يعد المؤرخ البريطاني المعروف ستيفن همسلي لونغرغ من بين القلائل الذين تخصصوا في الكتابة عن تاريخ العراق الحديث . فقد جاء لونغرغ مع الحملة البريطانية التي احتلت العراق خلال الحرب العالمية الاولى وشغل منصب الحاكم السياسي في

 عدة اماكن في العراق اثناء الاحتلال كما عمل مفتشا اداريا في الحكومة العراقية التي تشكلت بعد قيام الثورة العراقية الكبرى ولم يلبث ان انكب على دراسة تاريخ العراق الحديث فاستطاع بالجهد المتواصل الشهير ( اربعة قرون من تاريخ العراق الحديث ) والذي يعد من المصادر الاساسية لتاريخ العراق في فترة الحكم العثماني ، ذلك الكتاب الذي ينبغي ان تخرج له ترجمة جديدة اكثـر دقة واساس .
  ولقد اعقب المؤرخ لونغرغ كتابه ذاك بكتاب جديد اصدره في سنة 1953 درس فيه اوضاع العراق خلال الفترة من سنة 1900 الى سنة 1950 الذي يعد مكملا حقا لكتاب ( اربعة قرون من تاريخ العراق ) ولقد اوشكنا على الانتهاء من ترجمة هذا الكتاب القيم الذي تناول ، ولو بصفة موجزة اوضاع العراق في اخطر مرحلة من مراحل تاريخه الحديث ونعني بها مرحلة انسلاخه من الامبروطورية العثمانية وقيام حكم وطني فيه أول مرة بعد قرون عديدة من الاستبداد والخضوع للقوى الاجنبية الغريبة عن العنصر العربي بصفة اساسية . 
وهذا الفصل الذي اخترناه من الكتاب يوضح لنا الفوضى التي سادت العراق خلال سنتي 1915 و 1916 نتيجة احتلال القوات الانكليزية اجزاء واسعة من اراضيه الجنوبية والوسط بما في  ذلك مدينة بغداد نفسها وبقاء القوات التركية ممسكة بالاجزاء الشمالية والشمالية الغربية الامر الذي جعل العراق في تلك الفترة يخضع لحكمين متنافسين ومتصارعين صراعا مسلحا واسعا . 
كان وقع المسرح العراقي وشعب العراق على الغزاة ، غير ملائم بصفة عامة . فلقد تاثرت القوات من جميع الاصناف ، بعزلة الصحراء التي تثير الاشمئزاز ، وبالفقر والقذارة الطاغيتين في القرى . ذلك ان المستويات الواطئة من الحياة ، والصنوف المتدنية من البشر التي واجهتها تلك القوات فجعلتها تحكم عليها بانها كانت اناسا من الكسالى والشحاذين واللصوص المتذللين والديوثين الذين كانوا يشاهدون في اطراف المعسكرات الانكليزية . 
ولم تتاثر هذه الانطباعات بالعمال المغايرين بدنيا والتابعين لفيلق العمال العرب الذي تم تاليفه على وجه السرعة . ولا بحراس حوانيت الاسواق الطماعين ، والابتزاز المجرد من الخجل والقاتل في الغالب ، وتمزيق جثث القتلى في ميادين المعارك بايدي افراد العشائر الساكنين على ضفاف الانهار . 
لم يتيسر لاحد ، عدا الضباط السياسين ، الالتقاء بالعناصر الطيبة والمواطنين المحترمين ، ورؤساء العشائر او القرى الذين ظلوا يتمتعون بصفاتهم من الاحترام الشخصي والمرح والذكاء وان بقوا مع الاسف الشديد غير معروفين بالاغلبية الساحقة من افراد القوات . فاذا لم يكن الجندي الهندي ورفيقه المسلم معروفين بصفة خاصة لدى سكان الجنوب من العراق ، فالضابط والجندي البريطانيان يكونان غريبين كلية بالنسبة لاختلاف طرائقهما وامزجتهما ووقعهما ومستوياتهما عن الجنود الاتراك . 
