صراعات الإسلام السياسي بمذاهبه المختلفة على السلطة السياسية يريق المزيد من دماء الأبرياء من أبناء الدين الواحد والأديان الأخرى, وكل طائفة أو مذهب يكفر الآخر في السر والعلن, ويدعي أفضليته وتفرده على الآخر بمزايا لا تزكيها الحياة ولا التاريخ, ويستعين بنصوص قرآنية وأحاديث نبوية لإثبات وجوده وإضفاء شرعية على ممارساته من قتل وتشريد وتصفيات واغتيالات وقطع للرؤوس والتفنن بطرائق التعذيب والقتل, من حرق وسحل واستباحة للأعراض بواجهات نكاح الجهاد والعضة الداعشية وارتكاب المجازر الجماعية في القتل كنموذج الإبادة في مجزرة سكايبر العراقية والتي راح ضحيتها أكثر من ألفين شهيد وما تلتها من مجازر متفرقة يومية يندى لها جبين الإنسانية, وما سمعناه مؤخرا في ليبيا من قطع لرؤوس الأقباط المصريين على ضفاف البحر المتوسط , سبقتها مجازر في صحراء سيناء المصرية, والقادم أسوء !!!.
لا يحق لأحد أن يفرض دينه أو أيمانه على الآخرين, مهما ظنه صحيحا. وليس لأحد أن يمنع الآخرين من ممارسة أيمانهم مهما ظنه خاطئا. تلك هي حرية العقيدة التي نادت بها الثورة الإنسانية الأوربية التي قامت على أنقاض سلطة الكهنوت الديني التي قامت على أساس صكوك الغفران, والتي مارست إرهابا دينيا واستبدادا وتعسفا وجمود فكري ومعاداة للتقدم, جسدتها محاكم التكفير, والتي كلفت أوربا ملايين الضحايا, حيث ارتكبت أبشع جرائم القتل والتعذيب الجسدي والنفسي.ومن يزور متاحف أوربا الخاصة بالقرون الوسطى يجد ما يجده من أدوات التعذيب الجسدي التي استخدمت آنذاك (منشار يقطع الجسد إلى نصفين,عجلة حديدية بأسنان طويلة مدببة تثرم الجسد,كرسي بمسامير طويلة في المقعد والتكية وسياط بسكاكين صغيرة….الخ),عدا عن ما ينقله لنا التاريخ المكتوب من بشاعة التنكيل من شوي للجسد وتعليق على الأبنية ,وقلع للعيون,ومحارق جماعية للرجال والنساء والأطفال.هذا هو الإرهاب الديني الذي استخدم ضد أبناء العقيدة الواحدة وضد العقائد الأخرى.أن ثمن الحرية في أوربا كان غاليا في توضيح حدود العلاقة بين الدين والسياسة وفي احترام الحريات الشخصية والمعتقدات الدينية على السواء.
اليوم يحيي التطرف الإسلامي بمذاهبه المختلفة, وخاصة السنية المتطرفة تقاليد الكهنوت الديني في السبي والقتل والتهجير والتعذيب وإراقة الدماء, أنها نسخة طبق الأصل من أوربا القرون الوسطى في الأخلاق الدينية والتعسف والتفسخ الأخلاقي, ولكن الفرق اليوم بين الحدثين هو فرق قرون من الحضارة والتمدن. أؤكد هنا إن منطق الثأر والثأر المتبادل بين أبناء الدين الواحد, السني منه المتطرف والشيعي المتطرف المغالي ” وخاصة في نموذج العراق بعد 2003 هو ابرز ما يعرقل مستقبل بلد بكامله, ويهدد أجيال قادمة في الاستقرار والعيش الكريم, إلى جانب الصراعات الاثنية والقومية الشوفينية التي تعيش على فتات صراع النظام الطائفي والمحاصاصاتي, وهي الأخرى تهدد بقائه !!!.
لعل نظرة متأنية وموضوعية منطلقة من روح الحرص على ما تبقى النواة المتواضعة للنظام الديمقراطي في العراق,تؤكد لنا أن نظام المحاصصة الطائفية والعرقية وما أنتجه من تعصب أعمى,ومنذ ولادته بعد 2003 لحد اليوم كان عائقا ومعطلا للعملية السياسية,حيث حلت في الممارسة العملية الانتماءات الضيقة محل ” علم السياسة ” لإدارة شؤون البلاد,مما جعل من أحزاب الطوائف والأعراق أمكنة للحشود البشرية وليست أمكنة لانتقاء وتدريب النخب السياسية لقيادة البلاد,وكأنها تعمل على قاعدة أن الحزب يساوي كل أبناء الطائفة أو العرق بما فيها من خيرين وأشرار,وتحولت إلى أمكنة للاحتماء بدلا من الاحتماء بالدولة والقضاء كمقومات للدولة العصرية,مما فوت الفرصة على الانتقاء والفرز على أساس الكفاءة السياسية والنزاهة,وليست لاعتبارات لا صلة لها ببناء دولة المواطنة,أنه سلوك يؤسس لمختلف الاختراقات السياسية والأمنية وشتى ألوان الاندساس.
