مازن لطيف 03/09/2009

مضى على تسفير يهود العراق مكرهين ستة عقود، وثمة القليلين ممن مكث من الأجيال القديمة يتذكر ويذكر بلونهم الذي زهى به الطيف العراقي، وأنتج  في حينها ثقافة وصحافة، هي الأرقى في تأريخ العراق منذ بداية أزمنة الدعة الحضارية قبل سبعة قرون خلت.

وكم نتاسف على الأجيال الصاعدة  جهلها بسيرتهم وسمات إندماجهم العضوي داخل البدن العراقي. وما زال الخطاب العام بالثقافة العراقية متشنج  بصددهم ، بعد أن أسترسل من ماض قومي أو طائفي ،أوغل في مسخ الهوية الثقافية والذاتية العراقية. لقد صور هؤلاء عاثري الحظ وكأنهم طابور  خامس داخل العراق ثم  إسرائيليين محتلين لفلسطين بعد حين، في الحين الذي لم يشكلوا يوما أي ضلع من مضلع المؤامرة ، ولم يكونوا يوما سببا في   تأسيس إسرائيل عام 1947.إن إسرائيل كانت صنيعة لمؤامرة عالمية سفه بها المسلمين والعرب، وأن تسفير يهود العراق جاء بتآمر بين نوري السعيد رجل الأنكليز في العراق، وبين الحركة الصهيونية. وأن الحقيقة الدامغة تشير الى أن هؤلاء مغروسين في الأرض العراقية منذ 2600 عام، ولم ياتوها محتلين ، بل سبايا مبعدين، فاحبوا بابل والنهرين واخلصو لها،وأمسوا صلب العراق دون مزايدة، أو مصادرة لحق محتل أو طامع .

لم يعرف الكثيرون أن يهود بغداد كانوا يشكلون نصف سكانها بعد فيضان وطاعون داود باشا عام 1831، وكانوا في بداية القرن العشرين يكونون صلب الحياة الإقتصادية والثقافية العراقية.وان إحياء الدولة العراقية الحديثة عام 1921 كان لليهود أثر عميق فيه  ، ويعلم الجميع أن ساسون حسقيل وزير المالية في حينها سلف الدولة ودفع من ماله مرتبات الموظفين.ولم يجد الملك فيصل الأول سكنا له في بلد خرب متهالك تركه الأتراك ، فما كان من بد إلا أستضافه (شعشوع) اليهودي في (قصره) .

من منا يغفل أسم عائلة (دنكور)، التي أضطلعت بتجارة الورق والطباعة. ومن منا  يتغافل مساهمة يهود العراق في الحركة السياسية في النصف الأول من القرن العشرين، وليراجع أسماء الرعيل الاول من المتنورين السياسيين ،ولاسيما اليسار العراقي من جراء وسع أفقه ،والإطلاع على ما شاع في الدنيا حينئذ ليبثه ضوءا  في ظلمة وعزلة العراقيين وتهميشهم السلطاني.

الحال عينه ينطبق على الثقافة  عموما وجسدها وهيئتها  الصحافة.فقد لعبت الصحافة اليهودية العراقية  دورا مهما في حراك المجتمع نحو الإرتقاء والإنعتاق،  وشملت صحفيين على درجة عالية من الحرفية ، ممن امتهن الصحافة  أو أصدر  الصحف أوعمل في صحف عراقية كمترجمين ومصححين لغويين للعربية التي كانت تعاني من الركاكة والهزال ،بسبب الأرث العثماني الثقيل، أو كانوا مراسلين في المدن، إذا علمنا أن ثمة تجمعات لليهود كانت تشكل عصب المدائن العراقية.

سامراء مثلا كان ربع سكانها من اليهود ومازال حي اليهود يقبع غرب الروضة العسكرية المطهرة،و يحتفظ بآثارهم وحتى كنيسهم (توراتهم ) وكتاباتهم.وأن أول مدرسة نظامية عصرية أنشأت في العمارة عام 1909 وأسمها (الإليانس) وتعني الإتحاد ، كان قد أنشاها يهود العمارة لعامة العمارتلية.وأن الطبيب(داود كباي- ويسمى لدى العامة  كبايه)كان أشهر من عالج الناس في العمارة بالمجان حتى العام 1964. لقد ليسن العمارتليات باب داره بالحناء عرفانا بفضله، ومسجيات بحسن الفطرة والقبول بالآخر، كما كان يفعلن على أبواب الأولياء والأئمة.

