احتفاء السعوديون بالعبادي وعناق تيلرسون
ثامر حميد

من طبائع الأمور أن تميل السياسة الخارجية السعودية حيث تميل ريح واشنطن. بيد أن راسمي السياسة في واشطن لا يحبذون ان يظهر تابعهم بمظهر الذيل المتلصق ب…وإذ يلزمون تابعيهم باتباعهم في كبريات الأمور يتركون لهم صغائرها. فموضوع إيران، مثلا هي من كبريات الأمورالتي لا رأي مستقل فيها للتابع أما أمر اليمن فهو من الصغائر فيمكن للتابع أن يفعل بها فعلته ويمضي دو ان تراه واشنطن إذ لا يبدو أن الحوثيين وموقعهم في تركيبة السياسة والحكم في اليمن يمثل لواشنطن خطرا أو تهديدا قريبا أو بعيدا. وبالرغم من ميل أو صلة الزعامة الحوثية الوثيقة بإيران وحزب الله فإنها مهما علت يدها إنما تعلو في بلد لا تمكنه موارده الطبيعية والبشرية من لعب دور إقليمي مقلق. وحتى الروس ليسوا بوارد الدخول في منافسة مع أحد على هذا البلد فهو طريدة صغيرة لا يسيل لها لعاب الأسود.
وقد مالت ريح واشنظن هذه المرة صوب رئيس الوزراء حيدر العبادي فأمر هذا الرجل ومعه بلد كالعراق ليس من صغائر الأمورتترك للسعودية لتقرر بشأنها فقد اظهر الرجل حنكة في إدارة الأزمات تستحق المراهنة عليه في أمور أهمها إيران وسوريا خارجيا وصداع أمريكا الدائم الحشد الشعبي داخليا، فلا يجوز أن يترك رجل منتصر دون أن تتوالى عليه العروض. ومن أحق من واشنطن بالفوز بأفضلها مهما علا سعرها مقارنة بغيرها؟ وصعود نجم العبادي لا يتعلق بحربه الناجحة ضد الإرهاب رغم أهميته الكبيرة ذلك أنها كانت حرب جميع العراقيين (عدا قلة) ضد أمر جلل يهدد كيان الدولة والمجتمع وكان اي رئيس وزراء سيقوم بما قام به العبادي ربما مع اختلاف في أمد الحرب وحجم الخسائر. لكن ضربة المعلم كانت في كيفية إدارته لمسألة لا تقل خطورة عن الإرهاب وربما تفوقه من حيث تهديدها للكيان العراقي وهي مسألة الاستفتاء على مصير كردستان و ما يرتبط بها والمتعلق بمجمل نهج السيد مسعود بارزاني ومجموعة من القيادة المحيطة به والذي ينذر بصراع إقليمي طويل الأمد ساحته إيران وتركيا وسوريا والعراق. وسواء كان بفضل سياسته اللينة حيال مناوئيه أو بفضل الظروف التي خدمته أو كلتاهما وحد العبادي العراقيين كما لم يتوحدوا من قبل واصبحت أصوات السياسين الذين كانوا ليوم قريب صدى لدول الجوار القوية أو الغنية اصواتا نشاز لا تجد من يسمعها.
ولقد رأينا مظهر الزهو الذي علا وجه العبادي وهو يسير إلى جانب الملك سلمان بن عبد العزيز فهو يعرف أنه أصبح رجل العراق الأول وجاء الاعتراف به كذلك من أهم دول المنطقة، السعودية وبحضور أمريكا.
ولواشنطن، كما للسعودية، اسبابها العديدة التي تغريها بالرهان على العبادي منها ما يخص الداخل العراقي وأخرى تخص الخارج كما قلت إذ اظهر العبادي نهجا براغماتيا في التعامل مع القضايا المحلية والإقليمية يختلف عن النهج العقائدي لسابقه نوري المالكي ذلك النهج الذي ساقة إلى الإصرارعلى خروج القوات الأمريكية ووضعه في صف إيران وحزب الله.