وعندما تتجمع الواجبات والمصالح المشتركة في الاداة النهرية مع الفرقاء المتعبين او في اجتماعات المقاهي باشكال جيدة من العنصرين معا سرعان ما يسهل قيام علاقات ودية ولكن مثل هذه الحالات كانت جد نادرة . فقد ثبت عدم الادراك والردع الذاتي المشتركين بين الجيش والسكان دوامهما بصفة مؤسفة حتى تصرف افراد القوات المسلحة تصرفا حسنا ودفعت مبالغ وفيرة لكل السلع والخدمات . ولم تكن الرقابة صارمة من ذلك اسكان الجنود في المدن واتخاذ اجراءات الحصار لحماية التموينات من غارات العدو وفرض الاجراءات الصحية والحجر الصحي الشديد والسيطرة على الحركة والسفر وانشاء الطرق عبر القنوات والتلف الذي تلحقه الاجراءات العسكرية بالحاصلات وبالبساتين كل ذلك كان من الامور المحزنة المتواصلة . 
وفضلا عن ذلك فان الاتصالات الاولى بالادارة المدنية الوليدة “1” التي كان يديرها السر برسي كوكس ومساعده المخلص الذي لايكل السيد ارنولد ولسون قد طغى عليها انعدام اي تاكيد بان الاحتلال سيكون دائما . فما تاثر البريطانيون بالحذر وبالشكوك الصادرة عن الفرنسين حتى كان صمتهم عن هذا الامر يعتبر مقدمة فعالة لتعاون نابع عن قلوب العراقيين . فقد يعود الاتراك الان . لكن كثيرين بل ان معظم البارزين من سكان المدن والعشائر بدأ عليهم بانهم كانوا راغبين في اظهار افضل تعاون يمكن توجيهه ويكون مفيدا الى درجة قصوى “2” . 
لم تكن الحماسة الخالصة والمجربة لدى الضباط السياسيين القادمين والتي تعتبر من اغرب المفارقات ازاء اسلافهم الاتراك قد احدثت ادنى ضرر بالمجتمعات التي لم تتعود الطمأنينة التي حصلت مؤخرا او التطلع الى اعمال السلب ثانية او الاعمال التي كانت تثيرها الدعاية التركية . فلقد كانت هناك ارتال تقوم باعمال تاديبية كثيرة وغير ناجحة في بعض الاحيان وذلك لاقتناص المعتدين والمذنبين . وفي الوقت ذاته كانت الدوائر السياسية المقيدة سيئة التجهيز تغص بالكتبة من الهنود وتطفح باصحاب الالتماسات وتشهد منذ الصباح حتى الليل قضايا التصرف بالاراضي والايرادات والامور العشائرية والمحاكمات الاجرامية والقضايا البلدية ومهام الشرطة والمحاولات الجارية لمواجهة الطلبات العسكرية المتزايدة للحصول على المعلومات وبطاقات التجول والعمل والتجهيزات .

ادى احتلال مدينة العمارة الى ادخال البو محمد وبني لام داخل نطاق الادراة المدنية الجديدة التي كانت مطبقة قي الناصرية . اخذت العلاقات تتوطد بالتدريج . كان كثير من زعماء العشائر يخجلون من الاتصال بحكومة مسيحية مستحدثة . وقد استنكر البعض منهم مثل ذلك الاتصال ، ورفض الاذعان لتلك الحكومة . في المنتفق كانت تزيادة السيطرة بطيئة وشاقة . لذلك تم ترتيب نوع من العيش بسلام بين رؤساء آل السعدون وفلاحيهم الاعتياديين ، فبرزت عن ذلك اداة بسيطة للادارة ، وشرع بجمع الايرادات واصبح مستطاعا اقامة حكومات ادارية في الارياف يديرها مدراء من افراد العشائر انفسهم وحوصرت العداوات المريقة للدماء ، وجندت قوة من شرطة الهجانة كانت مقدمة لقوات المرتزقة في العراق “3” . 
ولم يقع في البصرة او القرنة مايعكر الطمأنينة فيهما. اما في الصحراء فقد اصبحت قبيلة (الظفير) مسؤولة عن مسيرات الحدود ، وقد تم استدعاء ( ابن الرشيد ) من قبل السر برسي كوكس لكي يطبق الصلح لكنه فضل ان يظل يدور في الفلك التركي 
وشرع في منطقة العمارة بتطبيق نظام المقاطعات الزراعية ، وذلك لعدم وجود اية تغييرات يمكن اتخاذها هناك ، وتم فرض الضرائب بنوع من الفطنة . 
