على مدى عمره الشعري الذي دام نحو ثمانين عاماً واجه الشاعرالعظيم محمد مهدي الجواهري (1998- 1997) معارك وخصومات ثقافية وسياسية وما بينهما بسبب مواقفه ورؤاه التنويرية الداعية الى النهوض والارتقاء العراقي والعربي بل والانساني أيضاً…
وقد تعددت تلكم الخصومات كما سنحاول ان نوضح من وجوه وشخصيات ورموز ومعها. الى جانب تطاولات من طالبين علو بأي ثمن كان!… وفي جميع ردود الشاعر والرمز الوطني الخالد ومواجهاته أعتمد التعميم بعيداً عن الشخصنة والشؤون الذاتية لأسباب نزعم ان من أهمها اثنان أولهما: سعيه لأن تكون آراؤه ورؤاه شاملة في دوافعها ومعالجاتها… والآخر هو اصراره ألا يدخل التاريخ أسماء وشخصيات يُخلدون وان هجاءً في ديوان شعره العامر…
وسألت الجواهري ذات نهار في براغ أواسط الثمانينات وكان رائق المزاج يتحمل مثل تلكم الأسئلة المثيرة على أقل وصف ومنها: انك مزدوج في المواقف من المتطاولين وحتى النقاد… فمرة تعتمد مقولتك ولقد سكت مخطاباً اذ لم أجد من يستحق صدى الشكاة مخاطباً عام 1949 أو ترفع فوق هامهم وطرْ عن أرضهم صعدا عام ( 1976) ..أو مقولة شعرية قديمة تقول:
كبرت عن المديح فقلت أهجو كأنك ما كبرت عن الهجاء…
ولكنك في احايين اخرى ترد على متطاولين وغيرهم بشكل مباشر وقسوة مثل قولك عام ( 1953 ):
عدا علي كما يستكلب الذيب قوم ببغداد أنماط أعاجيبُ
… او ما جاء في رباعيتك (1959-1960):
سيسبُ الدهرُ والتاريخ من اغرى بسبي…
يا لويل المشتلي كلباً لسبٍ المتنبي
…. وكان جواب الشاعر الخالد مباشراً وموجزا ومعبرا في آن واحد و بما معناه ان لكل حادث حديث ولكل موقعة نزالها ولكل ظرف متطلباته كما لكل معتدٍ ومسف ما يستحقه وخاصة من لم يتعظ منهم …
ويعرف المتابع الحريص ان الجواهري كان ذا ثقة متناهية بالنفس منذ عشريناته وقبل ان يتربع عرش الشعر العراقي والعربي بسنوات طويلة.. ومن ضمن ما يمكن التأشير اليه هنا عن ردوده وعنفه وأنفته وهو ما برح يافعا متطلعاً ما جاء في تضمين نونية له اواسط العشرينات:
ولو اني بليتُ بهاشميّ خؤولته بنو عبد المدانِ
لهان على ما القى ولكن هلموا وانظروا بمن ابتلاني
وتينك البيتان اعلاه يذكراننا ببييت للشاعر الخالد جاء في بائيتـــه العصماء عام 1949 ونصـه:
لقد أُبتلوا بيّ صاعقا متلهباً وقد أُ بتُليتُ بهم جهاماً كاذبا
.. ثم تستمر تلكم القسوة والعنف الجواهري في مختلف مراحل حياته الشعرية فذاك هو قائل عام ( 1935 ):
فإن تراني أُذكي القوافي بنفثةٍ أرى اني على كتمانها غير صابرِِِ
… وفي مقصورته الاربعينية:
بماذا يخوفني الأرذلون وممَّ تخاف صلال الفـــلا
اذا شئت أنضجت نضج الشواء جلوداً تعاصت فما تشتوى
وابقيت من ميسمي في الجباهِ وشماً كوشم بنات الهوى …
… وهكذا في الخمسينات والستينات والسبعينات والثمانيات… وحتى في التسعينات ويطول الحديث وتكثر الشواهد ولكل ذلك أسانيد ووقائع وشواهد عسانا نتابعها في فترات لاحقة مقرونة بما عندنا من شهادات ومعايشات …
**********************
ودعونا نعود الآن للقسم الثاني من عنوان كتابتنا اليوم عن الجواهري وآداب الخصام فأقول انه مع كل قسوته وعنفه أعيدُ مجددا التنويه الى ان غالبية ردوده وانتقاداته راحت تتجاوز المعنيين إلا في حالات محددة فكانت لا تحتاج إلا لبعض جهد لكي يُعرف من هم أصحابها!… ومن بينها ما جاء في قصيدته عام (1948):
وزعيم قومٍ كالغراب به صغََـَـرٌ وفي خطواتهِ كِبرُ…
بادي الغباء تكاد تقرأه بالظن لا خًبَرُ ولا خُبرُ
أضحى وزيرا فأغتذى رهِقاً مثلالحمار يؤوده الوزرُ
…أو في قصيدة اي طرطرا الشهيرة وفيها ترميزات لاسماء معروفة :
شامخةً شموخَ قرن الثور بين البقر
أقذر من ذبابةٍ في مستحم قذر
فهي تطير حرةُ جناحها لم يُعر..
