرة، وإلى جانب سريره كرسي يضع عليه الراديو وبعض كتبه. وبجانب الكرسي طاولة يضع عليها مجموعة أخرى من كتبه ويجلس إليها حين يكتب في دفاتره. وكانت له مكتبة كبيرة تمتلئ بالكتب والمجلات في غرفة الضيوف الصغيرة التي في الطرف الآخر من البيت، وكان ممنوعا علينا نحن الصغار الدخول إليها دون سبب.
كان جدي مولعا بقراءة الكتب منذ الصغر. تعلم في مدرسة القرية الى الصف الرابع، ولكن شغفه بالكتب دفعه الى الإكثار من القراءة والمطالعة حتى بات مثقفا من مثقفي القرية وشغل منصب إمام القرية. وكانت لديه في مكتبته كتب كثيرة من كل الأنواع: كتب دينية، ثقافية، سياسية، أدبية، مجلات فنية، قصص وروايات، كتب للأطفال… وكلما ذهب الى مدينة الناصرة* عاد منها بكتاب جديد. وتقول عمتي إنه كان يخبّئ المال أحيانا بين صفحات كتبه كي يتسنى له شراء المزيد من الكتب حين ذهابه الى الناصرة، وعندما كبر في السن وبات ينسى كثيرا، وجدوا المال صدفة بين كتبه!
وعندما كبرت، بدأت أهتمّ بكتبه، ففرح بذلك وأخذ يشجعني على القراءة ويختار لي ما يناسبني من كتبه. وكنت أقرأها ولا أفهمها كثيرا، إذ لم تكن لغتي العربية قوية آنذاك ولكن كتبه ساعدتني على تحسين لغتي العربية.
كان جدي إنسانا تشع من نفسه الطيبة، مفعما بالرقة، مسكونا بالرضا والسلام الداخلي، وكان له وجه بشوش، مشرق بابتسامة يرتاح لها الوجدان، لم تفارق ملامحه حتى في كبره. وفي ذات الوقت، كان واثقا من نفسه، صارما بمواقفه ومعتدلا بأحكامه. وكان يحبّ الأطفال كثيرا، يغني لهم في كل مرة يراهم فيها أغانٍ بلغتنا الشركسية وأناشيد دينية، يلاعبهم ويمازحهم بحب كبير.
وكل صباح، كان جدي يشوي قطع الخبز في الفرن، وأحيانا إن وجدت، يضع فيها الجبنة الصفراء، ثم يفتح باب الغرفة التي أنام فيها ويقول: “حوا، ألم تستيقظي بعد؟ ألا تريدين أكل الخبر المشوي؟”
وكنت أفرح كثيرا وأنا آكله من تحت يده وأشرب معه الشاي، وأفرح أكثر بوجود الجبنة الصفراء، ولكنها نادرا ما كانت متواجدة. ولم أكن أنا الوحيدة التي تأكل من تحت يدي جدي، بل أول من يأكل الفطور من تحت يديه كانت القطط!
كان جدي يمنع أفراد البيت من رمي شيء من الأكل، ويوصيهم بجمع الأكل المتبقي كي يقدمه للقطط في الصباح وفي المساء. وكانت للقطط زاوية خاصة بها للأكل في الطرف البعيد من حديقة البيت، وإن لم يجد جدي طعاما متبقيا في البيت كان يضع لها الحليب في صحن خاص مع قطع الخبز. وكانت قطط بيتنا، وقطط الحارة كلها، وقطط الحارات المجاورة، كبارا وصغارا، تنتظره بلهفة كل صباح ومساء في نفس الموعد، فتأكل بنَهم ما يقدم لها جدي، تتقاتل وتتشاجر، حتى تفرغ من الأكل فتغادر القطط الغريبة التي من الحارات الأخرى الى بيوتها وحاراتها وشوارعها ولا تعود إلى حديقة بيتنا إلا لعبور السبيل إلى موعد الطعام التالي.
وكانت جدتي وعمتي وأمي وعماتي الأخريات يتضايقن جدا من كثرة القطط في حديقة البيت، حيث كانت توسخ الحديقة والشرفة ودرجات البيت، تتقاتل وتسمع أصواتا مزعجة، تتكاثر، تمرض، تموت… وينزعجن أكثر من زاوية الأكل الموسخة التي كان لزاما عليهن تنظيفها كل يوم.
بعد سنوات طويلة… لم يعد جدي قادرا على إطعامها أكثر من ذلك. فاختفت القطط من حديقة البيت، وفرحت جدتي وعمتي لاختفائها وعودة النظافة إلى الحديقة. فارق جدي الحياة ولم تفارق صورته الطيبة تفكيري ولا ابتسامته غابت عن ذهني الى هذا اليوم.

(كفر كما/ فلسطين)
……………………………..

* الناصرة- أكبر وأهم مدينة عربية فلسطينية في الجليل، تقع في لواء الشمال الإسرائيلي ولا تبعد عن قريتنا كثيرا.