وبعد احتلال مدينة الكوت شرع باجتذاب الشيوخ الذين كانوا موالين للاتراك ، الواحد منهم تلو الاخر وذلك بعد ان حصلت تغييرات حاسمة في المواقف وبقي ( والي بشتكوه ) يحتفظ بالحياد الخاضع للمراقبة في حين كانت قبيلتا ( زبيد ) و ( ربيعة) في حالة انتظار للاحداث . 
بقيت العلاقات مع الشيخ خزعل قوية وودية ، وقد اعيدت له سلطته القبيلة التي تعرضت لهزات عنيفة في اوائل سنة 1915 . اما ( مبارك ) شيخ الكويت الذي ظل مخلصا للانكليز حتى النهاية فقد توفي في شهر تشرين الثاني 1915 . وقد تنازل ولده ( جابر) الذي خلفه لمدة سنة واحدة ، عن الرئاسة الى اخيه (سالم) الذي تطلب موقفه الموالي للاتراك، وجود قوات بريطانية في الكويت . 
وبالنسبة الى عبد العزيز بن سعود فقد تم ارسال بعثة حسن النوايا كان يمثلها النقيب شكسبير من الادراة السياسية الهندية ، وذلك عند اندلاع نيران الحرب. انشغل ابن سعود بالتمرد الذي حدث بين افراد القبائل الخاضعة له . وفي شهر كانون الاول سنة 1915 تم التوقيع على معاهدة اعتراف وصداقة متبادلين بين ابن سعود والحكومة البريطانية . وكان السر برسي كوكس هو الذي نظم تلك المعاهدة . وفي شهر تشرين الثاني 1916 ، وبعد استعراض حكومي في البصرة قرر البريطانيون منح ابن السعود كمية من الاسلحة ، وهبة مالية تبلغ ستين الف باون كل سنة . 
ولذا قرر ابن السعود تاجيل التسوية مع ابن الرشيد فقد كان ينظر بعين الشك الى الثورة والادعاءات التي اظهرها امير مكة الطموح ذو الفكر الثاقب ، الحسين بن علي . غير ان ابن السعود نفسه ، ولاسباب نابعة من السياسات العربية ، لم يشارك في الحرب . 
ادى تراجع الاتراك الى انتقال كبار الموظفين من جنوبي العراق الامر الذي جعل الذين يمارسون اعمال النهب ، والممتنعين عن دفع الضرائب ، يقدمون على اتلاف السجلات الحكومية . ولذلك كان على الادراة الجديدة ان تبدا من لا شيء . وكان استبدال اللغة التركية التي كانت سائدة ، بما في ذلك قضايا تخمين الايرادات ، لانه كان يتعذر وجود ماهو افضل منها . 
كان يجري استيفاء الرسوم الكمركية بنسبة عشرة في المائة عن جميع مدخولات السلع المدنية . وقد بقي الفصل في قضايا الاجرام في يد الحاكم العسكري والضباط السياسين ومساعديهم . 
من بين الشروط التي الغاها قرار تركي نشر في كل انحاء الامبراطورية التركية اثر اندلاع نيران الحرب ، قرار يقضي في ذلك الوقت بعدم الحاجة او السؤال . اما بالنسبة الى القضايا التي تقع بين رجال العشائر ، فقد تم تطوير قانون خاص هو نظام المنازعات العشائرية الذي ظل ساري المفعول لسنوات عديدة . وكانت القضايا المدنية تجري معالجتها على يد محاكم انشئت حديثا في مراكز متتابعة ويتم تنفيذها باللغة العربية . كذلك تم انشاء تشكيلات للشرطة ، وللشرطة المحلية تحت اشراف الضباط البريطانيين في كل من العمارة والناصرية . اما قوات ( الجندرمة ) التي عرفت باسم ( الشبانة) فقد ظلت تطبق الاوامر تحت اشراف الضباط السياسيين ، وتمارس مختلف الخدمات في المدن الصغرى والارياف الواقعة على ضفاف الانهار . 