….. وهو – الجواهري- يروح كما سبق القول لكي يثير في هجائه الناس والقراء ويدفعهم للمسار العام برغم ان ثمة مقصودين محددين في تلكم الهجوة أو ذلك البيت من القصيد… وهاكم مثالاُ يقرب الصورة أكثر بشأن ما نعني حين قال في نونيته الشهيرة دجلة الخير (1962):
جبْ أربعَ النقد واسأل عن ملامحها فهل ترى من نبيغ ٍ غير مطعونِ..
عادى المعاجمَ وغـدٌ يستهين بها يحصي بها ابجديات ويعدوني
شُلتْ يداك وخاست ريشة غفلتْ عن البلابل في رسم السعادينِ
…..او ما جاء في داليته الأخرى عام 1974:
ومخنث ٍ لم يحتسب في ثيّب ٍ خيطت وبكر ِ
أقعى وقاد ضميره ملآن من رجس ٍ وعُهر …
غالٍ كأرخص ما تكون أجورُ غير ذوات طهر ِ
لم يُعل ِ قدري مدحه وبذمه لم يُدن ِ قدري …
… أو ما شملته قصيدته سهرت وطال شوقي للعراق عام 1969:
ومنغول ٍ من التاتار وغْد ٍ تراضع والوغادةُ من فواق ِ
إلى يمن إلى حلب تسمى إلى مصر إلى درب الزقاق ِ
وكل ضاق بالملصوق ذرعاً وأيٌ فيه مدعاة التصاق ؟
أوجه القرد أم خلق البغايا أم النعرات أم نذر ِ الشقاق؟ ..
ولما حمت الأقدار ألقت به جيف البطون إلى العراق ِ …
ليجمع حوله سفلاً تلاقى كما التقتْ الخفافُ على الطراق ِ …
زنامى يعطفون على زنيم كما عطف الجناس على الطباقِِ
********************
وأعود لبعض الدردشات التي كانت شبه يومية مع الجواهري وعلى أزيد من خمسة عشر عاماً في براغ ودمشق فأزعم اني أحرجته مرة حين سألته عن أبيات داليته العاصفة عام 1974:
ولا تدعو الخصام يجوز حداً بحيث يروح رخصاً وابتذالا
تقحمتُ الوغى وتقحمتني وخضت عجاجها حرباً سجالا
وكان اجل من قارعت خصمٌ بنبل يراعه ربح القتالا
…..ومن ثم عودته في أبيات لاحقة من القصيدة ذاتها ليقول:
وما أنا طالب مالاً فأني هنالك تارك مالاً وآلا
ولا جاهاً فعندي منه أرث تليدٌ لا كجاهكم انتحالا…
حذار فكم حفرت لحود عارْ لأكرم منكم عماً وخالاً…
… وقد ردّ الشاعر العظيم على حرشتي بالقول: لقد كان عليّ ان أقسو لأمنع المزيد من التطاول… ورحمة بالمعنيين بهم وبنسلهم! فيدخلوا التاريخ من أضيق أبوابه ولكي يكفوا ويعرفوا حجومهم وقد كفوا حقا. إذ لم يردّ او يُجب احد من الذين تطاولوا ولقوا جزاءهم شعرا ولا بحرف واحد احترازا من الاقسى والأّشد … وبحسب رأيه أيضاً:
فيا طالما كانَ حدّ البَغِيّ يُخفّفُ مِن فحشِ أهل البِغا
وبمناسبة الحديث عن حجوم بعض المنتقِدين والمنتقـَـدين أنقل هنا كشاهد عيان عن ثورة الجواهري العاصفة أواسط الثمانيات الماضية حين نشر محرر أو كاتب مغمور (وما أكثرهم اليوم) مادة في صحيفة تشرين الدمشقية الاشهر في زمانها وقد تجاوز بعض حدوده فيها… فما كان من الشاعر الخالد إلا ويقرر مغادرة دمشق والضيافة الرئاسية على الفورغاضباً ومحتجاً لشكه بان ثمة مسؤولين وقصد وراء ما كُتب ولم يتراجع- الجواهري- الا بعد تدخل قيادات سياسية وبعد اعتذار رسمي… وقد نُشر له ردٌّ عنيف في مغزاه ومعناه وبشكل بارز في الصحيفة ذاتها وأذكر انه حاجج في ذلكم الرد كيف اصبحت الأمور اليوم تسف كتاباً وصحفاً سيارة بعد ان كانت الحوارات والنقاشات على مستوى المتنبي وابن خالويه في الفترات القديمة وبين العقاد وطه حسين في العقود الأخيرة… وثم كيف انحدرت الآداب ليكتب من يكتب وينشر من ينشر على ذمة يافطات حرية الرأي وديقراطية الثقافة ودون حساب للتاريخ والجغرافية والأصل والفصل…
