شخصية الانسان ومزاجه النفسي وذوقه الفكري تتشكل وفقا للتنشئة الاجتماعية ، والتنشئة الاجتماعية عبارة عن بيئة الافكار والقيم التي تتحرك في المجتمع خلال عمر الانسان ، ولذا كان دور المعلم والمدرس واستاذ الجامعة من اهم الادوار التي تضخ الافكار والقيم والاخلاق لهذا الانسان ضمن محيط التنشئة الاجتماعية ، وبسبب تحطيم الاستاذ كمحتوى فكري وثقافي وقيمي امام صخرة الديكتاتورية وفكرها المتخلف التي عشنا في ثناياها خلال الفترة المنصرمة جعل مهمة التحول من ثقافة ديكتاتورية الى ثقافة ديمقراطية وانسانية مهمة صعبة جدا ومسيرة طويلة زمنيا…
دور المعلم والمدرس والاستاذ دورا رئيسيا في عملية التحول الثقافي واختزال زمنه ، وهذا الدور مبني على فرضية ان المعلم والمدرس والاستاذ يمتلك فكرا ووعيا وعلما وثقافة بمستوى اعلى كثيرا قياسا الى المجتمع ، ولكن مانشهده واقعا ان الفارق في الوعي يكاد لايذكر بسبب ضئآلته ، ولخصوصية شريحة استاذة الجامعات باعتبارهم المصداق الاعلى لصفة المعلم والذي تتجه الانظار الى دوره في تفعيل وتسريع عمليات التحولات الثقافية والقيمية والاخلاقية سنتناول بعض اوجه المأسآة التي يعيشها شعبنا العراقي  من خلال هذه الشريحة الاهم…..
يدخل التلميذ والطالب اروقة المحافل العلمية والاكاديمية ليستلهم من الاستاذ القيم والاخلاق والوعي وينشد العلم الذي جاء يطلبه ليخرج من هذا المحفل الى ميادين الحياة متسلحا بالادوات المطلوبة لبناء مجتمعه وبلده وفقا لمقاسات التحضر الانساني والتطور العلمي ، واذا ما فقد المحفل القيم والاخلاق والوعي والعلم المطلوب فبالتأكيد سيتخرج الطالب فاقدا لهذه الادوات ، وما نشهده في جامعاتنا وكلياتنا اليوم هو فقر واضح لهذه الادوات ، بل اصبح الاستاذ الجامعي لا يمكن تمييزه عن باقي شرائح المجتمع سلوكا وثقافة ووعيا ، وهذا التميز ينشأ من التزام الاستاذ العالي بما يسمى بالسلوك الحضاري ، واهم صور السلوك الحضاري هو الالتزام بالقانون العام لاشاعة ثقافة الالتزام بالقانون في الوسط الجامعي لتسري بالتالي الى المجتمع….
وسنأخذ مثلا دوام الاستاذ الجامعي في كليته لنستقريء تاريخيا عملية التحول في ثقافة الاستاذ الجامعي ومحتواه القيمي والاخلاقي :
قوانين الخدمة الجامعية القديمة الملغاة والحديث الساري اليوم نصت بشكل واضح بان دوام موظف الخدمة الجامعية لايقل عن 30 ساعة اسبوعيا ، وبعد استفساري من احد الاساتذة الكرام وممن له مدة طويلة في مهنة الاستاذ الجامعي عن مدى التزام الاستاذ الجامعي بدوامه قديما ، كانت اجابته : بان الاستاذ الجامعي قديما كان ملتزما بالدوام ذاتيا ودونما حاجة الى توقيع في سجل الحضور والانصراف بل كانت الكلية والقسم لا تتابع الاستاذ الجامعي في دوامه لعدم حاجتها للمتابعة ، هذه العبارة التي اجابها استاذنا الفاضل تدلل على التزام الاستاذ الجامعي بدوامه طوعيا ودونما قسر واكراه من قبل الدولة بمفاصلها التنفيذية ، ويدلل هذا بان الالتزام بالقانون كان ثقافة سارية لدى الاستاذ الجامعي ادراكا منه بان الالتزام بالقانون سلوك حضاري لاينبغي لاحد من الشرائح المهنية الاخرى ان يفوقه بهذا السلوك ، نعم كان هكذا الاستاذ الجامعي ملتزما بالسلوك الحضاري والقيم الانسانية الرفيعة مما انعكس على المحيط الاكاديمي والاجتماعي بصورة ايجابية ليجعل المجتمع العراقي حينها خاليا من الامراض السلوكية والقيمية تقريبا ، فلا رشوة سائدة ولافساد ضارب ولا تخلف سحيق في مجتمعنا حينها لانه استلهم ثقافته وقيمه وسلوكه من رموزه ومن هذه الرموز هو الاستاذ الجامعي…
اليوم وبعد الاطلاع على المحيط الاكاديمي يصابنا العجب والاحباط مما آل اليه حال الاستاذ الجامعي ، فالدولة متمثلة بمفاصلها التنفيذية وزارة جامعة كلية قسم فرضت بداية سجل الحضور والانصراف على الاستاذ الجامعي لتنفيذ القانون الذي حدد دوامه بما لايقل عن 30 ساعة ثم تعاظمت عملية القسر لتنفيذ القانون ليصل الى فرض نظام البصمة على الاستاذ الجامعي لجعله يلتزم بالقانون .
