بين ربيعنا العربي والربيع الأردوغاني طرق صاعدات وأخريات نازلات، طرق متعاكسات وأخريات متقاطعات. بعضها نازل من عمق التاريخ  بحكم روابط الجغرافيا والثقافة والمصالح المشتركة، وبعضها صاعد من عمق الأزمات الملازمة لرحلة البحث عن حلول مصيرية، عصية على التحقق.

في هذا المناخ ينتصب أمامنا جميعا سؤال بديهي، لم نطرحه على أنفسنا بعمق: هل حقا أن الربيع العربي عربي خالص؟ كثيرون بدأوا يرتابون في ذلك، لا بسبب كثرة الداخلين والمتدخلين، وجشع المتسابقين الى قطاف زهور هذا الربيع، وجني ثماره، واستمطار دمائه فحسب، بل بسبب غاياته وأهدافه ونتائجه المنظورة وغير المنظورة، وبدرجة رئيسية بسبب اضطراب مسارات الحراك الاجتماعي، وانحرافها عن أهدافها الطبيعية المنشودة، الرامية الى انتقال الشعوب العربية من طور الى آخر، يحررها من أسرها التاريخي، في ظل أزمة التحولات  الدولية الكبرى الجارية الآن.
مما لا شك فيه ان خروج الشارع العربي على بعض حكّامه لحظة مصيرية كبرى في تاريخ شعوب المنطقة. لكنها لحظة أخذت تبدو للجميع كأنها ضرورة مختطفة، وفي أحسن الأحوال، كأنها أمنية مسروقة.
قبل موسم الربيع لم يكن المجتمع العربي يعاني فحسب. كان يعاني ويحلم في الوقت عينه، وإن كانت أحلامه كابوسية وكئيبة ومعتمة. كان يعاني من جور وطغيان وإهمال تجاوز الحدود، وفاق طاقات البشر على الاحتمال. لكن المجتمع، وهو يكابد مرارة الطغيان، ظل يحلم أيضاً بيوم أقل سوءا؛ بعضهم كان يحلم بيوم أكثر إشراقاً وتفتحاً إنسانياً. لذلك كانت كلمة الكرامة في صدارة قاموس الثورة المشترك. وهي كلمة ذات حدّين قاتلين، يمكّنانها من أن تصبح وجوداً ملموساً في هيئة قوانين وحقوق وممارسات واقعية، أو أن تمسي تعبيراً أجوف، دعائياً، يلطخ الجدران في الطرق العامة.
بين المكابدة  والحلم، بين تجرّع الإذلال نهاراً، والتمتع بالكوابيس ليلاً، لم تكن هناك فسحة كبيرة للتأمل العقلي والحوار الداخلي الحميم. كان انتظار معجزة الخلاص سيد الموقف. لذلك تمكن المتسابقون من ملء صفحة التأمل والخيال والواقع بصورة واحدة منجزة، معدّة سلفا. صورة رسمتها ريشة وأخيلة الذين يقفون في قلب كوابيس الحالمين، وخلف متاريس الخاطفين.
ولذلك أيضا أضحى الحلم الربيعي، المنجز عربياً، يبدو للجميع خيالاً أردوغانياً بامتياز.
أهو انتصار للمشروع الأردوغاني المتهالك، ولكن ليس في صيغته الأردوغانية التركية الخالصة، بل في نسخة عربية مزورة؟ أليست هي النسخة ذاتها التي يراد بها رفع سقف الأردوغانية التركية إقليمياً، بجعلها متزعما لا بالأقوال والمثال والتحكم من بعد فحسب، بل أيضا من خلال التسيد المباشر على فروع الأردوغانية المحلية (العربية)؟ بيد أن الأردوغانية الأصل لا تكتفي بذلك، بل تندفع أبعد من هذا، ساعية الى أن تكون حارساً لنظم ومفاهيم وشعارات تقع خارج سيادتها، تم إسقاطها في تركيا نفسها منذ أكثر من قرن. لقد تم تدبير ذلك كله ضمن مشروع دقيق، محدد، باتفاق أطراف عرب ودوليين وإقليميين، هدفها تحقيق امتداد – قبول وحضور- سياسي تركي نحو الشمال من طريق تسويق الجنوب، العربي، حزمة واحدة.
