السياسة الشرعية بين النظرية والتطبيق/2‏

علي الكاش

ذكر وكيع” قال إياس بْن معاوية: كل بنيان بني على أساس أعوج لم يستقم بنيانه”. (أخبار ‏القضاة2/356).‏‎ ‎‏ وهذا ما يمكن الإستدلال عليه في تجارب العراق وايران وسوريا ولبنان ‏واليمن.‏
تنويه
سيكون الجزء الثالث والأخير متعلقا بالسياسة الشرعية في العراق بعد عام 2003، وبيان ‏موقف الراعي العراقي من رعيته، فمن غير المألوف في السياسة الشرعية أن يقتل ويسرق ‏الراعي رعيته ولا أن يهجرهم ويسومهم العذاب، ولا ان يفرق بين رعيته حسب الدين ‏والمذهب والعنصر والجنس واللون، ولا ان ويخدم دولة أخرى وشعب آخر لا يمت له إلا بصلة ‏جوار، وتأريخ الجوار مبني على العداء والحقد والفوقية الفارغة. أما الدين فهو مختلف فدين ‏نظام الملالي المبني على ولاية الفقيه لا علاقة له بالإسلام، ولا يمت صلة به، الإسلام دين ‏مكارم الأخلاق والسلم والتآخي والتسامح والحب واحترام الجار، وهذه الصفات جميعها تفتقر ‏اليها ولاية الفقيه، وسنفصل الأمر لاحقا.‏
قال الزمخشري” القاضي تعمل فيه الرشوة، ما لم تعمل في الشارب النشوة، يسمى القاضي، ‏وهو السمّ القاضي”. (أطواق الذهب/17). وقال ابن المعتز: الملك بالدين يبقى، والدين بالملك ‏يقوى. ( اللطائف والظرائف/28). قال الماوردي” حَكَى حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ عُزِلَ ‏عَنْ‎ ‎وِلَايَةٍ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: إنِّي وَجَدْتهَا حُلْوَةَ‎ ‎الرَّضَاعِ، مَرَّةَ الْفِطَامِ”. (أدب الدنيا ‏والدين/244). وذكر العدوي الشيزري سَأَلَ ملك من مُلُوك الْفرس حكيما من حكمائهم فَقَالَ مَا ‏عز الْملك قَالَ‎ ‎الطَّاعَة. قَالَ: فَمَا سَبَب الطَّاعَة قَالَ التودد إِلَى الْخَاصَّة‎ ‎وَالْعدْل على الْعَامَّة. قَالَ: ‏فَمَا حصن الْملك قَالَ وزراؤه وأعوانه‎ ‎فَإِنَّهُم إِذا صلحوا صلح الْملك وَإِذا فسدوا فسد الْملك قَالَ فَمَا‏‎ ‎سَبَب صَلَاحهمْ قَالَ: الْبَذْل والإنعام وَالْإِحْسَان الشَّامِل قَالَ:‏‎ ‎فَأَي الْأُمُور أَحْمد للْملك قَالَ: الرِّفْق ‏بالرعية وَأخذ الْأَمْوَال‎ ‎مِنْهُم من غير مشقة وأداؤه إِلَيْهِم عِنْد أَوَانه وسد الثغور وَأمن‎ ‎السبل ‏وإنصاف الْمَظْلُوم من الظَّالِم وزجر الْقوي عَن الضَّعِيف قَالَ‎ ‎فَأَي خصْلَة تكون فِي الْملك أَنْفَع ‏قَالَ الصدْق فِي جَمِيع الْأَحْوَال‎ ‎وَأما الأساس للمملكة وأركانها فَهُوَ الدّين”. (المنهج ‏المسلوك/237).‏
ـ قال التوحيدي” قالت الترك: ينبغي للقائد العظيم أن يكون فيه عشر خصال من ضروب ‏الحيوان‎ ‎سخاء الديك، وتحنّن الدجاجة، ونجدة الأسد، وحملة الخنزير، وروغان الثعلب،‎ ‎وصبر ‏الكلب، وحراسة الكركيّ، وحذر الغراب، وغارة الذئب، وسمن بعروا، (هي‎ ‎دابة بخراسان ‏تسمن على التعب والشقاء)”. (الإمتاع والمؤانسة1/109).‏