و يمكن النظر إلى الانفتاح السعودي نحو العبادي برعاية أمريكية على أنه هوخطوة نحو تعزيزمكانته لدى عامة العراقيين ولدى النخب السياسية من كافة التلاوين، وبالمحصلة النهائية، تعزيز مركزه في كتلة دولة القانون التي ينتمي إليها بما يمكنه من أن يكون المرشح رقم واحد على قائمة هذه الكتلة لشغل منصب رئيس الوزراء في الانتخابات القادمة (ايار 2018 حسب قرار مجلس النواب الأخير) ويمكن للعبادي إذا ما طرح نفسه كمرشح يحتل صدارة القائمة أن يحظى بدعم عدد غير قليل من قيادة الائتلاف التي ستجد في قبول ترشيحه تعزيزا لمكانة الائتلاف لدى عامة الناس ولدى الكتل السياسية المنافسة التي لن تجد ما تعترص عليه في شخصية العبادي في ولاية ثانية. و قد لا يفكر المالكي بأن يشكل عقبة أمام هذه الإمكانية فيضع إسمه في صدارة قائمة الإئتلاف الانتخابية ولكن الولايات المتحدة لا بد وأن تحتاط للأمر فيكون خيارها أن تمارس نفوذها لدى القوى السنية والكردية لتضع فيتو على المالكي. ورغم افتقاد الولايات المتحدة للنفوذ داخل البيت الشيعي فإنها على يقين، كما نحن، أن التيار الصدري سيكون أول الواقفين في وجه المالكي. و لا أعتقد أن المالكي يمكن أن يعرض مصير ائتلافه لخطر التفكك حبا برئاسة الوزراء إذ لو كان لديه هذا الاستعداد لفعلها في المرة السابقة.
وقد يرى البعض أن الحشد الشعبي والجماهيرية التي يتمتع بها في الوسط الشيعي مضافا لها العلاقة الوطيدة بين إيران وقيادة الحشد قد يشكل قاعدة شعبية للمالكي لكن لا يمكن النظر إلى ذلك على أنه رصيد انتخابي مضمون له ذلك أن قيادة الحشد ليست جاهلة في شؤون السياسة و لا يتوقع أن تضع نفسها طرفا في اللعبة الانتخابية فتتسبب بشرخ في البيت الشيعي. عدا ذلك حافظ الحشد والعبادي على علاقة طيبة بينهما وأخضع الحشد نفسه لقيادة العبادي ليؤكد أنه قوة تخضع للشرعية السياسية خاصة وأن مجلس النواب قد جعل الحشد قوة رسمية. يقول الناطق باسم الحشد والنائب في البرلمان أحمد الأسدي عندما سألته “الميادين” عن إمكانية مشاركة الحشد في الحياة السياسية ما مفاده أن الحشد ليس كيانا سياسيا ليتقدم للانتخابات ولكن هناك فصائل منتمية للحشد تتبع تنظيمات سياسية. وهذا يعني أن غالبية المنتمين للحشد والذين لا ينتمون لأحزاب سياسية سيكونون أحرارا في اختيار من يصوتون له في الانتخابات البرلمانية القادمة.
ومن ناحية إيران فإن علاقتها القوية ببعض أو أكثرية قادة الحشد الكبار ليس محتملا أن يدفعها نحو حث الحشد للدخول في لعبة المفاضلة بين المرشحين في البيت الشيعي فقد أظهرت إيران أنها تتبع سياسة الحياد في هذه المسألة لحساسيتها الشديدة وللمخاطر الكامنة فيها وما يهمها هو وحدة البيت الشيعي تحت أية زعامة كانت. وقد أثبتت ذلك عندما وقفت موقفا غير محاب للمالكي عندما كان الخلاف شديدا وسط البيت الشيعي حول أحقية المالكي بتشكيل وزارته الثالثة عشية انتخابات 2014 رغم حصوله على أعلى الأصوات وكانت النتيجة صعود العبادي رغم تدني نسبة الأصوات التي حصل عليها.
وبالنسبة للأمريكيين فإني أرجح أن يقفوا موقف المؤيد وربما الداعم (إعلاميا فقط لأن لعبة المال قد يكون مردودها عكسيا) إذا ما اقدم العبادي على تشكيل كتلة مستقلة خارج إطار حزب الدعوة وليس ائتلاف دولة القانون. وفي تصوري قد يفعل ذلك إذا لم يضمن لنفسه أن يكون مرشح حزب الدعوة الأول، الحزب الأكبر، في قائمة الائتلاف. اقول خارج حزب الدعوة وليس خارج دولة القانون لأن الأخير هو الإطار الأكثر جماهيرية في الوسط الشيعي والذي يرجح أن تكون له غالبية الأصوات كما في المرات السابقة كما وأن الائتلاف هو المحيط الذي يجيد العبادي السباحة فيه. والعبادي أذكى بكثير من أن يقدم نفسه لإحدى الكتل