المشروع الأردوغاني يشبه العثمانية القديمة، ولكن بصيغة تابعة، صيغة المنتفع الدولي، لا الفاتح الدولي. أما حرية الاستحمام في دم الآخرين، واضطهاد القوميات، وسحق الأقليات الدينية، ورفع المذهبية راية للحراك السياسي، والعسكرة، والابتزاز الجغرافي، فلم تزل تمارس علناً، باعتبارها إرثاً أمبراطورياً مقدساً.
نعم، لقد ربح ربيعنا العربي الأردوغانية المستنسخة، التي هي، قياساً بنظم عربية استبدادية تمّ اسقاطها، أفضل الشرور الممكنة وأعرقها.
لكن الربيع الأردوغاني العربي يصرّ على استلاف أسوأ ما في الأردوغانية الأمّ، ويصرّ على استيرادها مغشوشة، في هيئة نزاعات داخلية وخارجية مسلحة، وتحشيد طائفي، وهيمنة على القرار السياسي الداخلي، وواحدية إيديولوجية باسم العقيدة، ومساومات تاريخية تصاهر الوجه المظلم من الماضي، وتتغازل مع الوجه القبيح من الغرب، صانعةً حفلة زفاف عظيمة التناقض ظاهراً وباطناً.
هذا الخليط، المرفوض تركيّاً، تتم زراعته عربياً في حديقتنا الوطنية، على أنه ربيع العرب.
أكان هذا هو حلمنا في زمن الكوابيس؟ ألهذا السبب انتحر البوعزيزي؟ ألهذا السبب تنتحر وتُنحَر شعوب كاملة؟
لقد ازداد حظ الأردوغانية ومقدرتها على فرض حلولها داخلياً وخارجياً لأسباب تركية داخلية طارئة. أبرز ملامحها يكمن في أن المعارضة التركية لم تزل مشتتة، وضعيفة. وقد تعاظمت حيرتها وبلبلتها عند قيام النهوض المجتمعي العربي.
ولكن، حالما يعيد الأتراك اصطفافهم، وحالما تبدأ الأردوغانية الأمّ بالترنح، سيكتشف العرب، قبل الأتراك، أن ربيعهم كان خريفاً أردوغانياً خالصاً.
لقد تحالفت الأردوغانية مع خصمين رئيسيين للشعوب الثائرة: نظم القرون الوسطى في الداخل، والإرادات الأجنبية في الخارج. من نافل القول التذكير بأن الأردوغانية كانت صديقاً وفياً وصدوقاً للنظم التي جرى إسقاطها. نفسياً ودعائياً، كان الحليف الداخلي القوي للأردوغانية عربياً يتمركز في ذلك القدر العظيم من الخيبة واليأس التاريخي الاجتماعي، الذي عاشته الشعوب العربية لعقود مديدة. أما سياسياً فلم تتمكن الأردوغانية من التحالف سوى مع فروعها المحلية، نسخها العربية المشوهة، التي كانت نفسها جزءاً جدياً من معضلة الخيبة التاريخية السياسية قومياً. فقبل الربيع الأردوغاني لم تتمكن القوى المنتصرة الآن من الحصول على نتائج سياسية مشجعة، سواء أكان في البلدان العربية المتعددة القومية والطائفة، أم حتى في البلدان الأكثر تجانساً.