ـ قال التوحيدي” قال بعض ندماء الإسكندر له: إن فلانا يسيء الثناء عليك، فقال: أنا أعلم أن‎ ‎فلانا ليس بشرّير، فينبغي أن ينظر هل ناله من ناحيتنا أمر دعاه إلى ذلك،‎ ‎فبحث عن حاله ‏فوجدها رثّة، فأمر له بصلة سنيّة، فبلغه بعد ذلك أنه يبسط‎ ‎لسانه بالثناء عليه في المحافل، فقال: ‏أما ترون أن الأمر إلينا أن يقال‎ ‎فينا خير أو شرّ”. (الإمتاع والمؤانسة2/182)‏‎.‎
حكى اسبهبد مرزبان ” لا بد للملوك من خمس خصال: الأولى اجتناب التبذير، الثانية مراعاة ‏النفس‎ ‎والتأمل في حالة الرضى والغضب، الثالثة تقديم مصالح رعيته على مصالح نفسه،‎ ‎الرابعة لا يمكن القوي من الضعيف، الخامسة لا يقدم أحدا على العلم والعلماء‎ ‎وليتق دعوة ‏المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب”. (مرزبان نامة/226).‏

طاهر بن الحسين يضع أسس نظرية السياسة الشرعية
ذكر ابن خلدون” من أحسن ما كتب في ذلك وأودع كتاب طاهر بن الحسين لابنه عبد الله بن ‏طاهر‎ ‎لمّا ولّاه المأمون الرّقّة ومصر وما بينهما فكتب إليه أبوه طاهر كتابه‎ ‎المشهور عهد إليه ‏فيه ووصّاه بجميع ما يحتاج إليه في دولته وسلطانه من‎ ‎الآداب الدّينيّة والخلقيّة والسّياسة ‏الشّرعيّة والملوكيّة، وحثّه على‎ ‎مكارم الأخلاق ومحاسن الشّيم بما لا يستغني عنه ملك ولا ‏سوقة. ونصّ الكتاب‎ (‎بسم الله الرحمن الرحيم) أمّا بعد فعليك بتقوى الله وحده لا شريك له‎ ‎وخشيته ومراقبته عزّ وجلّ ومزايلة سخطه واحفظ رعيّتك في اللّيل‎ ‎والنّهار والزم ما ألبسك الله ‏من العافية بالذّكر لمعادك وما أنت صائر إليه‎ ‎وموقوف عليه ومسئول عنه، والعمل في ذلك كلّه ‏بما يعصمك الله عزّ وجلّ‏‎ ‎وينجّيك يوم القيامة من عقابه وأليم عذابه فإنّ الله سبحانه قد أحسن ‏إليك‎ ‎وأوجب الرّأفة عليك بمن استرعاك أمرهم من عباده وألزمك العدل فيهم والقيام‎ ‎بحقّه ‏وحدوده عليهم والذبّ عنهم والدّفع عن حريمهم ومنصبهم والحقن لدمائهم‎ ‎والأمن لسربهم ‏وإدخال الرّاحة عليهم ومؤاخذك بما فرض عليك وموقفك عليه‎ ‎وسائلك عنه ومثيبك عليه بما ‏قدّمت وأخّرت ففرّغ لذلك فهمك وعقلك وبصرك ولا يشغلك عنه شاغل، وإنّه رأس أمرك ‏وملاك شأنك وأوّل ما‎ ‎يوقفك الله عليه وليكن أوّل ما تلزم به نفسك وتنسب إليه فعلك المواظبة ‏على‎ ‎ما فرض الله عزّ وجلّ عليك من الصّلوات الخمس والجماعة عليها بالنّاس قبلك‎ ‎وتوابعها ‏على سننها من إسباغ الوضوء لها وافتتاح ذكر الله عزّ وجلّ فيها‎ ‎ورتّل في قراءتك وتمكّن في ‏ركوعك وسجودك وتشهّدك ولتصرف فيه رأيك ونيّتك‎ ‎واحضض عليه جماعة ممّن معك وتحت ‏يدك وادأب عليها فإنّها كما قال الله عزّ‏‎ ‎وجلّ تنهى