الشيعية الأخرى كالتيار الصدري أو المجلس الأعلى قائلا : “رشحوني على رأس قائمتكم فأكون واحدا منكم” لأن الأصوات التي سوف يكسبها لصالح تلك الكتلة لن تكون بالحجم الذي يجعل منها الكتلة الأكبر داخل البيت الشيعي فيكون العبادي قد “ضيع المشيتين” كما يقال. وبالطبع فإن جميع الكتل السياسية شيعية كانت أم غير شيعية سوف ترحب بالعبادي أيما ترحيب لو تقدم للتحالف معها منفردا أو معه كيان سياسي جديد وسيجد دعما أمريكيا قويا إذا ما قام بذلك. ولكن يبدوهذا تصور أقرب للخيال منه إلى الواقع.
وبما أن الحديث يدور حول انفتاح السعودية (وهي باب الخليج) نحو عراق يتزعمه العبادي فالسؤال الذي يبرز هو ما الذي ستقدمه السعودية لتعزيز مكانة العبادي في التركيبة السياسية العراقية؟ على المستوى المادي يمكنها المساعدة في بناء المناطق التي تعرضت للدمار نتيجة الحرب ضد داعش سواء بهبات أو بقروض فتساعد الاقتصاد العراقي الذي يعاني من نقص التمويل عل الانتعاش كما وتستطيع (وهذا ما ستفعله بتصوري) أن تجير إعلامها ليقدم للمشاهد العربي صورة إيجابية للعبادي تهيئ لأن يستقبل بحفاوة في جميع عواصم العرب التي تملك السعودية تأثير فيها (جميعها تقريبا). وهناك إشارات إلى أن الإعلام السعودي قد بدأ ذلك فقد شاهدت إحدى مقدمات الأخبار في قناة سعودية تقاطع متحدثا عندما قارب على انتقاد الحكومة العراقية بشأن يخص كردستان وهذا أمر جديد تماما. وبالطبع سيلعب هذا الإعلام دوره كاملا لصالح العبادي عندما يحين موعد الانتخابات البرلمانية في أيار 2018.
والسؤال الآن: هل أن الانفتاح نحو العبادي، بما يحمله من آفاق للعبادي نفسه وللعراق عموما، هو مجاني يعبرعن طيب الخواطر وحسن النوايا؟قطعا لا إذ لا توجد مثل هذه المفردات في عالم السياسة. نعم يمكن القول أن الطريق المسدود الذي وجدت السعودية نفسها فيه في سوريا واليمن جعلها تفكر بالحصول على مكاسب في بلد أهم من هذين البلدين فتكون قد خففت من وقع الفشل الذي عانته على الجبهة السورية واليمنية. غير أن الأهم من ذلك يقبع في نظري في مكان آخر يتعلق بدور العراق المحتمل في محور إيران-سوريا-حزب الله اللبناني ذلك المحور الذي قوته حرب سوريا على الإرهاب بدلا من أن تضعفه والذي كان هو المراد. لذلك فإن الدور المحتمل للعراق كمكمل أو كمعرقل هو ما تدور حوله الدوائر. هنا يكمن في نظري الرهان الأمريكي السعودي على العبادي وهو رهان يتعلق بالقضايا التي ذكرت.
بالنسبة للحشد الشعبي تنظر إليه واشنطن والرياض على أنه ذراع إيران القوي في العراق ويمكن أن يتحول في لحظة في المستقبل إلى ما يشبه الحرس الثوري الإيراني سواء من حيث القدرة العسكرية أو من حيث إمكانية أن يمد أذرعا في النظام السياسي فيكون له ممثلون في البرلمان والحكومة وغيرها من المؤسسات. كما ويمكن للحشد أن يلعب دورا خارج حدود العراق دعما لأخوته في العقيدة. ها اتحدث عن احتمال لا يسقطه الأمريكيون من الحساب وليس كأمر حادث لا محالة.