لقد كان الصحفيون اليهود يدبجون الافتتاحيات بتوقيع مستعار كي لا يثيروا لغطا أوحساسية، او نسبوه الى محرر ما ، لكنه كان مترتع بالهم العراقي وعاكس لعقلية ناضجة. وساهمت الصحافة اليهودية في أبراز الجانب الثقافي والاجتماعي ليهود العراق منذ صدور أول صحيفة ( هادوبير) عام 1863 ،أي ستة أعوام قبل ظهور جريدة (زوراء) على يد مدحت باشا عام 1869 والذي نحتفي بمائة وأربعين عاما على مروره هذه الأيام. و ترأس تحرير الصحف اسماء يهودية لمعت في الذاكرة العراقية حتى  توقف ذلك الدفق في ثلاثينيات القرن العشرين لأسباب تتعلق بالتوترات في الوضع العالمي والتي تصاعدت منذ أزمة (1929-1933) ومن جراء الدعاية القومية ضد اليهود التي كان يقودها الطابور النازي الذي تناغم من التيار العروبي الأول في العراق ،وتوج بحركة مايس 1941 على يد رشيد عالي الكيلاني.  

و  لعبت الصحافة والصحفيين اليهود دورا في توعية الجماهير العراقية على خلفية أن  روادها كانوا  يتقنون لغات  ومطلعين على التيارات الفكرية  في أوربا ، وحاولوا حسب قول د. سامي موريه  ان يحدثوا انقلابا ثقافيا في آسن الموروث من الحقبة العثمانية، وأن يصلحوا أحوال المجتمع العراقي ويفهموا بوعي عاداته وأخلاقه وتقاليده ،وحذروا من  الضار منها ، لكي يتبوأ العراق مكانته اللائقة به كدولة مستقلة ذات مستوى ثقافي لايقل عن  مصر مثلا، التي أثمرت برعيل الرواد  من جراء مشروع محمد علي التنويري ، بل  وكان لهم تطلع لوطأ المستوى الحضاري في  دول أوربا، ولم يكن ذلك حينئذ ببعيد المنال البتة.

لقد خسر العراق بتهجير هذا الرعيل المثقف والواعد  في منتصف القرن العشرين الكثير من الكفاءات المهنية ،من ضمن رهط من المؤهلين  ممن سير بإقتدار زمام اقتصاد الدولة العراقية الوليدة.والأهم من كل ذلك أنه  خسر ميزان ودالة إجتماعية للنزاهة والإخلاص في العمل ،وربما كان هذا سببا كافيا أن يشيع الخراب وإستئثار وإستهتار الساسة بالسلطة منذئذ، وعبثا رام الزعيم عبدالكريم قاسم أن يعيد النصاب، فقد سبق السيف العدل. 

 كانت الصحف اليهودية العراقية في بداية تأسيس الدولة العراقية   قد نادت بالممارسة الديمقراطية والمساواة بين الاديان ، وحرية المرأة ،والتكافل الإجتماعي ومهام السلطة وحدودها ،وربما كان هذا وراء إشاعتهم في إسرائيل بعد ذلك حسا حضاريا وتسنى لهم تأسيس دولة ديمقراطية ، يلهث العرب اليوم باللحاق بها دون طائل، وكرسوا مراكز بحوث وجامعات  وصحافة وفكر سياسي ، على خلاف القادمين من المغرب واليمن وليبيا، من أقرانهم اليهود الشرقيين (السفرديم)، وكانوا حتى أرقى من يهود أوربا الشرقية بدرجات.

وجدير أن نجرد  اهم الصحف اليهودية التي صدرت في العراق وهي :

1.   “هادوبير” تعد أول صحيفة يهودية صدرت في العراق  باللغة العبرية عام 1863

2.  “هامجيد” صدرت عام 1864 باللغة العبرية قام بإصدراها يهود العراق.

3.  “الزهور”وهي جريدة سياسية صدرت عام 1909 أسسها نسيم يوسف سوميخ وهو من الصحفيين المبدعين وتعد من اولى الصحف اليهودية التي صدرت  باللغة العربية .

4. بين النهرين صحيفة حررها اسحق حسقيل ومناحيم عاني نهاية عام 1909

5.”تفكر” صدرعددها الأول في بغداد في 21 شباط  1912 اصدرها سلمان عنبرباللغتين العربية والتركية .

6.  ” يشورون” صدرت باللغتين العربية والعبرية  اصدرها  كل من : صيون أدرعي، يعقوب صيون، الياهو ناحوم عام 1920 وكانت تتألف من 16 صفحة بحجم صغير ، صدرت في نصفين نصف باللغة العربية ونصف باللغة العبرية  ، صدرت خمسة أعداد  فقط وتوقفت عن الصدور بسبب مقتل ضابط الشرطة اليهودي سلمان حيا .