عن الفحشاء والمنكر ثمّ اتّبع ذلك بالأخذ بسنن ‏رسول الله صلّى‎ ‎الله عليه وسلّم والمثابرة على خلائقه واقتفاء أثر السّلف الصّالح من بعده،‎ ‎وإذا ‏ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة الله عزّ وجلّ وتقواه وبلزوم ما‎ ‎أنزل الله عزّ وجلّ في ‏كتابه من أمره ونهيه وحلاله وحرامه وائتمام ما جاءت‎ ‎به الآثار عن رسول الله صلّى الله عليه ‏وسلّم ثمّ قم فيه بالحقّ للَّه عزّ‎ ‎وجلّ ولا تميلنّ عن العدل فيما أحببت أو كرهت لقريب من النّاس ‏أو لبعيد‎ ‎وآثر الفقه وأهله والدّين وحملته وكتاب الله عزّ وجلّ والعاملين به فإنّ أفضل ما يتزيّن ‏به المرء الفقه في صلّى الله عليه وسلّم ثمّ قم فيه بالحقّ للَّه عزّ وجلّ ولا تميلنّ عن‎ ‎العدل فيما ‏أحببت أو كرهت لقريب من النّاس أو لبعيد وآثر الفقه وأهله‎ ‎والدّين وحملته وكتاب الله عزّ ‏وجلّ والعاملين به فإنّ أفضل ما يتزيّن‎ ‎به المرء الفقه في الدّين والطّلب له والحثّ عليه ‏والمعرفة بما يتقرّب به‎ ‎إلى الله عزّ وجلّ فإنّه الدّليل على الخير كلّه والقائد إليه والآمر‎ ‎والنّاهي ‏عن المعاصي والموبقات كلّها ومع توفيق الله عزّ وجلّ يزداد المرء‎ ‎معرفة وإجلالا له ودركا ‏للدّرجات العلى في المعاد مع ما في ظهوره‎ ‎للنّاس من التّوقير لأمرك والهيبة لسلطانك والأنسة ‏بك والثّقة بعدلك وعليك‎ ‎بالاقتصاد في الأمور كلّها فليس شيء أبين نفعا ولا أخصّ أمنا ولا ‏أجمع فضلا‎ ‎منه. والقصد داعية إلى الرّشد والرّشد دليل على التّوفيق والتّوفيق قائد‎ ‎إلى السّعادة ‏وقوام الدّين والسّنن الهادية بالاقتصاد وكذا في دنياك كلّها‎. ‎ولا تقصّر في طلب الآخرة والأجر ‏والأعمال الصّالحة والسّنن المعروفة ومعالم الرّشد والإعانة‎ ‎والاستكثار من البرّ والسّعي له إذا ‏كان يطلب به وجه الله تعالى ومرضاته‎ ‎ومرافقة أولياء الله في دار كرامته أما تعلم أنّ القصد في ‏شأن الدّنيا يورث‎ ‎العزّ ويمحّص من الذّنوب وأنّك لن تحوط نفسك من قائل ولا تنصلح أمورك‎ ‎بأفضل منه فأته واهتد به تتمّ أمورك وتزد مقدرتك وتصلح عامّتك وخاصّتك‎ ‎وأحسن ظنّك باللَّه ‏عزّ وجلّ تستقم لك رعيّتك والتمس الوسيلة إليه في‎ ‎الأمور كلّها تستدم به النّعمة عليك ولا ‏تتهمنّ أحدا من النّاس فيما تولّيه‎ ‎من عملك قبل أن تكشف أمره فإنّ إيقاع التّهم بالبراء والظّنون ‏السّيئة بهم‎ ‎آثم إثم. فاجعل من شأنك حسن الظّنّ بأصحابك واطرد عنك سوء الظّنّ بهم،‎ ‎وارفضه ‏فيهم يعنك ذلك على استطاعتهم ورياضتهم. ولا يجدنّ عدوّ الله‎ ‎الشّيطان في أمرك مغمزا فإنّه ‏يكتفي بالقليل من وهنك ويدخل عليك من‎ ‎الغمّ بسوء الظّنّ بهم ما ينقص لذاذة عيشك. واعلم أنّك ‏تجد بحسن الظّنّ‎ ‎قوّة وراحة، وتكتفي به ما أحببت كفايته