كانت قوات الشبانة في منطقة العمارة ذاتها قد تالفت من الشيوخ البارزين انفسهم . اما في القرنة والاهوار فلم يكن افراد الشبانة هؤلاء من ابناء العشائر . وفي الناصرية وسوق الشيوخ اضيفت الى قوات الشرطة فيهما تشكيلات من الخيالة العشائريين تحت امرة القيادة العسكرية بصفة مباشرة . 
ومثل هذا الاهتمام تم بذله حسب المستطاع ، وفي وقت مبكر ايضا ، نحو المتطلبات الصحية حيث تمثل في صفة مستوصفات ومستشفيات تقوم بخدمة السكان المحليين ، وكذلك الاصرار على التمسك بالامور الصحية ، والسيطرة على التزود بمياه الشرب في المدن  ، واتخاذ الاجراءات المضادة لمرض الملاريا والامراض الوافدة الاخرى . 
وتم في البصرة انشاء مصلحة متوسطة للانباء حيث تم اصدار صحيفة باللغتين العربية والانكليزية “4” . 
واقدم المصرفان الشرقي والعثماني الامبراطوري على فتح فروع لهما في مدينة البصرة ، وسرعان ما اعقبهما في ذلك المصرف الفارسي الامبراطوري “5” وبدات في سنتي 1915 و 1916 مدارس ابتدائية قليلة تمارس اعمالها . وقدمت الهبات الى مدرسة التبشير الامريكية في البصرة “6” وكذلك الى المدارس التي تديرها الاقليات المسيحية واليهودية هناك . 
غير ان الاحتلال البريطاني لم يكن في هذه المرحلة ليشمل سوى اجزاء صغيرة من العراق . اما بقية الاجزاء فقد بقيت تحت اشراف الحكومة التركية التي تعاظمت عسكريا وفظاظة ووهما . فقد غادر بعض المقيمين الاجانب في بغداد قبل اعلان الحرب الى كل من البصرة والمحمرة وبقيت الطائفة البريطانية مصونة غالبا عندما انفجرت الحرب ، ولم يلبث الرجال من افرادها ان غادروا الى سوريا ، حيث استطاع جمال باشا والي بغداد السابق ، والمعروف بصفة شخصية لدى معظم البريطانيين بتدخله ان يضمن اطلاق سراحهم من دون ادنى قيد او شرط ، في حين عاد الى العراق ، وكان من بين هؤلاء المقدم سون وارثر تود اللذان عادا الى البصرة عن طريق مصر “7” اما النساء البريطانيات فقد مكثن في بغداد حتى شهر اذار 1917 حين تم ارسالهن الى اسطنبول ليبقين فيها بقية ايام الحرب . 
ولقد تعرضت المصالح الاجنبية ، وكذلك مصالح معظم العراقيين لخسائر فادحة ، نتيجة القيود المفروضة واعمال المصادرة الشديدة ، والاغتصاب الذي يندر ان يدفع اي تعويض عنه . وازداد سوء معاملة الاتراك للسكان تبعا لتعاظم الحركة القومية العربية ، فاشتط الاتراك في سخطهم نتيجة عدم مبالاة العرب ، اما سوء موقفهم ازاء المجهود الحربي الذي كان حكامهم يبذلونه . فقد تم حل ( اللجنة الحرة ) “8” في سنة 1916 و اوقفت اعمال البعثات التبشيرية الاجنبية ، الكرملية منها اليهودية والبروستنتية في بغداد والدومنيكية في الموصل وفرض الحظر على نشاطها . وتم فرض التجنيد بشدة على الطبقات التي كانت معفاة منه قبلا ، واوجدت التعبئة العامة ، المزيد من المصاعب الكثيرة . 
وتم تعزيز الاعلان البكر للحرب المقدسة ضد الكفار من لدن جميع الوعاظ في اي مسجد يعود الى طائفة السنة ام طائفة الشيعة ، يستطيع  الاتراك التاثير فيه . وتم خلق احساس شعبي او ديني الا انه كان ضعيفا ولفترة قصيرة في مدينة البصرة خلال سنة 1915 . ولكن هذا الامر برهن على انه ممكن في ظل هذا التنكر ، وذلك بنعبئة بضعة الاف من افراد العشائر المتعطشين الى اعمال السلب ، من اواسط العراق ، وبضع مئات من جنوبي كردستان وانضمامها الى القوات التركية التي كانت تقاوم في الشعيبة وفي عربستان “9” . 