ويمكن للعبادي بهذا الشأن أن يطمأن الأمريكيين ومعهم السعوديين وعبرهم دول الخليج أنه سيظمن لهم أن لا يتحول الحشد إلى قوة سياسية وأن لا يلعب دورا خارج حدود البلد. ومن الناحية الواقعية فهذا كل ما يمكنه فعله وأي شيئ يتجاوز ذلك من شأنه أن يقوض مكانته في الوسط الشيعي وهذا ما لا يصب في مصلحة من يريد دعمه ليؤسس نهجا سياسيا عراقيا لا تلعب فيه العقيدة دورا مقررا في السياسة الداخلية والخارجية. إن حدودا كهذه يرسمها العبادي يمكن للحشد أن يلتزم بها كمؤسسة وليس كأفراد ينتمون لتنظيمات سياسية لا سلطة للعبادي على توجهاتها غير المخالفة للقانون. وقد اظهر فيلم نقلته القنوات العراقية العبادي وهو يتحدث إلى وزير الخارجية الأمريكية في السعودية بشأ الحشد مثنيا ثناء كبيرا على دوره وفي ذلك إشارة لا لبس فيها إلى أن العبادي ليس بوارد أنهاء دور الحشد الشعبي بمجرد الانتهاء من الحرب على داعش فقد كان سندا مهما للجيش في بسط سلطة الدولة على ما يسمى المناطق المتنازع عليها ومن يدري ما يخبأه المستقبل من تحديات؟. و لا بد وأن الأمريكيين يدركوا في قرارة أنفسهم أن الحشد قد ولد ولادة طبيعية كرد على تحد ساهموا هم وحلفائهم في خلقه وأن من يخلق تحديا في مواجهة شعب يتسم بالابداع عليه أن يتحمل نتائج الرد (إشارة إلى نظرية المؤرخ توينبي حول challenge and response)
وبالنسبة للعلاقة مع إيران يستطيع العبادي أن يطمأن الأمريكيين والسعوديين أنه لن يكون ضمن محور يضع الصراع مع إسرائيل كهدف رئيسيا كان أم ثانويا. وهذا يتضح من خلال المبادرة التي طرحها عشية زيارته للسعودية حول الأمن والسلام الإقليمي والذي لا مكان فيه للحديث عن الموضوع الإسرائيلي أو الفلسطيني. وبالطبع هذا لا يعني أنه لا رأي له في هذه القضية إذ لا بد وأنه يتعاطف مع المطالب المحقة للشعب الفلسطيني ولكنه لا يرى في الصراع العسكري حلا بل أمرا مفاقما للمشكلة. وأنه لأمر جدير أن نلاحظ بأن العبادي لم يصدر منه طوال فترة رئاسته للحكومة رأي حيال إسرائيل أو الموضوع الفلسطيني عكس سابقه المالكي الذي خص إسرائيل في أكثر من مناسبة بالهجوم وصرح أنه يعتبرها عدوا.. وذلك يعني إن للعراق رأيا مستقلا حيال قضية الصراع مع إسرائيل لا يخضع لاعتبارات العلاقة مع إيران و لا إيران هي بوارد الضغط على العراق في أمر كهذا. ومن البديي أن يكون التنسيق والتعاون مع إيران فيما يخص قضايا التنمية والأمن الإقليمي ضرورة للعراق لا يمكنه أن يستغني عنها كما كان الحال بخصوص محاربة الإرهاب وكذلك التنسيق معها بشأن تداعيات استفتاء الانفصال، وما ينطبق على إيران بهذا الشأن ينطبق على كل دول الجوار.
وبخصوص سوريا كان العبادي في أكثر من مناسبة قد خص النظام هناك بنقد غير مباشر عندما تحدث عن حق الشعب السوري بالحرية وباختيار من يمثله بطريقة ديمقراطية ولكنه يدرك أن سقوط النظام على يد المجموعات المسلحة يشكل خطرا داهما على العراق. وما يستطيع قوله ليطمأن الأطراف المذكورة هو أنه لا طاقة للعراق في أن يكون طرفا في صراع تخوضه سوريا ضد إسرائيل وأن إعمار العراق ورفع المستوى المعاشي للشعب هو أولويته القصوى. و لا يمكن للعراق أن يعمل كمنطقة عازلة بين سوريا وإيران فهذين البلدين هما جزء من مجاله الحيوي. وماذا لو طلب من العبادي أن يمنع تحول العراق إلى معبر لمرور السلاح والرجال ووسائل الدعم اللوجستي لسوريا؟ يمكن للعبادي أن يجيب أن العراق لا يستطيع أن يمنع مرور الدعم الإنساني القادم من إيران نحوسوريا وسوف يلتزم بالقانون الدولي فيما يخالف ذلك.
تلك هي برأيي أقصى ما يمكن للعبادي أن يقدمه من “تنازلات” لطمأنة المحتفين به والذين فتحوا أبوابهم له دون أن يقرعها.
http://www.almothaqaf.com/a/maq17/922105-