من أمورك وتدعو به النّاس إلى‎ ‎محبّتك والاستقامة في الأمور كلّها ولا يمنعك حسن الظّنّ بأصحابك والرّأفة برعيّتك أن تستعمل ‏المسألة والبحث عن أمورك والمباشرة‎ ‎لأمور الأولياء وحياطة الرّعيّة والنّظر في حوائجهم ‏وحمل مئوناتهم أيسر‎ ‎عندك ممّا سوى ذلك فإنّه أقوم للدّين وأحيا للسّنّة. وأخلص نيّتك في جميع‎ ‎هذا وتفرّد بتقويم نفسك تفرّد من يعلم أنّه مسئول عمّا صنع ومجزيّ بما أحسن‎ ‎ومؤاخذ بما أساء ‏فإنّ الله عزّ وجلّ جعل الدّين حرزا وعزّا ورفع من اتّبعه‎ ‎وعزّزه واسلك بمن تسوسه وترعاه ‏نهج الدّين وطريقة الهدى. وأقم حدود‎ ‎الله تعالى في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم وما ‏استحقّوه ولا تعطّل ذلك‎ ‎ولا تتهاون به ولا تؤخّر عقوبة أهل العقوبة فإنّ في تفريطك في ذلك ما ‏يفسد‎ ‎عليك حسن ظنّك واعتزم على أمرك في ذلك بالسّنن المعروفة وجانب البدع‎ ‎والشّبهات ‏يسلم لك دينك وتقم. ك مروءتك. وإذا عاهدت عهدا فأوف به وإذا وعدت خيرا فأنجزه واقبل ‏الحسنة‎ ‎وادفع بها، واغمض عن عيب كلّ ذي عيب من رعيّتك، واشدد لسانك عن قول الكذب‎ ‎والزّور، وأبغض أهل النّميمة، فإنّ أوّل فساد أمورك في عاجلها وآجلها،‎ ‎تقريب الكذوب، ‏والجراءة على الكذب، لأنّ الكذب رأس المآثم، والزّور‎ ‎والنّميمة خاتمتها، لأنّ النّميمة لا يسلم ‏صاحبها وقائلها، لا يسلم له صاحب‎ ‎ولا يستقيم له أمر. وأحبب أهل الصّلاح. والصّدق، وأعزّ ‏الأشراف بالحقّ،‎ ‎وآس الضّعفاء، وصل الرّحم، وابتغ بذلك وجه الله تعالى وإعزاز أمره،‎ ‎والتمس فيه ثوابه والدّار الآخرة. واجتنب سوء الأهواء والجور، واصرف عنهما‎ ‎رأيك، وأظهر ‏براءتك من ذلك لرعيّتك وأنعم بالعدل في سياستهم وقم بالحقّ‎ ‎فيهم، وبالمعرفة الّتي تنتهي بك ‏إلى سبيل الهدى. وأملك نفسك عند الغضب،‎ ‎وآثر الحلم والوقار، وإيّاك والحدّة والطّيش ‏والغرور فيما أنت بسبيله‎. ‎وإيّاك أن تقول أنا مسلّط أفعل ما أشاء فإنّ ذلك سريع إلى نقص ‏الرّأي وقلّة‎ ‎اليقين باللَّه عزّ وجلّ وأخلص للَّه وحده النّيّة فيه واليقين به‎. ‎واعلم أنّ الملك للَّه ‏سبحانه وتعالى يؤتيه من يشاء وينزعه ممّن يشاء. ولن‎ ‎تجد تغيّر النّعمة وحلول النّقمة على أحد ‏أسرع منه إلى حملة النّعمة من‎ ‎أصحاب السّلطان والمبسوط لهم في الدّولة إذا كفروا نعم الله ‏وإحسانه‎ ‎واستطالوا بما أعطاهم الله عزّ وجلّ من فضله. ودع عنك شره نفسك ولتكن‎ ‎ذخائرك ‏وكنوزك الّتي تدّخر وتكنز البرّ والتّقوى واستصلاح الرّعيّة وعمارة‎ ‎بلادهم والتّفقّد لأمورهم ‏والحفظ لدمائهم والإغاثة لملهوفهم. واعلم أنّ الأموال‎ ‎إذا اكتنزت وادّخرت في الخزائن لا تنمو ‏وإذا كانت في صلاح الرّعيّة وإعطاء‎ ‎حقوقهم وكفّ الأذيّة عنهم نمت وزكت