د. سليم كاطع علي….

 

يُعد الإستيطان أحد أهم المقومات الفكرية والآيديولوجية التي قامت عليها الحركة الصهيونية منذ نشأتها في نهاية القرن التاسع عشر، إذ إعتمدت المنظمة الصهيونية العالمية على الإستيطان كسياسة ذات أولوية في نهجها وسلوكها الداخلي والخارجي وعلاقاتها الدولية لتحقيق أهدافها وغاياتها والمتمثلة في إقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين التأريخية من خلال تهجير اليهود إلى فلسطين، والإستيلاء على أراضيها وإقامة المستوطنات اليهودية عليها، لاسيما وأن الإستيطان في أحد مقاصده يعني إتخاذ وطن ما من خلال القضاء على وطن الغير، ودخول العنصر الأجنبي الجديد بهدف الإستيلاء على جزء من الأرض أو كلها كما هو في فلسطين بالنسبة للفلسطينيين.

وهكذا فقد شهدت الأراضي الفلسطينية منذ إحتلالها من قبل إسرائيل عام 1948 على عملية إستيطانية ممنهجة ومخطط لها بعناية من قبل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، بهدف فرض وقائع مادية ملموسة على أرض الواقع تؤكد السيادة الإسرائيلية على فلسطين ولاسيما مدينة القدس، وإتخاذها عاصمة أبدية للكيان الصهيوني لاحقاً.

فقد اتبعت الحكومات الإسرائيلية أساليب وطرق متعددة بهدف تهويد مدينة القدس بعد عام 1967، ولم تكن سياسة الإستيطان الوسيلة الوحيد التي لجأت إليها إسرائيل لتحقيق هذا الهدف، فإلى جانب ذلك عملت على زرع الأحياء الإسرائيلية في القدس الكبرى وزيادة عدد المستوطنين اليهود فيها، فضلاً عن التضييق على البناء العربي من خلال تقليص عدد المواطنين الفلسطينيين في المدينة، من خلال توجه السلطات الإسرائيلية ومنذ إحتلالها لمدينة القدس إلى عدم وضع خرائط هيكلية لمدينة القدس الشرقية بهدف منع تنظيم البناء فيها، الأمر الذي يضطر المواطنون الفلسطينيون إلى البناء من دون ترخيص بسبب التزايد السكاني، وهو ما تستغله إسرائيل في مرحلة لاحقة للإستيلاء على الأراضي الفلسطينية ولاسيما في القدس المحتلة.

ومن خلال السياسات الإسرائيلية المتبعة لتعزيز سياسة الإستيطان في الأراضي الفلسطينية، يمكن الوصول إلى بعض الأبعاد الرئيسية التي تقف وراء تلك السياسة وهي:

1- الأبعاد التأريخية:

 إذ تعتقد الحركة الصهيونية أن الشعب اليهودي لا يوجد في وطنه، بل هو مشتت في الخارج، مما جعله يعاني من صنوف التفرقة العنصرية، ويعاني إحساساً عميقاً بالإغتراب عن الذات اليهودية الحقيقية، ومن ثم فأنه لا يمكن حل المسألة اليهودية ببعديها الإجتماعي والنفسي، إلا من خلال تشجيع الإستيطان في فلسطين. كما ترى الحركة الصهيونية بأن جذور القومية اليهودية تعود إلى الدين اليهودي ذاته، وأن التأريخ اليهودي هو تأريخ شعب مختار منفي مرتبط بأرضه ينتظر دائماً لحظة الخلاص والنجاة.

ومن هنا نجد أن سعي الحركة الصهيونية إلى إقامة الدولة اليهودية في فلسطين يستند إلى مبررات تأريخية مزيفة ومشوهة للحقائق الموضوعية، وأخرى بتأويلات وتفسيرات توراتية دينية ملفقة، في حين أن حقيقتها الجوهرية تحمل أبعاد سياسية توسعية إستعمارية، لا سيما وأن إسرائيل نفسها هي نتاج مشروع إستعماري إستيطاني عالمي. وهو ما عملت عليه إسرائيل بعد إحتلالها لفلسطين من خلال هدم القرى والسعي لإزالة الشخصية الفلسطينية العربية، وإقامة المستوطنات مكانها للقضاء على عروبة فلسطين.

2- الأبعاد السكانية:

 إذ تتمثل الإستراتيجية الإسرائيلية في هذا الجانب بأن إعادة توزيع السكان هو هدف إستراتيجي داخلي له أهمية فائقة لنجاح سياسة الإستيطان في فلسطين، ومن هنا سعت إسرائيل إلى تحقيق الهدف الصهيوني بتهجير اليهود من كافة مناطق العالم إلى فلسطين، كون قادة الحركة الصهيونية أدركوا أهمية العامل السكاني في إقامة الكيان الإستيطاني، إذ عملت إسرائيل باستمرار على زيادة الهجرة لتكون الغلبة في عدد السكان في فلسطين لصالح اليهود، وهذا لا يتطلب تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين فحسب، ولكنه يتطلب أيضاً طرد السكان العرب من أراضيهم وإرغامهم على الهجرة أو إبادتهم بحجة التعاون مع المقاومة الفلسطينية.

