الاتجاه الصوفي في كتاب (الدين والظمأ الانطولوجي)
علي جابر الفتلاوي
في كتاب (الدين والظمأ الانطولوجي) للدكتور عبد الجبار الرفاعي محاور فكرية وفلسفية عديدة، يعطي فيها رؤيته في هذه المحاور، إضافة لبيان رؤاه في الدين وفق رؤية عصرية لا تتقاطع مع الايمان، ولا مع الطقوس الدينية التي هي الهوية والعنوان، كالصلاة والصوم وغيرهما من الواجبات التي هي طقوس لا تتأثر بالآراء حسب الزمان والمكان.
يقول عن التجربة الدينية في كتابه (ص133) أنها:((تعني مواجهة الله وتذوق حضوره، وتحسس هذا الحضور روحيا. هي نحوُ تجلٍ وجودي للالهي في البشري)).عبارته تفصح عن رؤيته الصوفية، التي آراها رؤية سليمة، هذه الرؤية هي التي تلازم قلب المؤمن، فهي ثمرة الإيمان القلبي والروحي القريب من إيمان العارف، مشاعر إيمان الصوفي والعارف تتوائم مع العقل، ومع أهداف الدين الانسانية. يرى الدكتور الرفاعي أن رؤيته عن التجربة الدينية متوائمة مع تعبير المتصوف الهندوسي (رادهكرشنان) عندما وصف التجربة الدينية بقوله: ((أقوى برهان على وجود الله هو إمكان تجربته وإدراك حضوره. فالله معطى تجريبي ومضمون محسوس للتجربة، وحالة روحانية))(1)
يقول الدكتور الرفاعي: أن التجارب الدينية متنوعة، كتجربة الانجذاب والهيبة وتجربة الاعتماد، وتجربة الأمل، وتجربة الحب، وغير ذلك من التجارب، يرى أن الإيمان الديني يرتكز على هذه التجارب، ويرى أن التجربة الأعمق والأشد لهذه التجارب هي تجربة الأنبياء والأولياء والمتصوفة والقديسين، وعبارته تفصح أن هذه التجربة الدينية شاملة لكل الأديان، فهي حالة روحانية قلبية كما عبّر عنها، يرى أن هذه التجارب الدينية هي أعمق مستويات الأديان؛ وأن معارف الدين مهمتها تفسير هذه التجارب وتصنيفها، يرى أنّ ميراث التصوف المعرفي والعرفان النظري هو الأقرب لبيان حقيقة التجارب الدينية. فهو يميل لكفة ميراث التصوف العرفاني. لأنه يفرّق بين نوعين من التصوف كما سنرى.
العبادات من صلاة وغيرها عنده هي معراج الوصال مع الحق،(ص72)، أرى أنّ هذا هو سبيل المتصوف العارف، فالتصوف السليم والعرفان هما السبيل للوصال مع الحق تعالى، لكن عندما يسلك التصوف طريق الانفراد عن العرفان، يقع حينئذ في المحذورات والمحظورات، يعيش المتصوف عندئذ في عزلة، بعيدا عن مسار الدين الذي رسمه الانبياء والاولياء وأهل القرب من الله.
الدكتور عبد الجبار الرفاعي حسب ما استوحيت من صفحات كتابه، هو حسب تعبيره مع المتصوف والعارف الذي يؤمن أن الشريعة توصل إلى الطريقة والطريقة تقود إلى الحقيقة، ومن يتخلى عن الشريعة لا ينال الطريقة، وبالتالي لا يتذوق الحقيقة (ص72).
العبارات تعزل بعض المتصوفة الذين يبتعدون عن الشريعة بطريقتهم الخاصة وغالبا ما تكون فردية، وقد يكون معهم أتباع أفراد أيضا، فيعيشون في عالم منعزل عن الآخرين، عالم خاص بعيد عن المجتمع والواقع.
من يقرأ كتاب (الدين والظمأ الانطولوجي) يجد الايمان حالة انطولوجية وجودية لا تخضع للمعايير العقلية أو المنطقية، أنه إشراق روحي في القلب، وإيمان الدكتور الرفاعي هو من هذا النوع كما يصرح في كتابه (80): ((إيماني حالة انطولوجية لا أستطيع الإطاحة بها)).
في رأيي هذا الايمان هو التصوف أو العرفان الذي يكون فيه الانسان مسيّرا من قلبه لا عقله، هذا النوع من الايمان مرحلة متقدمة من مراحل الإيمان، ويُعدّ هذا الاتجاه في التصوف إيجابيا، هو إشراق روحي لا يمكن توصيفه، كما عبّر الدكتور الرفاعي، وأضاف وهو يصف إيمانه ((من المحبة أو العشق الذي يغرق فيه قلبي)). يذهب (ص81) إلى أن من علامات الإيمان عند المتصوف والعارف هو الحيرة: ((ورد في ميراث التصوف المعرفي ما يؤشر إلى تبجيل الحائرين وتمجيد (الحيرة) وإن كان معناها لديهم يشي بعوالم الملكوت، ويحيل إلى الجمال والكمال في الأسماء الالهية، واغتراف السالك من ذلك الجمال والكمال غير المحدود)). يقول: الحيرة ليست كما نفهمها التي تعني التيه والضلال، بل هي شعلة عقلية روحية عاطفية ملتهبة، هدفها إيقاظ الذات من غفوتها.
