يدعي أحدهم إنه يعمل في مؤسسة وهو لوحده يعتني بمداراة الناس الطيبين من المراجعين، ويقدم لهم خدمة دون مقابل، ويرفض الخوض في التفاصيل، ولايتخذ من الرشوة سبيلا وغاية ومطمعا، ولايحمل الناس مالاطاقة لهم به فهو في النهاية رجل صلاح لاإفتضاح، يخشى الله ولايخشى الناس، بل يسعى للعون في إنجاز مطالبهم ومعاملاتهم في المكان الذي يعمل فيه.

جاءه مديره ليطلب منه تقديم إستقالة لأنه يمثل الشذوذ في تلك المؤسسة، وهذه الحكاية صالحة حتى وغن لم يكن لها نصيب من الصحة لأنها حدثت في مكان ما وفي يوم ما مع شخص ما.. بالطبع فإن الفساد ظاهرة تضرب في عمق الدولة ويرفضها كثر لكنهم يمثلون قلة حسب مقياس القوة، فالكثرة تغلب الشجاعة في ميدان الحرب، لكن الكثرة التي لاتدخل الميدان تكون أقلية في حسابات الربح والخسارة، والشعب في الغالب يرفض الفساد لكنه بعيد عن دائرة التأثير فتكون الغلبة لمن يمارس الفساد وهو في داخل المؤسسة، أي إن المفسدين يكونون هم الأكثرية في مواجهة أقلية عاجزة لاقدرة لها على التغيير وستدفع الثمن لو تطاولت وطلبت مايمكن إعتباره جريمة.

أحد الأصدقاء من المثقفين كان يعمل في واحدة من الوزارات وتجرأ على كشف مظاهر فساد في وزارته لكنه جوبه بقوة جبارة إقتلعته من الأرض ورمته خارج أسوار الوزارة ومنعت راتبه وغرمته بطريقة شيطانية مبالغ خيالية لايقوى على دفعها وهو لايملك مايعالج به مرضه ومرض إبنه المصاب بالسرطان، ولايملك أجرة السيارة فكيف بالغرامة بالله عليكم؟

الفساد في العراق ظاهرة مخيفة تتطلب توصيفات غير تقليدية لمواجهتها فهي أصل في التعامل والسياق والإدارة، لكن اللافت إن المنتقدين للفساد لم يعالجوا أولا سبب فساد حتى الذين ينتقدون المفاسد والمفسدين وهم الغالب من الناس ممن لم تتح لهم فرصة العمل في الدوائر الحكومية، ولم يقلدوا مناصب تتيح لهم فعل مايريدون وإجتراح أسباب الحصول على مكاسب مادية.

معظم المفسدين طيبون شرفاء وادعون لكن ماأن يحصلوا على المنصب حتى يتحولوا الى عفاريت من الجن يستطيعون نقل مايشاءون من أموال والحصول على مايرغبون من إمتيازات، وإصدار مايرونه مناسبا من قرارا دون خوف من رقيب ولاحسيب ولامعاقب ومراقب، فهم كالبنت الباكر التي تنتظر ليلة العرس لتعيش حال الإفتضاض اللذيذ، بينما يعيش المفسد المتقدم في الوظيفة وسبق له الوجود فيها حال المرأة الثيب. المفسد ومن ينتظر أن يكون مفسدا شبيهان بالباكر والثيب، كل ينتظر دوره، ومنهم من حصل على الدور.. الباكر تنتظر فرحة الإفتضاض، والمفسد ينتظر فرحة الإستحواذ على المنافع والمكاسب المحرمة.