3- الأبعاد الإقتصادية:

 وتتمثل بأهمية تحقيق الإستقرار المادي والمعنوي لليهود كونه من العوامل المهمة بالنسبة للمهاجر للمحافظة عليه، ولكي لا يفكر ثانية بالهجرة المعاكسة، حتى تولد أجيال في فلسطين لا تعرف وطناً غيره، إذ تهدف إسرائيل عن طريق ضم الأراضي ومصادرتها وإقامة المستوطنات عليها إلى تقوية القاعدة الإقتصادية للكيان الصهيوني لتتمكن في المستقبل من الإعتماد على نفسها وعدم الخضوع للضغوط الخارجية.

4- الأبعاد السياسية: إن إسرائيل لا تُعد دولة لليهود فحسب، بل هي قاعدة إستعمارية متقدمة لإضعاف الأمة العربية وتمزيقها والحيلولة دون تحقيق الوحدة والتقارب بين شعوبها بهدف تحقيق المصالح الأمبريالية الحيوية في هذه المنطقة، فالعمل على تقوية مركز إسرائيل ودورها الإقليمي في المنطقة هو عامل مهم لتحقيق تلك الأهداف من خلال خلق جسم غريب في قلب المنطقة العربية ليكون فاصلاً بين آسيا وأفريقيا، وهو ما يضمن إستمرار حالة الإنقسام بين الدول العربية.

وهكذا فقد شكلت سياسة الإستيطان الأداة الرئيسة للحركة الصهيونية في فرض سيطرتها السياسية بالتدريج على فلسطين منذ أواخر القرن التاسع عشر، إذ كانت حدود الإستيطان فضلاً عن إستعمال القوة العسكرية هي التي تقرر إلى حد ما الحدود السياسية المقترحة لإسرائيل، كما أنها قد توظفها كورقة ضاغطة لها وزنها في أية تسوية مستقبلية.

5- الأبعاد الأمنية:

 إن مسألة الحدود والأمن هي أمر غير قابل للنقاش من قبل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لأهميتها بالنسبة لإسرائيل، ذلك أن الحدود والأمن لهذه القيادات يعنيان أن التوسع والضم هما السياسة التي يجب أن ترتكز عليها إسرائيل لغرض إنجاز هذين الهدفين، وهو ما يندرج في إطار نظرية الحدود الآمنة والحدود القابلة للدفاع، ومن ثم تبلورت نظرية الحدود التي يمكن الدفاع عنها من دون مبادرة إستباقية، الأمر الذي مهد لاحقاً لظهور إستراتيجية الردع الإسرائيلية.

ومما عزز من ذلك أن حدود إسرائيل تتمدد باستمرار مع مدى ما تصل إليه قوة جيشها، فإسرائيل هي أول (دولة) في العالم يجري إعلان قيامها دون أن يصاحب ذلك الإعلان بيان يحدد الخطوط على الأرض وموقعها على الطبيعة. وهو ما يعني أن الحدود الإستراتيجية الآمنة لإسرائيل أمر حيوي إنطلاقاً من أن أمن إسرائيل لا يمكن صيانته بإنسحاب كامل من الأراضي التي إحتلتها في حزيران 1967، كما أن إسرائيل يمكن أن تتنازل عن أراضٍ، ولا يمكن أن تتنازل عن حدود إستراتيجية آمنة قابلة للدفاع.

وهكذا يتضح أن السياسة الإستيطانية الإسرائيلية كانت منذ البداية عملية مخططة ومبرمجة من خلال السيطرة على الأراضي الخصبة وذات الموقع الإستراتيجي المهم في فلسطين والتي تتوفر فيها المزايا الإقتصادية والعسكرية والجغرافية، بهدف تحقيق الإستقرار والأمن مما يشجع على هجرة مهاجرين جدد وبناء المستوطنات الجديدة وبما يضمن توسع الكيان الصهيوني.

ومما تقدم، نخلص إلى أن الحكومات الإسرائيلية عملت وبمختلف الوسائل إلى تحقيق أهدافها وغاياتها، على الرغم من أنها كانت تدعي بأن الإجراءات الإسرائيلية هي لإعتبارات أمنية، إلا أن الواقع يؤشر عكس ذلك كون تلك السياسة كانت ولا تزال ذات طابع سياسي بالدرجة الأساس، على الرغم من عدم إغفال الدافع الأيديولوجي لليهود في الإستيطان بالقدس، فضلاً عن محاولة القضاء على العنصر العربي وإقتلاعه من أرضه، ليكون خارج الحدود الإسرائيلية في مناطق تستطيع إسرائيل التحكم فيها من خلال القوة العسكرية، أو من خلال محاصرة تلك المناطق والحيلولة دون نموها وتطورها وزيادة مستويات الفقر والتخلف فيها.