ولقد كانت القوة الحربية لهؤلاء غير ذات بال ، وكان نتاجها عبارة عن حدة اضافية بين الاتراك والعرب ، وفشل مشروع الجهاد بصفة نهائية . ذلك ان رجال العشائر عادوا الى اهليهم مطمئنين بعد ان تاكدوا ان هربهم لن يعرضهم للاذى على ايدي البريطانيين المحتلين بصفة مؤقتة . ذلك ان كثيرا من شيوخ العشائر قد بدلوا ولاءهم عدة مرات – اذا كان حسدهم ، وتصرفاتهم العقيمة في التشبث تستحق ان تذكر – وهكذا استمر الاتراك يغدقون المنافع على عجمي السعدون وابن الرشيد ، ويحرضون الرجال في اواسط الفرات على مقاومة الغزاة الكفار . ولقد جوبهت هذه الجهود بالخلافات العميقة القائمة من ناحية ، وبالدعاية البريطانية من ناحية اخرى . وكذلك بالاتصالات العشائرية السابقة التي لم تنتج عنها اية نتائج حربية . 
وفي الوقت ذاته تطورت في المدن المقدسة حالة خطيرة جدا بالنسبة الى الاتراك . ذلك لان حقد الاتراك على رجال الدين في النجف وكربلاء لم تخف حدته بعد . فقد وجد الهاربون من صفوف القوات التركية ملجأ لها في مدينة النجف ، وجرت محاولة لانقاذهم مما اضاف المزيد من اعمال الاغتصاب والشغب الحادة ، والانتقام التي احدثت العطب بالابنية المقدسة . 
ولم تلبث الحشود الحانقة ان تغلبت على القوات التركية ، ونهبت دوائر الحكومة ، واقامت حكومة مؤلفة من بعض المواطنين البارزين . واخذت حركة الثورة ضد الاتراك تنتشر الى كربلاء وغيرها ، نتيجة الدعم الواسع الذي حظيت به من لدن افراد العشائر . وطردت الحامية التركية والموطفين الاتراك ، واحرقت منازلهم ودمرت ممتلكاتهم . ولكن هذه الحرمة لم تتطور الى عمل موحد وسرعان ما خمدت واستطاع الاتراك ، بعد فترة من المصالحة والتهدئة ان يستعيدوا سلطتهم الاسمية . 
وتطورت المراسلات في شهر ايلول سنة 1915 بين الناطقين باسم المدن المقدسة والسر برسي كوكس ، حيث عرض اولئك الناطقون بعبارات تصويرية رفيعة ، نقض ولائهم للاتراك في حين قدم لهم السر برسي كوكس هبات من الاموال لقاء ذلك . 
بعد ستة اشهر اخرى انفجرت الاضطرابات مجددا في كربلاء ، فقد ادت محاولة انتقال بعض الاشخاص الى اعمال عنف ثم طرد الاتراك من المدينة خلالها مجددا . واعقب ذلك حدوث نفس الاعمال في كل من النجف والحلة . ولقد كانت الحلة مسرحا لمأساة ظل الناس يتذكرونها مدة طويلة . ذلك ان القوات التركية التي ظهرت خارج المدينة في شهر تشرين الثاني 1915 قد اقدمت على اعتقال عدد من الرجال المعروفين في المدينة فشنقت بعضا منهم ، ثم خربت قسما من المدينة ونهبته . 
اما في شمالي العراق فان الحياة الاقتصادية وتجارة المرور الى فارس قد تعرضت الى كارثة نتيجة تعطيل خط البصرة التمويني ، الامر الذي ادى الى تراكم الحبوب والتمور المعدة للتصدير في الوقت الذي تعاظم فيه نقص المنسوجات والادوات والحاجيات الضرورية المستوردة وبذاك شلت الحركة التجارية وصاحب حركة اصدار العملة الورقية التي فقدت ، احتكار وحشي للذهب وللمواد التي لها قيمتها ، وبذلك غدت الحياة بزيادة الضغط على الاقليات ، وبظهور اللاجئين الارمن بالمئات نتيجة المذابح التي وقعت بينهم وبين الاتراك في الاناضول خلال سنتي 1915 – 1916 . 
