د.يوسف السعيدي
من البديهيات المعروفة ان المؤرخين هم الذين يشغلون انفسهم بالتاريخ، في تسجيل وقائعه ومناقشة صحتها وكيفية حدوثها، والعلل التي كانت وراء حدوثها، وما ترتب عليها من نتائج ثم ما هي العبر المستخلصة من كل ذلك … ويبلغ انشغال المؤرخين في الماضي حداً ينسيهم الحاضر وما يمور فيه…. فيروى عن العالم الجليل مصطفى جواد، رحمه الله تعالى، والذي كان لغويا ومؤرخاً وآثاريا في الوقت عينه، يروى عنه: ان سئل ذات يوم عن مدير أو صاحب الشرطة في عهد المأمون فكان ان ذكر اسمه حتى جده السابع، وطبيعة شخصيته وطريقة ادارته، ولكن المرحوم مصطفى جواد عندما سئل عن مدير الشرطة العام في العصر الجمهوري ( الزاهر ) فانه قال:
لا اعرفه…
وهكذا فان الماضي يستل الحاضر من المؤرخ في معظم الاحيان…
أما في العراق فان هيمنة التاريخ لا تقتصر على المؤرخين بل هي شاملة لكل الجموع وهي اشد عليها وطاة من هيمنة ( الامبريالية)…
فالناس يختلفون حول وقائع التاريخ.
ويختلفون حول اسبابها…
ويختلفون حول النتائج التي ترتبت عليها…
ويملأون الصحائف والمقاهي والندوات واللقاءات العامة والشخصية جدلاً حول ذلك كله…
كل له تفسيره.. ويشكل المتعصبون لوجهة نظر معينة فئات اجتماعية تتمترس حول التاريخ….
بل ان الامر قد وصل بنا الى الحد الذي أصبحنا فيه نقاتل بعضنا حول ما حدث قبل اربعة عشر قرن من الزمان، وتسيل الدماء مدراراً….. فنحن نناقش من كان احق بالخلافة الأمين أم المأمون ولم نناقش من احق بالوزارة بعد ان ييأس المسؤول الاول في الدولة لا سمح الله وعلى تعبير الملا عبود الكرخي رحمه الله
يا هو الزعيم وحقّلي لورنس لو شوكت علي؟
كما ان بعض احزابنا العتيدة تتمحور في عقائدها، ومناهجها، وبناها التنظيمية، حول التاريخ، وتستمد منه، وليس من الحاضر، مبررات وجودها، وما يميزها عن غيرها، بل انها لا تختار من الاسماء احياناً الا ما كان معتقاً في اقبية التاريخ.
اما الحاضر فيبدو اننا في غنى عنه، فلا يهمنا كم ميغاوت من الكهرباء يحتاج العراق، ولا كم سرير للعلاج، أو رحلة للدراسة، ولا كم كيلو متر من الطرق والسكك الحديدية علينا ان ننشيء، ولا كيف نربي اجيالنا على التلاؤم مع العصر ومعطياته، ولا كيف نردم الفجوة التي تتسع ساعة بعد ساعة بيننا وبين عصر ما بعد الصناعة وهو العصر الذي اسماه ( برجنسكي) قبل سنين العصر التكنوتروني، أي العصر الذي يقوم على تكنولوجيا الالكترونات.
بل ان احزابنا تزيد الفجوة بيننا وبين القرن الحادي والعشرين اتساعاً بنكوصها الى الماضي لتستمد منه مقومات بقائها… نعم ان في التاريخ عبرة لمن يعتبر لكن الغرض من دراسته هو كيف نتجنب اخطاءه… فالتاريخ لا يعيد نفسه واقعا ..لكن الذين لا يقراون التاريخ يرتكبون الاخطاء ذاتها.
ونعم، ايضا، ان التاريخ اساس ولكن الفائدة من الاساس هي ان يبنى عليه لا ان يتوقف العمل عنده ( او عند الوصول الى البتلو على حد تعبير الاسطوات )….
وفي الجانب الاخر هناك بعض الاحزاب والقوى الوطنيه المخلصه كانت مصيبة وشجاعة عندما تجاوزت الماضي وعقده، وتخلصت من أدران الزمن الفائت، واذ استمدت من التاريخ الثقة بقدرة الامة فانها لم تتوقف عند ذلك بل هي تعيش الحاضر بكل ارهاصاته، وتستنبط الحلول لمشاكله، وتعيش هموم الشعب، وتشخص حاجاته، وتسير معه في اماله.
والحق اقول: ان علينا ان نخلص اقدامنا من وحل العقد التاريخية، وان ننفض عنا غبار الازمنة الغابرة، وان نفك قيود الماضي عن معاصمنا، ولا يهم كسرنا القيود ام كسرت ايدينا… فأن نسير نحو المستقبل معوقين خير من نواجهه مكبلين.
فلنفتح شرفات العقل ونوافذ الروح للشمس و رياح العصر والا سنكون مثل اهل الكهف” َتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ “.
غير اننا لم نزدد هدى كما زادهم سبحانه وتعالى ….
الدكتور
يوسف السعيدي