7. ” المصباح” اصدرها سلمان شينة (1924_1929) وهي جريدة اسبوعية  (أدبية أجتماعية )  صدرت  في بغداد  استمرت في الصدور بشكل متقطع ، توقفت عن الصدور  في 6 حزيران 1929 حيث قررت وزارة الداخلية  غلقها بسبب المقال المنشور في العدد 127 الذي احدث ضجة بين أفراد الطائفة اليهودية.   وكانت تركز على اهمية تعليم اللغة العبرية باعتبارها لغة الملك داود والنبي سليمان.

8. ” الحاصد” اصدرها المحامي والأديب أنور شاؤل (1927_1938) وهي مجلة  اسبوعية صدر عددها الأول يوم الخميس 14/2/1929 وانتظمت في صدورها  لكنها أغلقت بعد فترة وعاودت الصدور في 7/7/1930 .

 نشرت الحاصد العديد من المواضيع الثقافية والادبية لكتاب مشهورين منهم : بلزاك، هيجو ، جورجي، دوديه، أناتول فرانس وغيرهم .  وقد ترجم المقالات كل من انور شاؤل وشاؤل حداد ونعيم طويق.

9. ” البرهان” صدرت  هذه الجريدة  عام 1928 وكان صابحبها سلمان كوهين  ومديرها المسؤول فائق القشطيني، صدرت بحجم نصفي وتوقفت عن الصدور  نهائياً  عام 1929 اي بعد عام واحد فقط.

10. ” النشرة الأقتصاية” اصدرها في بغداد عبد الله نسيم حاي وهي جريدة تهتم بنشر الاعلانات.

11.  ” الدليل” جريدة اسبوعية  اقتصاية  أدبية  ، توزع مجاناً  ومديرها المسؤول س. اسحق صدرت عام 1929 عدد صفحاتها 8

12. ” سباق حاسين”  صدرت في بغداد عام 1926 واصدرها يعقوب حاسين باللغة الانكليزية وكانت تختص بالرياضة وخاصة نتائج سباق الخيل في وقتها .

13. ” دليل العائلة” اصدرها يوسف حوكي في البصرة عام 1928 وهي خاصة بالقضايا الدينية.

وفي السياق الإصطلاحي جدير أن نشير الى أن كلمة (مجلة) التي نتداولها في العربية اليوم ،هي واردة في الأصل من اللغة العبرية. حيث كان اليهود يكتبون التوراة والتلمود على جلود مدبوغة تخاط مع بعضها حتى تصبح طومار ، طوله يصل أكثر من 20متر، بحسب حجم النص المدون من الأسفار ، بعواميد أو حقول مثلما هي الصحف. وكان الطومار يلف على عصاتين، وتتم القراءة من خلال تدوير العصا ، ليلف النص المقروء على العصى الأخرى،لهذا دعي الكتاب في العبرية مكلة( megilleh) ،وتعني الملفوف أو المدرج أو الدرج أو (المجلة).

لقد عمل العديد من الصحفين العراقيين اليهود في الصحف العراقية بأخلاقيتهم المهنية وبحرصهم المثالي ، ويمكن أن نذكر  منهم  : منشي زعرور الذي ابتدأ حياته منضد حروف  ثم اصبح صحفيا معروفا  وقد اعتبره مير بصري ” جندي مجهول” في الصحافة العراقية تولى زعرور  تحرير جريدة ” العراق” التي كان يرأس تحريرها  رزوق غنام ، وجريدة ” البلاد” لرفائيل بطي.. وعمل  كل من مراد العماري ونعيم قطان في تحرير جريدة الأهالي التي كان يرأسها كامل الجادرجي .. وعمل  سليم البصون في العديد من الصحف العراقية منها : الشهاب، الشعب، الأخبار  وغيرها.. وتولى المرحوم مير بصري ادارة مجلة ” غرفة تجارة بغداد ( 1938_1945)  ثم اعقبه يعقوب بلبول(1945_ 1951).

وللحديث عن الأثر العراقي اليهودي شجون، فقد أخترق كل جوانب الحياة، ويحتاج الى من يعتني بجمعه، وحري بالثقافة العراقية أن تلتفت لهم. وبالنتيجة نروم دحض دعاوى العداونية في ذكر هؤلاء الذين ظلموا أكثر من مرة،  وأن ندعوهم للإلتحاق بوطنهم، وهو بالمحصلة يفتت إسرائيل من الداخل التي تراهن على (الديموغرافيا)،ويصب في صالح إستدراك العراق لكنزه الضائع، وما فقده أيام الغفلة، وبالنتيجة يصب في صالح المشروع النهضوي العراقي، الذي سيكون الميزان والفيصل فيه ليس لصفاء دماء او تشدق بأصول أوفصول أو مذهب او عرق أو جهة أو طبفة من الوطن، بل بالإنتماء المخلص للبلد والتفاني من أجل إرساء ثقافته والإنفتاح على الأنساق العالمية ،وهو الرهان القائم  في أفق العراق الجديد.