وبهدف التوكيد على ما أشرت اليه في السطور السابقات استشهد هنا ايضاً بما قاله الجواهري في ذات المسار عام ( 1982) ليقصد مسفين ومتطاولين وليصول عليهم ويجول فيهم:
كم هزّ دوحك من قزم يطاوله فلم ينله ولم يقصر ولم يطل
وكم سعت امعات ان يكون لها ما ثار حولك من لغوٍ ومن جدل
وعلى ذات نهجه ورؤاه في آداب الخصام وأصوله نقرأ للجواهري الخالد مناقشة وجدلاً اجزم انه الابرز في كل نثرياته الادبية والفكرية والصحفية وذلك مع طه حسين احتوته مقدمة الجمهرة التي اصدرها الشاعر الخالد في عدة مجلدات أواسط الثمانينات الماضية… فمع كل ملاحظاته وقسوتها إلا انه اعاد ولمرات ومرات الاعتراف بـأستاذية ومكانة من كان يناقشه…
ولأن الشيء بالشئ يذكر نتوقف هنا أيضاً عند بعض رسائل وتحايا واستذكارات الجواهري وكذلك اخوانياته الأنيقة المتميزة برغم انه كان ما كان بينه وبين أصحابها من خلافات وخصومات. وتحضرني هنا ابيات قصيدة ذات صلة وهي في الموقف من د. سهيل ادريس حين خاطبه الجواهري معاتباً وغاضباً عام 1969:
وصاحبٍ لي لم أبخَسْهُ موهِبةً وإنْ مشَتْ بعتابٍ بيننا بُرُد
نفَى عن الشعرِ أشياخاً وأكهِلـَـة يُزجى بذاك يراعاً حبرُه الحَردُ
وما أراد سوى شيخٍ بمُفردِه لكنَّهُ خافَ منه حين يَنفرد
بيني وبينَك أجيالٌ مُحَكَّمَةٌ على ضمائرها في الحكم يُعتَمدُ
ثم دعوني أذكّر أيضاً بمقطوعته ذات الستة أبيات التي يخاطب فيها نفسه عام (1952) والتي جاء مطلعها وكذلكم ختامها ليوثـق من جديد ما عنيناه في هـذه الحـال أو تلـــك :
غذيّتْ بشتمك – سيدَ الشعراء – ديدانُ أوبئة ٍ بغير ِ غذاء ِ
علقت زواحفها بمجدك مثلما طمعَ العليق ُ بدوحة علياء ِ …
نفسي الفداءُ لمخلص متعذبِ اما الدعيّ ففدية لحذائي
… وللقارئ والمتابع ان يقدر كم هو وسع الهضيمة التي عانى منه الجواهري ليكتب بمثل تلكم القسوة والمباشرة وهو القائل يصف نفسه ويُسبب غضبه وفي اكثر من مرة بمثل ما أورده ضمن ميميته الثائرة عام 1963والشهيرة بقلبي لكردستان:
يا ابن الشمالِ ولست مسعر فتنة انا في وداعتي الحمام وأنعمُ
يهتاجني ذبح النعاجِ وأغتلي لشويهة عن صدر شاةٍ تفطم
فإذا استثرتُ فعاذري نفس بكل دنيئة تتبرمُ
*******************************
أخيراً يهمني أن أنوه هنا لجميع من يهمه الأمر ان ثمة رسالة دراسية بعنوانهجائيات الجواهري قدمها الباحث المتميز عادل ناجح عباس البصيصي ونال عليها درجة الماجستير عام 2011 وفيها جهد كبير ومتميز ومفصل يتناغم معه الكثير مما جاء في هذه الكتابة التوثيقية .
كما كم يهمني ايضاً أن أشير في الاخير وحقاً هذه المرة الى ان بعض دوافع كتابتي لهذه المادة هو ما عجت وتعج به بعض مواقع الانترنيت وغيرها من وسائل اعلام واتصال من مواضيع وكتابات هزيلة مليئة بالسباب المشهر او المبطن والشعبوية والشخصنة دعوا عنكم الأخطاء النحوية والاملائية.. وغالبية اصحاب تلكم الكتابات وإن تدرعوا بالقاب وصفات دراسية أو مهنية لم يؤمنوا بل ولم يسمعوا بتلكم المقولة العتيدة: رحم الله أمرئ عرف حده فوقف عنده .. والى ذلك فلينتبه المعنيون !!!.