بعد ما يسمى عصر النهضة العربية في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر كان المسار الذي سارت عليه النخبة المثقفة في العالم العربي والمنطقة الإسلامية عموماً هو الاحتذاء بالتجربة الأوربية بركن الدين في زوايا مغلقة وعدم السماح له بالدخول إلى الحياة السياسية والاجتماعية، وأخذت التيارات العلمانية تضغط بهذا الاتجاه، فشعارات أمثال(فصل الدين عن الدولة) و(الدين افيون الشعوب) .. أصبحت مألوفة جداً، حتى غدت النخب المثقفة تلقي باللوم على التراث الفكري للأمة في تخلفها وعدم السير بركب الحضارة والمدنية الغربية والتطور العلمي والتكنولوجي، وقد دارت سجالات كثيرة في هذا الموضوع، فمنهم من رأى أن السبب الرئيس في تخلف الأمة هو ابتعادها عن دينها ورسالتها الإسلامية، بينما رأى الآخر كما أسلفنا أن السبب هو في هذا التراث الفكري، بينما يرى آخرون أن العادات والتقاليد المجتمعية البالية هي من سبَّبت هذا الوضع المزري ولا دخل للدين في هذا.
ظهرت في النصف الأول من القرن العشرين عدة شخصيات طالبت بتصدي الدين للأمور السياسية والتصدي للحكم ورفعت شعار الإسلام هو الحل، ولعل أبرز تلك الحركات التي نادت بذلك هي جماعة الإخوان المسلمين في مصر التي أسسها(حسن البنا) وتزعمها فيما بعد(سيد قطب)، وكذلك ظهر في إيران ما يناظر ذلك.
أما في النصف الثاني من القرن العشرين فحدثت تحولات كبيرة في المنطقة العربية والإسلامية منها وصول المد الشيوعي إليها بقوة وكان حقاً تياراً عارماً اكتسح قطاعات واسعة من النخب المثقفة و” الطبقات الكادحة” بيد أن الجماعات التي دعت إلى إرجاع الدين للحياة العامة هي الأخرى ضغطت بثقلها على الساحة، وحركة السيد(روح الله الخميني) كانت الأبرز؛ إذ تكللت مطالبتها في إقامة الحكومة الإسلامية بالنصر في عام 1979، بعد حملة توعوية في هذا الإطار وتعبئة جماهيرية وصدام سياسي مع سلطات الشاه.
لكن الحركة الإسلامية في العراق على الرغم من رصانة النظرية وعمق الرؤية لم يتكلل طريقها بالنجاح، لعدة أسباب ربما منها البيئة الاجتماعية الحاضنة للتجربة والقمع السياسي والمحيط الإقليمي، وكان نتيجة ذلك سقوط عشرات الآلاف من الشهداء بحراب السلطة الدكتاتورية في العراق.
إن الحركة الإسلامية في العرق تزعمها بلا منازع السيد الشهيد(محمد باقر الصدر) منذ خمسينات القرن المنصرم، وذلك عبر مشروعه الفكري والسياسي، فقد نظَّر لذلك كثيراً؛ لإعادة ثقة أبناء الأمة بتراثهم الفكري وإثبات إمكانية عودة التجربة الإسلامية إلى الحكم مرة أخرى، ففي الجانب الفسلفي طرح أفكاره في كتبه الشهير(فلسفتنا) أما في مجال النظرية الإسلامية في الاقتصاد فكان” اقتصادنا” أما في الجانب السياسي فكان كتابه” الإسلام يقود الحياة” سطَّر الخطوط العامة لملامح النظرية السياسية والدستور الإسلامي، ولم يكتفِ بذلك فقد خط يراعه البارع أروع ما كتب في نظرية المعرفة عند الفلاسفة العرب والمسلمين وهو كتاب(الأسس المنطقية للاستقراء) وكان مشروعه الذي لم يتمه في النظرية الاجتماعية كتاب “اجتماعنا” الذي لم يرَ النور، ولكن بعض تلامذة السيد الشهيد أبرز بعض ملامح ذلك المشروع(مشروع النظرية الإسلامية في الاجتماع) في مقالة هنا وإصدار هناك ..وهكذا.
إن التجربة الصدرية التي أجهضها قبل النظام الدكتاتوري محيطها الاجتماعي والديني قد عادت لترَ النور في منتصف العقد التسعيني من القرن الماضي على يد السيد(محمد الصدر) وكان أبرز ما تحقق في هذه التجربة ولم يتحقق في سابقتها هو التعبئة الجماهيرية والنزول إلى طبقات الأمة وشرائحها كافة واندماج الجماهير بقائدها، لكن السلطات البعثية المتمثلة بالنظام الصدامي أبت أن يفلت العقال من يدها بعدما رأت التحول الاجتماعي الكبير آنذاك فبادرت إلى اغتياله هو وولديه ملتحقاً بركب رجالات هذه التجربة التي عبد طريقها بالدماء.
ولم تنتهِ التجربة الصدرية عند هذا الحد بل كان مسيرها متواصلاً بيد أن التجاذبات السياسية والاختلافات الفقهية الطفيفة والمصالح الفئوية كانت المقص الذي قطع أوصال الثوب الإسلامي الذي تلفعت به، وأصبحت طرائق قدداً لا تعرف الوجهة التي تنحو نحوها، بل أكثر من ذلك غدت تلك الأوصال إلى التحالف مع أعداء بعضها البعض؛ من أجل إسقاط الآخر، فابتعدت عن التجربة الصدرية الناصعة للصدرين العظيمين، ونحن بانتظار أن يمنَّ الله علينا برجل فذّ بحجم الصدرين العظيمين أو أكبر؛ كي ينقذ الأمة من الشتات والضياع التي وقعت فيه مرغمة أو من جراء اختيارها الخاطئ وتكليل التجربة بالنصر المؤزر بإقامة الحكومة الإسلامية وفق نظرية متطورة تمكنها من قيادة المجتمع والدولة.

بقلم: علي محمد البهادلي