احتفاء السعوديون بالعبادي وعناق تيلرسون

ثامر حميد

من طبائع الأمور أن تميل السياسة الخارجية السعودية حيث تميل ريح واشنطن. بيد أن راسمي السياسة في واشطن لا يحبذون ان يظهر تابعهم بمظهر الذيل المتلصق ب…وإذ يلزمون تابعيهم باتباعهم في كبريات الأمور يتركون لهم صغائرها. فموضوع إيران، مثلا هي من كبريات الأمورالتي لا رأي مستقل فيها للتابع أما أمر اليمن فهو من الصغائر فيمكن للتابع أن يفعل بها فعلته ويمضي دو ان تراه واشنطن إذ لا يبدو أن الحوثيين وموقعهم في تركيبة السياسة والحكم في اليمن يمثل لواشنطن خطرا أو تهديدا قريبا أو بعيدا. وبالرغم من ميل أو صلة الزعامة الحوثية الوثيقة بإيران وحزب الله فإنها مهما علت يدها إنما تعلو في بلد لا تمكنه موارده الطبيعية والبشرية من لعب دور إقليمي مقلق. وحتى الروس ليسوا بوارد الدخول في منافسة مع أحد على هذا البلد فهو طريدة صغيرة لا يسيل لها لعاب الأسود.

وقد مالت ريح واشنظن هذه المرة صوب رئيس الوزراء حيدر العبادي فأمر هذا الرجل ومعه بلد كالعراق ليس من صغائر الأمورتترك للسعودية لتقرر بشأنها فقد اظهر الرجل حنكة في إدارة الأزمات تستحق المراهنة عليه في أمور أهمها إيران وسوريا خارجيا وصداع أمريكا الدائم الحشد الشعبي داخليا، فلا يجوز أن يترك رجل منتصر دون أن تتوالى عليه العروض. ومن أحق من واشنطن بالفوز بأفضلها مهما علا سعرها مقارنة بغيرها؟ وصعود نجم العبادي لا يتعلق بحربه الناجحة ضد الإرهاب رغم أهميته الكبيرة ذلك أنها كانت حرب جميع العراقيين (عدا قلة) ضد أمر جلل يهدد كيان الدولة والمجتمع وكان اي رئيس وزراء سيقوم بما قام به العبادي ربما مع اختلاف في أمد الحرب وحجم الخسائر. لكن ضربة المعلم كانت في كيفية إدارته لمسألة لا تقل خطورة عن الإرهاب وربما تفوقه من حيث تهديدها للكيان العراقي وهي مسألة الاستفتاء على مصير كردستان و ما يرتبط بها والمتعلق بمجمل نهج السيد مسعود بارزاني ومجموعة من القيادة المحيطة به والذي ينذر بصراع إقليمي طويل الأمد ساحته إيران وتركيا وسوريا والعراق. وسواء كان بفضل سياسته اللينة حيال مناوئيه أو بفضل الظروف التي خدمته أو كلتاهما وحد العبادي العراقيين كما لم يتوحدوا من قبل واصبحت أصوات السياسين الذين كانوا ليوم قريب صدى لدول الجوار القوية أو الغنية اصواتا نشاز لا تجد من يسمعها.

ولقد رأينا مظهر الزهو الذي علا وجه العبادي وهو يسير إلى جانب الملك سلمان بن عبد العزيز فهو يعرف أنه أصبح رجل العراق الأول وجاء الاعتراف به كذلك من أهم دول المنطقة، السعودية وبحضور أمريكا.