إن المشروع الأردوغاني المستنسخ ما هو إلاّ صيغة تاريخية عربية فاشلة، سقطت في الامتحانات السياسية كافة، على مرّ الحقب، ومُنيت بالهزيمة في الواقع السياسي لعقود طويلة ماضية، ولم تتمكن من الصمود أمام حكومات العسكر، ولا الحكومات ذات النزعة الاشتراكية القومية، أو أمام حكومات الطوارئ وحكومات اللصوص. من الداخل لم تتمكن من الصمود أمام عصف فروعها وأجنحتها التكفيرية المسلحة في لحظات نهوضها، أو في لحظات شروعها في صناعة ممرات العبور القارية والإقليمية والقومية. لكنها تجد الآن حظاً للتحقق، بمساعدة مباشرة من الأردوغانية التركية، التي تريد تقديم تجربتها، على طبق من دم ومواعظ، على انها الحل التاريخي السحري الوحيد لمعضلات العالم الإسلامي، المتعدد والمتنوع الثقافة والأصل.
لكل هذه الأسباب نجحت الأردوغانية موقتاً في مصر وليبيا وتونس، وتعثرت في اليمن، وارتبكت في سوريا، وتمارضت في الجزائر والسودان، ولبست ثوب الملكية في المغرب، وتشيّخت في البحرين، وأصيبت بالشلل في فلسطين، وحلّ بها الصمم والطرش والعمى في السعودية.
المشروع الأردوغاني سيواجه ذاته حينما تستعيد المعارضة التركية دورها الطبيعي، المفتقد. وقتذاك ستواجه الأردوغانية العربية جميع الذين حلموا وهم يكابدون الطغيان، ستواجههم بشعاراتها المتناقضة، وبخططها القديمة الفاشلة، وبنفعيتها الأنانية المعهودة، التي لم تمكّنها من قبل، من تحقيق مشروعها بالوصول الى الحكم، على رغم استقوائها على مجتمعها بقوى دولية قوية، معادية لمصالح شعوبها.
إن المشروع الديموقراطي، المدني، العربي، هو ربيع العرب الوحيد، على رغم الخيبة الموقتة.
أما الاردوغانية فلا تعني سوى حصر الخيارات الشعبية في فريقين ينتميان الى الدائرة نفسها: قطبه الأول “الأخوان” ونظم القرون الوسطى، وقطبه الثاني الفرق والعصابات التكفيرية. أما في المناطق الرخوة فيتم حسم الصراع الاجتماعي فيها، مهما بدأ مشرقاً، لصالح النموذج الأردوغاني، في نسخته العربية المشوهة. إن لعبة عبور المقاتلين الحواجز الحدودية والسياسية، وعبور الأموال والسلاح والدعاية العاصفة من دول وأحزاب وحكومات متخلفة البنية الثقافية والسياسية، تشير بما لا مجال للشك الى أن الصراع يراد تجييره وحسمه لصالح قوة محددة، تم رفعها تاريخياً من كبوتها، لكي تكون البديل من القوى العسكرية والقومية الاشتراكية الفاشلة، بمباركة أجنبية مكشوفة. في هذا الإطار المحدد، نستطيع بيسر تام، إدراك جوهر المعضلة التكفيرية والعنف التكفيري المسلح. إنها كاسرة جليد سياسية، عند انسداد الطرق، هدفها شق الطرق لصالح قوى أخرى، من طريق إرهاب الشعوب جماعياً، ودفعها قسراً، بحكم قوانين الموت، الى اختيار أسوأ الاحتمالات وأفضل الشرور: الأردوغانية العربية.
إن النسخة العربية من الأردوغانية، صيغة تاريخية تهدف الى ترويض الحراك التاريخي المتراكم وما تصاحبه من خبرات حضارية، وحصره في مسارات سياسية وايديولوجية محددة، تضمن تأكيد مصالح القوى الأجنبية، وتأمين مصالح الفئات الإجتماعية والسياسية الأكثر تخلفاً في النسيج التكويني العربي. لهذا تم تكوين جبهة القوى الملكية، وإخراجها من موسم الربيع بالقوة المسلحة، وحتى بالاحتلال المباشر، كما هي حال البحرين.