كلامه يُفصح عن تصوفه. لكن التصوف الإيجابي الفاعل والمتفاعل مع المجتمع. عبّر عن ذلك: (ص89 – 90): ((أنّي لست مع تصوف يخرج الفرد من العالم. نعم أتضامن مع شيء من مقولات التصوف المعرفي، الذي يثري الروح ويضيء القلب بجماليات الوجود، ويجعل الكائن البشري فاعلا في بناء هذا العالم.))
يرى أنّ المتصوف هو صاحب التجربة الدينية، ليس كل متصوف صاحب تجربة دينية، وليس كل صاحب تجربة دينية متصوفا. يرى ليس كل متصوف مقبولا يقول: (ص136): ((فقد يكون المتصوف خاويا روحيا هشا أخلاقيا، جائعا للمال والجاه غارقا بكل ما هو شكلي زائف، لا يمتلك أي ثراء معنوي، ويفتقر للمثول الحقيقي في حضرة الله، مثلما هو شأن طيف عريض ممن يمتهنون ذلك، وهم أقرب للمشعوذين منهم إلى ذوي التجارب الروحية، بغية نيل مكانة اجتماعية، أو مصالح حياتية، خاصة في مجتمعات تمنح مثل هؤلاء ألقابا دينية، وصفات قدسية، وتهبهم مكاسب مادية، وفرص عيش مجانية.))
الدكتور عبد الجبار الرفاعي لم يذكر لنا نماذج تأريخية من هؤلاء المتصوفة الذين يحملون الاسم دون المحتوى الروحي الإيماني، الذين يتخذون من التصوف وسيلة للحصول على المكاسب والمنافع، وهذا التصوف في الواقع بعيد عن خط التصوف العرفاني الذي يعيش أجواء القرب من الله.
استوحي من كلامه أن من هؤلاء فقهاء السلاطين، الذين يعملون لتحسين صورة الحاكم الظالم في عيون الجماهير، وأصدار الفتاوى حسب الطلب، ومثل هؤلاء كثيرون، إذ برزوا في الساحة الدينية منذ العصر الأموي حتى عصرنا الحاضر. اليوم تجني الشعوب المظلومة أثار فتاواهم السلطانية الجاهزة.
يرى الدكتور عبد الجبار الرفاعي نمطين للتصوف، تصوف الدراويش والخانقاهات والتكايا والزوايا، وتصوف معرفي يعتمد العقل، يقرأ النصوص خارج إطار مناهج وأدوات القراءة والفهم والنظر الموروثة، التصوف المعتمد على العقل هو المقبول لأن التصوف الأول هو نوع من الرهبنة المبتذلة حسب اصطلاحه، لانه مرآة لتشوهات المسلمين يقول ص136: ((ترتسم فيه صورة تخلف المسلمين وجهلهم وأمراض التجربة التأريخية لزمان تراجع المسلمين، وتتفشى فيه أمراض وعاهات تقاليد الاسترقاق ومسالك الاستعباد مثل التربية على نفسية العبيد، وذهنية القطيع والرضوخ والطاعة العمياء لمشايخ الطرق الصوفيه، والهيام الذي يصل لمستوى العبادة للشيوخ والأقطاب والمشاهير منهم، وتقليدهم في كل شيء إلى درجة السعي للذوبان بهم. والعزلة والخروج من العالم، والهروب من الحياة، والتنكيل بمتطلبات الجسد، والتضحية بالغرائز والحاجلت الطبيعية … وغيرها.))
أما التصوف المقبول فهو الذي يتوافق مع العقل، يَعدّ هذا النوع من التصوف إيجابيا، لأنه يمنح المسلم أفقا رحبا في تأويل النصوص، وانتاج قراءات لمعنى النص تتوائم مع التطور في الميادين المختلفة، استطاع هذا النمط من التصوف الخلاص من التمسك بالشكل على حساب المعنى، كذلك يروي الروح المتعطشة للمقدس، فيحيا القلب كي يعيش في نور الايمان بالحق.
نرى في التصوف الايجابي يتعايش القلب والعقل كل في مجاله وفضائه، اللجوء الى القلب خارج باب العقل يقود الى التحنيط والجمود، ويؤول إلى التشبث بالشكليات على حساب المعاني المتجددة الفعالة، في كتابه (الدين والظمأ الانطولوجي) يعطي توصيفا لنمطين من التصوف، سمّى هذا النوع من التصوف الذي أركانه العقل والروح والقلب في كتاب آخر من كتبه(2) بالتصوف الفلسفي، تفريقا له عن علم الكلام، ونأمل كتابة مقال آخر عن هذا المحور ومن الله التوفيق.

المصادر:
(1): د. عبد الجبار الرفاعي، الدين والظمأ الانطولوجي، ص133، الحاشية: 2. (عن المصدر الذي اقتبس منه عبارة المتصوف الهندوسي) .
(2): د. عبد الجبار الرفاعي، الدين والاغتراب الميتافيزيقي، ص209- 217، ط1- 2018م.