ولواشنطن، كما للسعودية، اسبابها العديدة التي تغريها بالرهان على العبادي منها ما يخص الداخل العراقي وأخرى تخص الخارج كما قلت إذ اظهر العبادي نهجا براغماتيا في التعامل مع القضايا المحلية والإقليمية يختلف عن النهج العقائدي لسابقه نوري المالكي ذلك النهج الذي ساقة إلى الإصرارعلى خروج القوات الأمريكية ووضعه في صف إيران وحزب الله.
و يمكن النظر إلى الانفتاح السعودي نحو العبادي برعاية أمريكية على أنه هوخطوة نحو تعزيزمكانته لدى عامة العراقيين ولدى النخب السياسية من كافة التلاوين، وبالمحصلة النهائية، تعزيز مركزه في كتلة دولة القانون التي ينتمي إليها بما يمكنه من أن يكون المرشح رقم واحد على قائمة هذه الكتلة لشغل منصب رئيس الوزراء في الانتخابات القادمة (ايار 2018 حسب قرار مجلس النواب الأخير) ويمكن للعبادي إذا ما طرح نفسه كمرشح يحتل صدارة القائمة أن يحظى بدعم عدد غير قليل من قيادة الائتلاف التي ستجد في قبول ترشيحه تعزيزا لمكانة الائتلاف لدى عامة الناس ولدى الكتل السياسية المنافسة التي لن تجد ما تعترص عليه في شخصية العبادي في ولاية ثانية. و قد لا يفكر المالكي بأن يشكل عقبة أمام هذه الإمكانية فيضع إسمه في صدارة قائمة الإئتلاف الانتخابية ولكن الولايات المتحدة لا بد وأن تحتاط للأمر فيكون خيارها أن تمارس نفوذها لدى القوى السنية والكردية لتضع فيتو على المالكي. ورغم افتقاد الولايات المتحدة للنفوذ داخل البيت الشيعي فإنها على يقين، كما نحن، أن التيار الصدري سيكون أول الواقفين في وجه المالكي. و لا أعتقد أن المالكي يمكن أن يعرض مصير ائتلافه لخطر التفكك حبا برئاسة الوزراء إذ لو كان لديه هذا الاستعداد لفعلها في المرة السابقة.

وقد يرى البعض أن الحشد الشعبي والجماهيرية التي يتمتع بها في الوسط الشيعي مضافا لها العلاقة الوطيدة بين إيران وقيادة الحشد قد يشكل قاعدة شعبية للمالكي لكن لا يمكن النظر إلى ذلك على أنه رصيد انتخابي مضمون له ذلك أن قيادة الحشد ليست جاهلة في شؤون السياسة و لا يتوقع أن تضع نفسها طرفا في اللعبة الانتخابية فتتسبب بشرخ في البيت الشيعي. عدا ذلك حافظ الحشد والعبادي على علاقة طيبة بينهما وأخضع الحشد نفسه لقيادة العبادي ليؤكد أنه قوة تخضع للشرعية السياسية خاصة وأن مجلس النواب قد جعل الحشد قوة رسمية. يقول الناطق باسم الحشد والنائب في البرلمان أحمد الأسدي عندما سألته “الميادين” عن إمكانية مشاركة الحشد في الحياة السياسية ما مفاده أن الحشد ليس كيانا سياسيا ليتقدم للانتخابات ولكن هناك فصائل منتمية للحشد تتبع تنظيمات سياسية. وهذا يعني أن غالبية المنتمين للحشد والذين لا ينتمون لأحزاب سياسية سيكونون أحرارا في اختيار من يصوتون له في الانتخابات البرلمانية القادمة.

ومن ناحية إيران فإن علاقتها القوية ببعض أو أكثرية قادة الحشد الكبار ليس محتملا أن يدفعها نحو حث الحشد للدخول في لعبة المفاضلة بين المرشحين في البيت الشيعي فقد أظهرت إيران أنها تتبع سياسة الحياد في هذه المسألة لحساسيتها الشديدة وللمخاطر الكامنة فيها وما يهمها هو وحدة البيت الشيعي تحت أية زعامة كانت. وقد أثبتت ذلك عندما وقفت موقفا غير محاب للمالكي عندما كان الخلاف شديدا وسط البيت الشيعي حول أحقية المالكي بتشكيل وزارته الثالثة عشية انتخابات 2014 رغم حصوله على أعلى الأصوات وكانت النتيجة صعود العبادي رغم تدني نسبة الأصوات التي حصل عليها.

وبالنسبة للأمريكيين فإني أرجح أن يقفوا موقف المؤيد وربما الداعم (إعلاميا فقط لأن لعبة المال قد يكون مردودها عكسيا) إذا ما اقدم العبادي على تشكيل كتلة مستقلة خارج إطار حزب الدعوة وليس ائتلاف دولة القانون. وفي تصوري قد يفعل ذلك إذا لم يضمن لنفسه أن يكون مرشح حزب الدعوة الأول، الحزب الأكبر، في قائمة الائتلاف. اقول خارج حزب الدعوة وليس خارج دولة القانون لأن الأخير هو الإطار الأكثر جماهيرية في الوسط الشيعي والذي يرجح أن تكون له غالبية الأصوات كما في المرات السابقة كما وأن الائتلاف هو المحيط الذي يجيد العبادي السباحة فيه. والعبادي أذكى بكثير من أن يقدم نفسه لإحدى الكتل الشيعية الأخرى كالتيار الصدري أو المجلس الأعلى قائلا : “رشحوني على رأس قائمتكم فأكون واحدا منكم” لأن الأصوات التي سوف يكسبها لصالح تلك الكتلة لن تكون بالحجم الذي يجعل منها الكتلة الأكبر داخل البيت الشيعي فيكون العبادي قد “ضيع المشيتين” كما يقال. وبالطبع فإن جميع الكتل السياسية شيعية كانت أم غير شيعية سوف ترحب بالعبادي أيما ترحيب لو تقدم للتحالف معها منفردا أو معه كيان سياسي جديد وسيجد دعما أمريكيا قويا إذا ما قام بذلك. ولكن يبدوهذا تصور أقرب للخيال منه إلى الواقع.