وصلحت بها ‏العامّة وترتّبت بها الولاية‎ ‎وطاب بها الزّمان واعتقد فيها العزّ والمنفعة. فليكن كنز خزائنك ‏تفريق. الأموال في عمارة الإسلام وأهله. ووفّر منه على أولياء أمير المؤمنين قبلك‎ ‎حقوقهم ‏وأوف من ذلك حصصهم وتعهّد ما يصلح أمورهم ومعاشهم فإنّك إذا فعلت‎ ‎ذلك قرّت النّعمة ‏عليك واستوجبت المزيد من الله تعالى وكنت بذلك على‏‎ ‎جباية خراجك وجمع أموال رعيّتك ‏وعملك أقدر، وكان الجميع لما شملهم من‎ ‎عدلك وإحسانك أسلس لطاعتك وأطيب أنفسا بكلّ ما ‏أردت وأجهد نفسك فيما‎ ‎حدّدت لك في هذا الباب وليعظم حقّك فيه وإنّما يبقى من المال ما أنفق ‏في‎ ‎سبيل الله واعرف للشّاكرين حقّهم وأثبهم عليه وإيّاك أن تنسيك الدّنيا‎ ‎وغرورها هول الآخرة ‏فتتهاون بما يحقّ عليك فإنّ التّهاون يورث التّفريط‎ ‎والتّفريط يورث البوار. وليكن عملك للَّه عزّ ‏وجلّ وارج الثّواب فيه‎ ‎فإنّ الله سبحانه قد أسبغ عليك فضله. واعتصم بالشكر وعليه فاعتمد ‏يزدك الله‎ ‎خيرا وإحسانا فإنّ الله عزّ وجلّ يثيب بقدر شكر الشّاكرين وإحسان‎ ‎المحسنين. ولا ‏تحقّرنّ ذنبا ولا تمالئنّ حاسدا ولا ترحمنّ فاجرا ولا تصلنّ‎ ‎كفورا ولا تداهننّ عدوا ولا تصدّقنّ ‏نمّاما ولا تأمننّ غدّارا ولا توالينّ‏‎ ‎فاسقا ولا تتّبعنّ غاويا ولا تحمدنّ مرائيا ولا تحقّرنّ إنسانا ولا ‏تردّنّ‎ ‎سائلا فقيرا ولا تحسننّ باطلا ولا تلاحظنّ مضحكا ولا تخلفنّ وعدا ولا‎ ‎تزهونّ فخرا ولا ‏تظهرنّ غضبا ولا تبايننّ رجاء ولا تمشينّ مرحا ولا تفرطنّ‏‎ ‎في طلب الآخرة ولا ترفع للنّمام ‏عينا ولا تغمضنّ عن ظالم رهبة منه أو‎ ‎محاباة ولا تطلبنّ ثواب الآخرة في الدّنيا. وأكثر ‏مشاورة الفقهاء واستعمل‎ ‎نفسك بالحلم وخذ عن أهل التّجارب وذوي العقل والرّأي والحكمة. ولا ‏تدخلنّ‎ ‎في مشورتك أهل الرّفه والبخل ولا تسمعنّ لهم قولا فإنّ ضررهم أكثر من نفعهم‎ ‎وليس ‏شيء أسرع فسادا لما استقبلت فيه أمر رعيّتك من الشّحّ. واعلم أنّك‎ ‎إذا كنت حريصا كنت كثير ‏الأخذ قليل العطيّة وإذا كنت كذلك لم يستقم لك أمرك إلّا قليلا‎ ‎فإنّ رعيّتك إنّما تعقد على محبّتك ‏بالكفّ عن أموالهم وترك الجور عليهم‎. ‎وابتدئ من صافاك من أوليائك بالإفضال عليهم وحسن ‏العطيّة لهم. واجتنب‎ ‎الشّحّ واعلم أنّه أوّل ما عصى الإنسان به ربّه وإنّ العاصي بمنزلة خزي‎ ‎وهو قول الله عزّ وجلّ «وَمن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ‎ ‎الْمُفْلِحُونَ 59: 9» فسهّل طريق الجود ‏بالحقّ واجعل للمسلمين كلّهم‎ ‎من فيئك حظّا ونصيبا وأيقن أنّ الجود أفضل أعمال العباد فأعدّه ‏لنفسك‎ ‎خلقا وارض به عملا ومذهبا. وتفقّد الجند في دواوينهم ومكانتهم وأدرّ‎ ‎عليهم أرزاقهم ‏ووسّع عليهم في معايشهم يذهب الله عزّ وجلّ بذلك فاقتهم‎ ‎فيقوى لك أمرهم وتزيد قلوبهم في ‏طاعتك وأمرك خلوصا وانشراحا. وحسب ذي‎ ‎السّلطان من السّعادة أن يكون على جنده ورعيّته ‏ذا رحمة في عدله وحيطته‎ ‎وإنصافه وعنايته وشفقته وبرّه وتوسعته فزايل مكروه أحد البابين ‏باستشعار‎ ‎فضيلة الباب الآخر ولزوم العمل به تلق إن شاء الله تعالى نجاحا وصلاحا‎ ‎وفلاحا. ‏واعلم أنّ القضاء من الله تعالى بالمكان الّذي ليس فوقه شيء من‎ ‎الأمور لأنّه ميزان الله الّذي ‏تعدّل عليه أحوال النّاس في الأرض. وبإقامة‏‎ ‎العدل في القضاء والعمل تصلح أحوال الرّعيّة ‏وتأمن السّبل وينتصف المظلوم‎ ‎وتأخذ النّاس حقوقهم وتحسن المعيشة ويؤدّى حقّ الطّاعة ‏ويرزق الله العافية‏‎ ‎والسّلامة ويقيم الدّين ويجري السّنن والشّرائع في مجاريها. واشتدّ في أمر‎ ‎الله ‏عزّ وجلّ وتورّع عن النّطف وامض لإقامة الحدود. وأقلّ العجلة وأبعد عن‎ ‎الضّجر والقلق ‏واقنع بالقسم وانتفع بتجربتك وانتبه في صمتك واسدد في منطقك‎ ‎وأنصف الخصم وقف عند ‏الشّبهة وأبلغ في الحجّة ولا يأخذك في أحد من رعيّتك‎ ‎محاباة ولا مجاملة ولا لومة لائم وتثبّت ‏وتأنّ وراقب وانظر وتنكّر وتدبّر‎ ‎واعتبر وتواضع لربّك وارفق بجميع الرّعيّة وسلّط الحقّ ‏على نفسك ولا تسرعنّ‎ ‎إلى سفك دم، فإنّ الدّماء من الله عزّ وجلّ بمكان عظيم انتهاكا لها بغير‎ ‎حقّها. وانظر هذا الخراج الّذي استقامت عليه الرّعيّة وجعله الله للإسلام‎ ‎عزّا ورفعة ولأهله ‏توسعة ومنعة ولعدوّه وعدوّهم كبتا وغيظا ولأهل الكفر‎ ‎من معاديهم ذلّا وصغارا فوزّعه بين ‏أصحابه بالحقّ والعدل والتّسوية‎ ‎والعموم ولا تدفعنّ شيئا منه عن شريف لشرفه ولا عن غني ‏لغناه ولا عن كاتب‎ ‎لك ولا عن أحد من خاصّتك ولا حاشيتك ولا تأخذنّ منه فوق الاحتمال له. ‏ولا‎ ‎تكلّف أمرا فيه شطط. واحمل النّاس كلّهم على أمر الحقّ فإنّ ذلك أجمع‎ ‎لأنفسهم وألزم ‏لرضاء العامّة. واعلم أنّك جعلت بولايتك خازنا وحافظا‎ ‎وراعيا وإنّما سمّي أهل عملك رعيّتك ‏لأنّك راعيهم وقيّمهم. فخذ منهم ما‎ ‎أعطوك من عفوهم ونفّذه في قوام أمرهم وصلاحهم وتقويم ‏أودهم. واستعمل عليهم‎ ‎أولي الرّأي والتّدبير والتّجربة والخبرة بالعلم والعمل بالسياسة‎ ‎والعفاف. ووسّع عليهم في الرّزق فإنّ ذلك من الحقوق اللّازمة لك فيما‎ ‎تقلّدت وأسند إليك فلا ‏يشغلك عنه شاغل ولا يصرفك عنه صارف فإنّك متى آثرته‎ ‎وقمت فيه بالواجب استدعيت به ‏زيادة النّعمة من ربّك وحسن الأحدوثة في عملك‎ ‎واجتررت به المحبّة من رعيّتك وأعنت على ‏الصّلاح فدرّت الخيرات ببلدك وفشت‎ ‎العمارة بناحيتك وظهر الخصب في كورك وكثر خراجك ‏وتوفّرت أموالك وقويت بذلك على ارتياض جندك وإرضاء العامّة بإفاضة العطاء فيهم من‎ ‎نفسك وكنت محمود