حالة مؤلمة نشهدها وتكشف لنا عن حجم المآساة التي نعيشها كشعب ، تولدت احتجاجات من اساتذة الجامعات على عملية فرض نظام البصمة حتى سمعنا ان احد رؤساء الجامعات يسميها الوصمة ، وكنت من اشد المحتجين والساعين لالغاء نظام البصمة وضمن التوجه الذي يرفض عدم ايلاء الثقة بالاستاذ الجامعي باعتباره احد الرموز التي يستلهم المجتمع منها القيم والثقافة والوعي والسلوك الحضاري ، بل وصل بي الامر ان افكر جديا للتحرك وفق ما كفل لنا الدستور والقانون من تنظيم احتجاجات او مظاهرات ضد نظام البصمة…. ولكن لم تمهلني الصدمة التي داهمتني حينما اطلعت على واقع الحال لتجعلني اقف مشدوها وحائرا ومترددا لاعيد حساباتي حول نظام البصمة….
في اجتماع لتدريسيي احد الاقسام العلمية في كلية تربية مع عميد الكلية كان احتجاج التدريسيين على البصمة تضمن اعتراضات كارثية تكشف عن ظاهرة تبين مدى انحدار اساتذة الجامعات المأسآوي عن مقام الرمزية في انتاج القيم السلوكية المتحضرة ، ومن هذه الاعتراضات التي وجهت الى عميد الكلية مع التعليق عليه :
•    بعض الجامعات والكليات والاقسام لا تطبق نظام البصمة فلماذا انتم ككلية تطبقوها؟؟؟!!!
التعليق : ان هذا الاعتراض ينبيء عن كارثة حقيقية ، فنظام البصمة قرار وزارة في دولة على تشكيلات ومنتسبي الوزارة ، وكان يفترض كاساتذة جامعات – سواء كانوا مع او ضد قرار فرض البصمة – يجب ان يحتجوا ويرفضوا قرارا للجامعة او للكلية او للقسم يلغي قرار الوزارة بفرض نظام البصمة ، ولسبب بسيط ان الاستاذ الجامعي يجب ان يكون الاحرص على تطبيق القانون والتعليمات واصدار القرارات ضمن الصلاحيات الممنوحة قانونا ، وبالتالي فان رئاسة الجامعة والعمادة ورئاسة القسم وباعتبارهن مفاصل ادارية يجب ان تلتزم بتنفيذ قرار الاعلى لعدم امتلاك صلاحية عدم التنفيذ ، ودعوة الادنى لعدم الالتزام بقرار الاعلى دعوة تتناقض مع السلوك الحضاري والحرص على بناء دولة يسود فيها القانون ، وهكذا دعوة تجعل اصحابها لايستحقون ان يطلق عليهم صفة الاستاذ الجامعي المعروفة عالميا واجتماعيا…
ويتضمن هذا الاعتراض ايضا مساندة للذين يسعون غباءا او مرضا من رؤساء الجامعات وعمداء الكليات ورؤساء الاقسام الى عدم تطبيق قرار الوزارة لنظام البصمة ، وكان المفترض ان يعترض الاساتذة – انسجاما مع مكانتهم المفترضة – على الذي لم يطبق قرار الوزارة لا على الذي يطبق القرار ويلتزم بتنفيذ القانون والتعليمات ، والا اي دولة يريد هؤلاء الاساتذة بنائها ، نعم يحق لهم كل الحق ان يعترضوا ويحتجوا على الوزارة والوزير على قرار نظام البصمة وبالاساليب التي كفلها الدستور والقانون في نفس الوقت الذي يجب عليهم مطالبة الحلقات الادنى في تشكيلات الوزارة بوجوب تنفيذ قرارات الحلقات الاعلى انتصارا للقانون وبناء دولة يسود فيها القانون ، وهذا ما نفتقده . انتهى التعليق

اضافة الى بعض الاعتراضات المخجلة التي سمعتها هنا وهناك اربأ بنفسي وبأساتذة الجامعات ان اذكرها ، وعلى العموم جعلني الواقع اقف متأملا دون ان اصل الى قرار حاسم بمواصلة احتجاجي ورفضي لنظام البصمة وبين ان انتصر الى قرار البصمة او الوقوف على التل ، ولعل قرار الوزارة بفرض نظام البصمة كان حاجة موضوعية لما يشهده المحيط الاكاديمي من تسيب بالدوام خلافا للقانون مما يؤثر على بناء الدولة والمجتمع بالمدى الابعد ،  وربما ابرر هذا القرار بما سمعته من احدى الاستاذات الفاضلات والمتقاعدة حاليا حينما ذكرت حديثا – اثناء دراستها على الدكتوراه في بريطانيا- من سيدة عجوز بريطانية كانت تسكن عندها : بان الديمقراطية في بريطانيا فرضت علينا كبريطانيين بالعصا التي اجبرتنا على الالتزام بالقانون ليتحول الالتزام الى ثقافة عامة نتعاطاها في حياتنا العامة…
لا ادري حقا الى ماذا ادعو؟؟؟ هل ادعو الى تطهير محيطنا الاكاديمي من الذين لايستحقون ان تطلق عليهم صفة الاستاذ الجامعي ؟؟؟ ام هل ادعو الى استخدام القسر لجعل الالتزام بالقانون والاعراف والتقاليد الاكاديمية ؟؟؟ ام هل ادعو الى ترك الحال على ماهو عليه ليبتعد الامل باختزال زمن التحول الثقافي والقيمي والاخلاقي الى الديمقراطية والمفاهيم الانسانية النبيلة؟؟
نعم سأنتظر دراسات ربما من خلالها نكتشف الطريق الاقصر والامثل والاسلم نحو بناء دولة مزدهرة ومجتمع نظيف من الامراض من خلال بناء الاستاذ الجامعي ليستحق دوره ومكانته المفترض .

ناصر سعيد البهادلي