وبما أن الحديث يدور حول انفتاح السعودية (وهي باب الخليج) نحو عراق يتزعمه العبادي فالسؤال الذي يبرز هو ما الذي ستقدمه السعودية لتعزيز مكانة العبادي في التركيبة السياسية العراقية؟ على المستوى المادي يمكنها المساعدة في بناء المناطق التي تعرضت للدمار نتيجة الحرب ضد داعش سواء بهبات أو بقروض فتساعد الاقتصاد العراقي الذي يعاني من نقص التمويل عل الانتعاش كما وتستطيع (وهذا ما ستفعله بتصوري) أن تجير إعلامها ليقدم للمشاهد العربي صورة إيجابية للعبادي تهيئ لأن يستقبل بحفاوة في جميع عواصم العرب التي تملك السعودية تأثير فيها (جميعها تقريبا). وهناك إشارات إلى أن الإعلام السعودي قد بدأ ذلك فقد شاهدت إحدى مقدمات الأخبار في قناة سعودية تقاطع متحدثا عندما قارب على انتقاد الحكومة العراقية بشأن يخص كردستان وهذا أمر جديد تماما. وبالطبع سيلعب هذا الإعلام دوره كاملا لصالح العبادي عندما يحين موعد الانتخابات البرلمانية في أيار 2018.

والسؤال الآن: هل أن الانفتاح نحو العبادي، بما يحمله من آفاق للعبادي نفسه وللعراق عموما، هو مجاني يعبرعن طيب الخواطر وحسن النوايا؟قطعا لا إذ لا توجد مثل هذه المفردات في عالم السياسة. نعم يمكن القول أن الطريق المسدود الذي وجدت السعودية نفسها فيه في سوريا واليمن جعلها تفكر بالحصول على مكاسب في بلد أهم من هذين البلدين فتكون قد خففت من وقع الفشل الذي عانته على الجبهة السورية واليمنية. غير أن الأهم من ذلك يقبع في نظري في مكان آخر يتعلق بدور العراق المحتمل في محور إيران-سوريا-حزب الله اللبناني ذلك المحور الذي قوته حرب سوريا على الإرهاب بدلا من أن تضعفه والذي كان هو المراد. لذلك فإن الدور المحتمل للعراق كمكمل أو كمعرقل هو ما تدور حوله الدوائر. هنا يكمن في نظري الرهان الأمريكي السعودي على العبادي وهو رهان يتعلق بالقضايا التي ذكرت.
بالنسبة للحشد الشعبي تنظر إليه واشنطن والرياض على أنه ذراع إيران القوي في العراق ويمكن أن يتحول في لحظة في المستقبل إلى ما يشبه الحرس الثوري الإيراني سواء من حيث القدرة العسكرية أو من حيث إمكانية أن يمد أذرعا في النظام السياسي فيكون له ممثلون في البرلمان والحكومة وغيرها من المؤسسات. كما ويمكن للحشد أن يلعب دورا خارج حدود العراق دعما لأخوته في العقيدة. ها اتحدث عن احتمال لا يسقطه الأمريكيون من الحساب وليس كأمر حادث لا محالة.