إن التوافق الاجتماعي على قيام مؤسسة حكم دستورية، تحكم باسم الأغلبية الدينية (الاخوان) نتيجة تاريخية معروفة، تشبه تحصيل الحاصل في عالمنا المعاصر، لكنها نتيجة مجيّرة لصالح قوى تحكم باسم الأغلبية الدينية، وليس باسم الأغلبية الوطنية، القائمة على مبدأ المواطنة. ولهذا أسباب تاريخية.
– لقد تم لجم العدوانية العثمانية أوروبياً، وجرى تقنين حدود حركتها جغرافياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً من الجهات كافة، من الشمال والغرب والشرق، عدا الجهة الجنوبية، التي جرى فيها منح الأردوغانية “امتياز” الحركة والتجوال الحر، كمقابل للقيود المفروضة عليها من الشمال. وقد أساءت الأردوغانية استخدام هذا “الحق” الباطل، استخداماً فظاً، جعلها تنسى شعاراتها التمدينية والديموقراطية وهي منغمسة في هوس تنفيذ مشاريع الزعامة الصورية على المنطقة، الهادفة الى تسليمها وبيعها الى قوى أكبر. القوات التركية تتوغل يوميا عشرات الكيلومترات في الأراضي العراقية بحرية تامة، وتتدخل في رسم سياسات مجتمعات أخرى تدخلاً علنياً وقحاً، من دون أن توقظ ضمير أحد من أعضاء “المجتمع الدولي”. لقد وصلت بها الجرأة حداً فاق كل تصور حينما أرسلت وزير خارجيتها الى مدينة كركوك العراقية، من دون إذن من الحكومة العراقية. لقد حدث هذا الانتهاك السيادي الخطير في غمار نصر ربيعي غير متوقع، أنسى الأردوغانية النشوى حساب الأيام والسنين، وأعادها الى خيال عثماني منقرض.
إن إقرار دساتير محلية وقيام انتخابات، في ظل الدور الأردوغاني الجديد، رمية نرد مشاعة، حصل عليها الأردوغانيون العرب مجانياً. لأن النضال المجتمعي العربي كان لا بد له أن يتجاوز هذا السقف الشكلي، وأن يخطو نحو الدولة المدنية الديموقراطية، المستقلة عن الهيمنة الإيديولوجية الدينية والطائفية والعرقية. لقد فشلت النسخة الأردوغانية العربية (الاخوان المسلمون) طوال حياتها كلها. لكنها بدعم من الأردوغانية (حزب الاخوان التركي) يراد إعادة انتاجها ووضعها على الواجهة، لكي تكون بديلا يحقق ثلاثة أهداف:
الأول، سد الطريق على حركة المجتمع الديموقراطية، لكيلا تأخذ طريقها نحو إقامة النظام المدني المنشود، أي عرقلة حركة التاريخ، باسم الديموقراطية الطائفية. الثاني، حماية البنى السياسية والاجتماعية الأكثر تخلفاً وطفيلية من الانهيار أو التصدع، باسم الدين والشريعة. والثالث، منح القوى الدولية الحق المطلق في التصرف في شؤون المنطقة سياسياً وعسكرياً وثقافياً، بل حتى روحياً، باسم تبادل المصالح والمنافع.
الأردوغانية لعبة عثمانية رابحة بامتياز تركيّاً، في ظل غياب دور المعارضة التركية الفاعلة. لكنها نسخة عربية بالية، يراد تسويقها، باعتبارها الوجه المحسن للخيبة التاريخية، وباعتبارها ربيعاً عربياً، ولكن، ربيع لا تتفتح فيه سوى زهور التاريخ المنقرضة، وثماره السلفية، العصية على النضج الحضاري.

الياس حوراني