ولقد وجد بعض هؤلاء اللاجئين مستقرا لهم في المدن ، في حين تفرق البعض الاخر بين افراد العشائر . واضطر الحكام الضعفاء المعاصرون الى تجاهل الاوامر الصادرة اليهم بالقضاء على تمرد العشائر ومع ذلك كانت توجد بعض الضربات الموجهة من قبل الحكومة التركية . فلقد تم القاء القبض على الشيخ عبد السلام البرزاني “10” وتم شنقه واعقبه في ذلك الشيخ احمد نصف الابله . في حين راح سيد طه النسيري ينشد الهرب . 
اما منطقة راوندوز التي غزتها القوات الروسية ، التي انفصلت عن العمليات الجارية في المناطق الفارسية ، فقد دمرت تدميرا كاملا بسبب ما ارتكبته تلك القوات الروسية من اعمال بربرية .

 الهوامش : 
“1” من بين الموظفين البريطانين الذين عملوا مع كوكس و ولسون في خدمة الادراة المدنية في العراق خلال السنتين  1915 -1916 كل من نوكس في القسم القضائي والاطباء بوري وسكوت ، القسم الطبي ، وكذلك واتكنس في الكمارك وغريسون في الشرطة وضم قسم الضباط السياسيين كلا من بارتيت ودكسون ، وادمونز ، وفاول ، وهولاند ، وليجمن ، ومكنزي ، ومكفرسون ، ومارس ، ونويل ، وفلبي . وفي سنة 1916 انضم الى هذه الادارة كل من فوربس للقضاء ، والاطباء بيشوب ، وفنج وورد القسم الطبي ، وجرارد وبرايت للشرطة وويكفورد لمطبعة الحكومة ، وولسون للقضاء التجاري . ومن بين الذين عملوا في الواردات كل من دوبس ، وغاربت . ومارس بعض الضباط السياسيين مهمات متنوعة منهم كل من بلومفليد وبولارد وغولسمث وغرين هاوس وهايلز وهول و ماكي و موراي و سون و غوردون و ووكر و ولسون و المس غرترود بل وكان هؤلاء الضباط السياسيون تابعين اما لادارة الهند او السودان او المشرق او الخدمات المعنوية السياسية او البيوتات التجارية التي كانت موجودة في العراق قبل الحرب من امثال بيت لنج وغري مكنزي وغيرهما . – المترجم – 
  “2” استطاع جواسيس الانكليز الذين طافوا بالعراق قبل الحرب العالمية الاولى بسنوات ان يوثقوا علاقاتهم الودية ويغدقوا الاموال الوفيرة على رؤساء عشائر الفرات الادنى والاوسط بشكل خاص وان يضمنوا تعاونهم مع الجيش البريطاني الغازي وكان في مقدمة هؤلاء الجواسيس العقيد ليجمن الذي زار العراق عدة مرات خلال الفترة 1911 – 1913 والمس بل التي طافت بالعراق بحجة البحث عن الاثار فيه سنة 1910 . وحين دخل الانكليز العراق كان جواسيسهم يسبقون تقدم القوات الغازية ويمهدون لها الطريق وذلك بالاتصال باصدقائهم القدامى من رؤساء العشائر ورجال الدين ، الامر الذي سهل على القوات الانكليزية احتلال الاقسام الجنوبية من العراق بصفة واضحة  – المترجم . 
“3” قوات المرتزقة هي القوات التي شكلها الجيش البريطاني لدى دخوله العراق واكمال احتلاله والتي عرفت باسم قوات ” الليفي ” وكانت اول هذه القوات قد تالفت في الناصرية من افراد من ابناء العشائر ومن قوات ” الشبانة ” القديمة ثم فتح الباب على مصراعيه امام الاثوريين للانضمام الى هذه القوات التي لعبت دورا فعالا في توطيد السلطة البريطانية ، وعندما اقدم غلوب باشا على تشكيل الجيش او الفيلق العربي في الاردن التحق بهذا الجيش عدد كبير من افراد القوات المرتزقة وعلى الاخص من ابناء الناصرية وغيرهم وتجنس البعض منهم بالجنسية الاردنية – المترجم . 