ويمكن للعبادي بهذا الشأن أن يطمأن الأمريكيين ومعهم السعوديين وعبرهم دول الخليج أنه سيظمن لهم أن لا يتحول الحشد إلى قوة سياسية وأن لا يلعب دورا خارج حدود البلد. ومن الناحية الواقعية فهذا كل ما يمكنه فعله وأي شيئ يتجاوز ذلك من شأنه أن يقوض مكانته في الوسط الشيعي وهذا ما لا يصب في مصلحة من يريد دعمه ليؤسس نهجا سياسيا عراقيا لا تلعب فيه العقيدة دورا مقررا في السياسة الداخلية والخارجية. إن حدودا كهذه يرسمها العبادي يمكن للحشد أن يلتزم بها كمؤسسة وليس كأفراد ينتمون لتنظيمات سياسية لا سلطة للعبادي على توجهاتها غير المخالفة للقانون. وقد اظهر فيلم نقلته القنوات العراقية العبادي وهو يتحدث إلى وزير الخارجية الأمريكية في السعودية بشأ الحشد مثنيا ثناء كبيرا على دوره وفي ذلك إشارة لا لبس فيها إلى أن العبادي ليس بوارد أنهاء دور الحشد الشعبي بمجرد الانتهاء من الحرب على داعش فقد كان سندا مهما للجيش في بسط سلطة الدولة على ما يسمى المناطق المتنازع عليها ومن يدري ما يخبأه المستقبل من تحديات؟. و لا بد وأن الأمريكيين يدركوا في قرارة أنفسهم أن الحشد قد ولد ولادة طبيعية كرد على تحد ساهموا هم وحلفائهم في خلقه وأن من يخلق تحديا في مواجهة شعب يتسم بالابداع عليه أن يتحمل نتائج الرد (إشارة إلى نظرية المؤرخ توينبي حول challenge and response)

وبالنسبة للعلاقة مع إيران يستطيع العبادي أن يطمأن الأمريكيين والسعوديين أنه لن يكون ضمن محور يضع الصراع مع إسرائيل كهدف رئيسيا كان أم ثانويا. وهذا يتضح من خلال المبادرة التي طرحها عشية زيارته للسعودية حول الأمن والسلام الإقليمي والذي لا مكان فيه للحديث عن الموضوع الإسرائيلي أو الفلسطيني. وبالطبع هذا لا يعني أنه لا رأي له في هذه القضية إذ لا بد وأنه يتعاطف مع المطالب المحقة للشعب الفلسطيني ولكنه لا يرى في الصراع العسكري حلا بل أمرا مفاقما للمشكلة. وأنه لأمر جدير أن نلاحظ بأن العبادي لم يصدر منه طوال فترة رئاسته للحكومة رأي حيال إسرائيل أو الموضوع الفلسطيني عكس سابقه المالكي الذي خص إسرائيل في أكثر من مناسبة بالهجوم وصرح أنه يعتبرها عدوا.. وذلك يعني إن للعراق رأيا مستقلا حيال قضية الصراع مع إسرائيل لا يخضع لاعتبارات العلاقة مع إيران و لا إيران هي بوارد الضغط على العراق في أمر كهذا. ومن البديي أن يكون التنسيق والتعاون مع إيران فيما يخص قضايا التنمية والأمن الإقليمي ضرورة للعراق لا يمكنه أن يستغني عنها كما كان الحال بخصوص محاربة الإرهاب وكذلك التنسيق معها بشأن تداعيات استفتاء الانفصال، وما ينطبق على إيران بهذا الشأن ينطبق على كل دول الجوار.

وبخصوص سوريا كان العبادي في أكثر من مناسبة قد خص النظام هناك بنقد غير مباشر عندما تحدث عن حق الشعب السوري بالحرية وباختيار من يمثله بطريقة ديمقراطية ولكنه يدرك أن سقوط النظام على يد المجموعات المسلحة يشكل خطرا داهما على العراق. وما يستطيع قوله ليطمأن الأطراف المذكورة هو أنه لا طاقة للعراق في أن يكون طرفا في صراع تخوضه سوريا ضد إسرائيل وأن إعمار العراق ورفع المستوى المعاشي للشعب هو أولويته القصوى. و لا يمكن للعراق أن يعمل كمنطقة عازلة بين سوريا وإيران فهذين البلدين هما جزء من مجاله الحيوي. وماذا لو طلب من العبادي أن يمنع تحول العراق إلى معبر لمرور السلاح والرجال ووسائل الدعم اللوجستي لسوريا؟ يمكن للعبادي أن يجيب أن العراق لا يستطيع أن يمنع مرور الدعم الإنساني القادم من إيران نحوسوريا وسوف يلتزم بالقانون الدولي فيما يخالف ذلك.
تلك هي برأيي أقصى ما يمكن للعبادي أن يقدمه من “تنازلات” لطمأنة المحتفين به والذين فتحوا أبوابهم له دون أن يقرعها.