السّياسة مرضيّ العدل في ذلك عند عدوّك وكنت في أمورك‎ ‎كلّها ذا عدل ‏وآلة وقوّة وعدّة. فنافس في ذلك ولا تقدّم عليه شيئا تحمد‎ ‎عاقبة أمرك إن شاء الله تعالى. واجعل ‏في كلّ كورة من عملك أمينا يخبرك‎ ‎أخبار عمّالك ويكتب إليك بسيرهم وأعمالهم حتّى كأنّك مع ‏كلّ عامل في‎ ‎عمله معاين لأموره كلّها. فإن أردت أن تأمرهم بأمر فانظر في عواقب ما أردت‎ ‎من ذلك فإن رأيت السّلامة فيه والعافية ورجوت فيه حسن الدّفاع والصّنع‎ ‎فأمضه وإلّا فتوقّف ‏عنه وراجع أهل البصر والعلم به ثمّ خذ فيه عدّته فإنّه‎ ‎ربّما نظر الرّجل في أمره وقدّره وأتاه ‏على ما يهوى فأغواه ذلك وأعجبه‎ ‎فإن لم ينظر في عواقبه أهلكه ونقص عليه أمره. فاستعمل ‏الحزم في كلّ ما أردت‎ ‎وباشره بعد عون الله عزّ وجلّ بالقوّة. وأكثر من استخارة ربّك في جميع‎ ‎أمورك. وافرغ من يومك ولا تؤخّره لغدك وأكثر مباشرته بنفسك فإنّ للغد‎ ‎أمورا وحوادث تلهيك ‏عن عمل يومك الّذي أخّرت. واعلم أنّ اليوم إذا مضى ذهب‎ ‎بما فيه وإذا أخّرت عمله اجتمع ‏عليك عمل يومين فيثقلك ذلك حتّى تمرض‎ ‎منه. وإذا أمضيت لكلّ يوم عمله أرحت بدنك ونفسك ‏وجمعت أمر سلطانك وانظر‎ ‎أحرار النّاس وذوي الفضل منهم ممّن بلوت صفاء طويّتهم ‏وشهدتّ مودّتهم لك‎ ‎ومظاهرتهم بالنّصح والمحافظة على أمرك فاستخلصهم وأحسن إليهم وتعاهد ‏أهل‎ ‎البيوتات ممّن قد دخلت عليهم الحاجة واحتمل مئونتهم وأصلح حالهم حتّى لا‎ ‎يجدوا لخلّتهم ‏مسّا وأفرد نفسك للنّظر في أمور الفقراء والمساكين‎ ‎ومن لا يقدر على رفع مظلمته إليك . ‏والمحتقر الّذي لا علم له بطلب حقّه فسل عنه أحفى مسألة ووكّل بأمثاله أهل‎ ‎الصّلاح من ‏رعيّتك ومرهم برفع حوائجهم وحالاتهم إليك لتنظر فيما يصلح‎ ‎الله به أمرهم وتعاهد ذوي ‏البأساء وأيتامهم وأراملهم واجعل لهم أرزاقا‎ ‎من بيت المال اقتداء بأمير المؤمنين أعزّه الله تعالى ‏في العطف عليهم‎ ‎والصّلة لهم ليصلح الله بذلك عيشهم ويرزقك به بركة وزيادة. وأجر للأضرّاء‎ ‎من بيت المال وقدّم حملة القرآن منهم والحافظين لأكثره في الجراية على‎ ‎غيرهم وانصب ‏لمرضى المسلمين دورا تأويهم وقوّاما يرفقون بهم وأطبّاء‎ ‎يعالجون أسقامهم وأسعفهم بشهواتهم ‏ما لم يؤدّ ذلك إلى إسراف في بيت‎ ‎المال. واعلم أنّ النّاس إذا أعطوا حقوقهم وأفضل أمانيّهم لم ‏يرضهم ذلك ولم‎ ‎تطب أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم طمعا في نيل الزّيادة وفضل الرّفق‎ ‎منهم. وربّما تبرّم المتصفّح لأمور النّاس لكثرة ما يرد عليه ويشغل‎ ‎فكره وذهنه فيها ما يناله به ‏من مئونة ومشقّة. وليس من يرغب في العدل‎ ‎ويعرف محاسن أموره في العاجل وفضل ثواب ‏الآجل كالّذي يستقبل ما يقرّبه إلى‎ ‎الله تعالى ويلتمس