كما أن نظام المحاصصة يعرقل جهود أي تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تقوم على منجزات العلوم الاقتصادية والاجتماعية ومنجزات التقدم التقني والتكنولوجي,وذلك من خلال إسناد المواقع الحساسة والمفصلية في الاقتصاد والدولة إلى رموز تنتمي طائفيا أو عرقيا ولا تنتمي إلى الكفاءات الوطنية أو التكنوقراط ولا تستند إلى انتقاء المواهب والقابليات الخاصة لإدارة الاقتصاد,بل حصرها بأفراد الطائفة أو إلى توافق من هذا النوع بين هذه الطائفة أو تلك ,أن هذه السياسة لا تؤسس إلى تنمية شاملة ,بل تؤسس إلى ” إفساد للتنمية “,وقد عززت هذه السياسات من استفحال الفساد بمختلف مظاهره من سرقات وهدر للمال العام ومحسوبية ومنسوبيه وحتى الفساد الأخلاقي بواجهات دينية مزيفة لا صلة لها بالدين الحنيف,والأسوأ من ذلك حصر الامتيازات في دعاة كبار رجال الطائفة أو الحزب أو العرق وترك السواد الأعظم في فقر مدقع !!!,أن أدعاء الطائفية والعرقية لتحقيق العدالة الاجتماعية هو ادعاء باطل ,وان الفقر وعدم الاستقرار والقلق على المستقبل يلف الجميع باختلاف دينه ومذهبه وطائفته وعرقه!!!!.
أن الخندقة الدينية للنظام السياسي وما تسوق ورائها بالضرورة من خندقة مذهبية يعني بالتأكيد أن يلحق الغبن والتميز الديني والمذهبي لقسم هام وغير قليل من المواطنين,وهذا ناتج من أن النظام السياسي المتخندق مذهبيا يتخذ من دينه ومذهبه إطارا مرجعيا ومحكا لتقيم دين ومذهب الآخر.وهو خلاف المفهوم العصري للدولة التي لا تعرف المواطن إلا من خلال الأوراق الثبوتية التي تشير إلى اسمه الثلاثي أو الاسم واللقب, أي رمزيته وخصوصيته في سجل الأحوال المدنية.أما خلاف ذلك فنأتي بأفعال تدفعنا إلى البحث(النبش)والتنقيب عن دين الآخر ومذهبه, ونذهب بعيدا في فحص أوراقه الثبوتيه للتأكد من( سلامته)الدينية والمذهبية من خلال أسمه وأسم عائلته.وفي ذلك تجاوزا على حريته الشخصية وحرية معتقده ,والتي يفتخر بهما أي نظام ديمقراطي. ونحن نعرف أن الدين والمعتقد الديني هو حرية شخصية قد تعجبني وقد لا تعجبك, والجميع ورثها من آباءه وأجداده, فأنا شيعي, وأنت سني,وهذا مسيحي, أو صابئي أو يزيدي. ولا اعتقد أن احد منا بذل جهدا استثنائيا لكي يدرس حقيقة انتماءه الديني أو المذهبي لكي يفضي إلى تغيره, إذا ما توفرت القناعة لديه, بل نبحث عن أدلة لتكريسه, لأنه مكون جمعي.وبالتالي نرثه كما نرث خصائصنا الوراثية: لون العينين,شكل الأنف, لون الشعر, طول القامة وهكذا…..الخ.
أن سياسات الإقصاء والتهميش والمحاصصات وما يرافقها من تدهور مستمر لحياة المواطنين قادرة على حرف حالات المساهمة السياسية من أجل تثبيت النظام” الديمقراطي” إلى حالات عداء سياسي للنظام وأركانه,باعتباره يجسد حالة الاغتراب السياسي بينه وبين المواطن,وهي نتاج طبيعي لحالة عدم الثقة والشك في القيادات السياسية ونواياها,متزامنا ذلك مع اتساع وتعمق دائرة الفئات الاجتماعية المهمشة والتي تقدر بالملايين جراء ظروف العراق التاريخية والحالية,ومن شأن ذلك أن يخلق ما يسمى ” بالفجوات النفسية المدمرة “,حيث تنشأ هذه الفجوات على خلفية الشعور بالإحباط الناتج من التدهور المستديم لظروف العيش الحر والآمن,وهي شروط مواتية ولازمة لخلق وإعادة توليد سلوك العنف والعدوان باعتباره نتيجة للشعور الشديد بالإحباط ,وعلى خلفية اتساع الهوة بين النظام والشعب وتعزيز حالة عدم الاكتراث تجري الاستفادة الكاملة من قبل المجاميع السياسية وفلول الإجرام والمرتزقة الغير مؤمنة أصلا بالعملية السياسية لدك النظام السياسي والتأثير على قراراته السياسية,وعلى عدم استقراره,مستغلة الفساد والعبث بالمال العام وسرقته كوسائل سهلة في الإغراء والتمويل وشراء الذمم.
وعلى خلفية ذلك كله نجد اليوم ” داعش ” بنسختها العراقية المتحالفة مع البعث الساقط وفلول الخونة من مختلف التجمعات العشائرية والقبلية, والتي توغل في البلاد قتلا وتشريدا, في ظروف لا يزال التذبذب والتأرجح بين سلطة إقليم كردستان والسلطة الاتحادية على أشده رغم بعض من بارق الأمل, إلا إن لكل طرف مصلحته في القضاء على داعش وفرض استحقاقاته. وداعش والإرهاب هو الطرف الوحيد والمستفيد من هذا كله, حيث جذور بقائه تمتد في التراب العراقي على خلفية بقاء الاحتقانات الطائفية والعرقية دون حلول. وما بعد القضاء على داعش فهناك أكثر من طرف مذهبي وطائفي وقومي مهيئا للاحتراب والاقتتال على خلفية نظام محاصاصتي لا يرحم !!!.

بقلم: د.عامر صالح