“4” هي صحيفة ” الاوقات البصرية ” التي صدرت باسم سليمان الزهير وبقيت تصدر لمدة خمس سنوات الى ان حلت محلها جريدة الاوقات العراقية التي اصدرتها شركة انكليزية في شهر ايار 1921 . 
“5” المصرف الشرقي والمصرف العثماني وكذلك المصرف الفارسي كلها مصارف انكليزية بحتة وان كانت تحمل اسماء يخيل الى من يقراها او يسمعها انها تعود الى الدولة العثمانية او الحكومة الفارسية . 
“6” هي مدرسة الرجاء التي التحق بها عدد كبير من البصريين كان من بينهم يوسف سلمان يوسف ( فهد ) مؤسس الحزب الشيوعي العراقي في سنة 1940 وبهجت العطية مدير الامن العام في اواخر العهد الملكي وكان الاثنان يدرسان في صف واحد في تلك المدرسة .
  “7” كان المقدم سون قد عين اثناء الحرب ضابطا سياسيا للسليمانية والمعروف عنه انه امضى اربع سنوات متنكرا في تلك المنطقة من كردستان وكانت له علاقة وثيقة بزعماء عشيرة ” الجاف” الكردية وقد وضع كتابا مهما عن مشاهداته واختباراته هناك بعنوان ” رحلة تنكرية الى كردستان ” ترجمة فؤاد جميل في جزءين وشحنه كعادته بالفاظ نابية واستشهادات سخيفة . 
  “8” يقصد المؤلف ” باللجنة الحرة ” حزب الحرية والائتلاف ” المناهض للاتحاد والترقي والذي تاسس في اسطنبول في شهر تشرين الثاني 1911 وحصل الحزب في كانون الثاني 1912 على اذن له بفتح فرع له في بغداد كان اول رئيس له شكري الفضيلي وهو من الشبان والادباء العراقيين الذي عمل قبل في حزب الاتحاد والترقي . ومن بين الاعضاء البارزين في حزب الحرية والائتلاف محمود نديم الطبقجلي صاحب جريدة بين النهرين وحمدي الباجه جي وكلامهما عضو في الحزب الحر المعتدل المعارض للاتخاد والترقي وقد استطاع حزب الحرية والائتلاف ان يعبىء المعارضة القوية ضد الاتحاديين كما افتتح فرعا له في البصرة تراسه لاول مرة السيد طالب النقيب ثم خلفه في الرئاسة الحاج محمود عبد الواحد – المترجم . 
  “9” يشير المؤلف بذلك الى قوات المجاهدين وهي قوات من المتطوعين المسلمين لمحاربة الانكليز الكفار وقد نادى الغيارى من المسلمين بتاليفها بعد ان افلح الانكليز في احتلال الفاو والتقدم لاحتلال البصرة حيث اعلنت حالة الجهاد في الليلة السادسة عشرة من شهر محرم 1333 هـ 26 تشرين الثاني  1914 ، وتحركت جموع المجاهدين في اليوم التالي الى الكوفة ومنها توجهت الى السماوة ومنها الى الناصرية ومن ثم تقدمت قوات المجاهدين الى الشعبية لتتركز في منطقة النخيلة في حين تركزت قوات الاتراك في منطقة البرجسية على بعد ستة اميال من الجنوب الغربي للشعيبة وقد خضعت قوات المجاهدين لامرة سليمان العسكري . كان الانكليز قد احتلوا الشعبية ولذلك بدا هجوم المجاهدين والقوات التركية عليها صباح يوم الاثنين الثاني عشر من نيسان 1915 واستمرت المعركة ثلاثة ايام تفوق فيها الانكليز فانسحبت القوات التركية الى البرجسية واذ يحاول ان ينجو بجلده . ولقد تالم سليمان العسكري للهزيمة التي لحقت به فجمع ضباطه وانتحر امامهم با اطلق النار من مسدسه على راسه فخر صريعا وهكذا تشتتت قوات المجاهدين ولم تقم لها اية قائمة فيما بعد – المترجم .
 
عن كتاب اربعة قرون من تاريخ العراق 
ترجمة جلال الخياط 
بغداد 1971