رحمته وأكثر الإذن للنّاس عليك وأبرز ‏لهم وجهك‎ ‎وسكّن لهم حواسّك واخفض لهم جناحك وأظهر لهم بشرك ولن لهم في المسألة‎ ‎والنّطق واعطف عليهم بجودك وفضلك. وإذا أعطيت فأعط بسماحة وطيب نفس والتماس‎ ‎للصّنيعة والأجر من غير تكدير ولا امتنان فإنّ العطيّة على ذلك تجارة‎ ‎مربحة إن شاء الله ‏تعالى. واعتبر بما ترى من أمور الدّنيا ومن مضى قبلك من‎ ‎أهل السّلطان والرّئاسة في القرون ‏الخالية والأمم البائدة. ثمّ اعتصم في أحوالك كلّها باللَّه سبحانه وتعالى والوقوف عند‎ ‎محبّته ‏والعمل بشريعته وسنته وبإقامة دينه وكتابه واجتنب ما فارق ذلك‎ ‎وخالفه ودعا إلى سخط الله عزّ ‏وجلّ. واعرف ما يجمع عمّالك من الأموال وما‎ ‎ينفقون منها ولا تجمع حراما ولا تنفق إسرافا. ‏وأكثر مجالسة العلماء‎ ‎ومشاورتهم ومخالطتهم وليكن هواك اتّباع السّنن وإقامتها وإيثار مكارم‎ ‎الأخلاق ومعاليها وليكن أكرم دخلائك وخاصّتك عليك من إذا رأى عيبا فيك لم‎ ‎تمنعه هيبتك عن ‏إنهاء ذلك إليك في سرّك وإعلانك بما فيه من النّقص فإنّ‎ ‎أولئك أنصح أوليائك ومظاهرون لك ‏‏. وانظر عمّالك الّذين بحضرتك وكتّابك‎ ‎فوقّت لكلّ رجل منهم في كلّ يوم وقتا يدخل فيه عليك ‏بكتبه ومؤامراته وما‎ ‎عنده من حوائج عمّالك وأمور الدّولة ورعيّتك ثمّ فرّغ لما يورد عليك من ‏ذلك‎ ‎سمعك وبصرك وفهمك وعقلك وكرّر النّظر فيه والتّدبّر له فما كان موافقا‎ ‎للحقّ والحزم ‏فأمضه واستخر الله عزّ وجلّ فيه وما كان مخالفا لذلك فاصرفه‎ ‎إلى المسألة عنه والتّثبّت منه ولا ‏تمننّ على رعيّتك ولا غيرهم بمعروف‎ ‎تؤتيه إليهم. ولا تقبل من أحد إلّا الوفاء والاستقامة ‏والعون في أمور أمير ولا تضعنّ المعروف إلّا على ذلك. وتفهّم كتابي إليك وأنعم‎ ‎النّظر فيه ‏والعمل به واستعن باللَّه على جميع أمورك واستخره فإنّ الله عزّ‎ ‎وجلّ مع الصّلاح وأهله وليكن ‏أعظم سيرتك وأفضل رغبتك ما كان للَّه عزّ‎ ‎وجلّ رضى ولدينه نظاما ولأهله عزّا وتمكينا ‏وللملّة والذّمّة عدلا‎ ‎وصلاحا وأنا أسأل الله أن يحسن عونك وتوفيقك ورشدك وكلاءتك والسّلام. ‏وحدّث‎ ‎الأخباريّون أنّ هذا الكتاب لمّا ظهر وشاع أمره أعجب به النّاس واتّصل‎ ‎بالمأمون فلمّا ‏قرئ عليه قال ما أبقى أبو الطّيّب يعني طاهرا شيئا من أمور‎ ‎الدّنيا والدّين والتّدبير والرّأي ‏والسّياسة وصلاح الملك والرّعيّة وحفظ السّلطان وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة إلّا وقد أحكمه ‏وأوصى به ثمّ أمر‎ ‎المأمون فكتب به إلى جميع العمّال في النّواحي ليقتدوا به ويعملوا بما فيه‎ ‎هذا ‏أحسن ما وقفت عليه في هذه السّياسة والله أعلم”.(تأريخ ابن خلدون/380ـ 388). لا أظن بعد ‏هذا العرض المشوق هناك حاجة للتعليق.‏

علي الكاش