آفات أجتماعية قاتلة (14)
“أركيولوجيا الكراهية” صِدام إرادات ..إزالة معالم ..محو هويات !
أحمد الحاج
أكثر من 20 عاما وبين أضلعي أشواق حرى ليست كبقية اﻷشواق ، وفي قلبي المكلوم حب جارف من طرف واحد لم يتسن لصاحبه العاشق الولهان اللقاء بحبيبته المحاطة بأسوار عالية وأسلاك شائكة تارة ، وبفيافي وقفار وكلاب مسعورة تارة أخرى ، والسؤال الذي ألقى بظلاله على عقلي وجوارحي طيلة الفترة الماضية ومازال يؤرقني ترى هل سيلتقي -روميو- الحاضر بجولييت الماضي ..عنتر المدينة بعبلة الصحراء ..قيس الواقع بليلى الخيال ؟!
مهلا ،ﻻ تتعجلوا ، أرجو أن لايسرح خيالكم بعيدا ليتوهم حبيبين إنسيين إثنين فرق الزمان بينهما عذريا على الطريقة الرومانسية ، ليس اﻷمر كذلك ، أنا أتحدث هنا عن العشق – اﻷركيولوجي – الممنوع الذي تحول في العراق الى صِدام زعامات ، صراع أيدولوجيات ، إزالة معالم ، محو هويات ، نزاع إرادات حتى بات أحد طرفي المعادلة هائما يبكي كطرفة بن العبد وأمرؤ القيس على اﻷطلال ، فيما الثاني صار جاثما على الصدور يريد فرض حبيبته بالقوة ولوحدها على اﻷجيال ..أقول 20 عاما وأنا أحاول بشتى الطرق أن أطوف كإبن بطوطة في أرجاء بلدي متنوع الثقافات ، كإبن جبير في رحاب وطني غابر الحضارات ﻷطلع على مابناه اﻷجداد وتركوه لنا من لقى ورقم ومعالم وآثار سواء أكانت محفوظة داخل المتاحف ، أم في أماكنها اﻷصلية التي دنسها ويدنسها يوميا كل لص آثار تحت جنح الظلام زاحف فلم أفلح ، ولكل إخفاقة حكاية ورواية فمع المتحف الوطني العراقي بمنطقة العلاوي الذي سرقت وحطمت معظم مقتنياته اﻵثارية على يد مافيات دولية محترفة بعيد الغزو الاميركي البغيض ليعاد نزر يسير منها بالتتابع وعلى فترات متباعدة – قسم ليس بالقليل منها مقلد ومصنوع من الجبس – كانت لي حكاية فبعد محاولات تلو أخرى لإجراء تحقيق صحفي بشأنه باءت كلها بالفشل وتحطمت على صخرة الروتين والبيروقراطية المقيتة – وكتابنا وكتابكم – سافرت الى الامارات بدعوة رسمية لحضور منتدى الإعلام العربي وهناك في “ابو ظبي” شاءت اﻷقدار أن يقام يومئذ معرض للاثار العراقية بعد إستعارتها من المتحف البريطاني لفترة محدودة ﻷتشرف وللمرة اﻷولى برؤية آثار بلادي – المسروقة والمهربة – والتي لم أحظ بشرف رؤيتها اﻻ على أرض محايدة !!
محاولة إجراء تحقيق ميداني عن ” باب الظفرية ” التأريخي وسط العاصمة بغداد إنتهى بدوره بهجوم شرس للكلاب السائبة على طاقم التصوير ما إضطرنا للهروب مسرعين قبل الوصول الى الباب وكنت أول الصحفيين عدوا وأسرعهم فرارا وﻻ أدري حتى اللحظة فيما اذا كانت تلكم الكلاب تحمي الباب اﻵثاري من المتطفلين ، أم إنها تتخذه كالمحتلين لها سكنا ؟!
وبعيدا عن تفاصيل القراءات والمتابعات اليومية لملف المعالم اﻵثارية والتراثية والفلكلورية في العراق وما يكتنفها من تهريب ،إهمال ،عبث ، تدمير ، ولكن قريبا من مضمونها فبإمكاني أن أذيع سرا ﻻ أزعم إكتشافه بقدر كشفه للملأ اﻻ وهو إقحام هذا الملف الخطير في دائرة الكراهية التي زرع بذورها المحتل اﻷميركي منذ غزوه للعراق عام 2003 فلو أن كاتدرائية نوتردام على سبيل المثال والتي صدم حريقها الذي أتى عليها كليا الشعب الفرنسي وكل الشعوب الاوربية لرمزيتها الوطنية وعراقتها التأريخية وقيمتها اﻷدبية المرتبطة برائعة ” أحدب نوتردام ” لفيكتور هوغو ، ومكانتها السياحية اذ يقصدها أكثر من 13 مليون سائح سنويا ، أقول لو أن هذه التحفة المعمارية كانت في كردستان العراق مثلا فإن العرب لن يهتموا كثيرا بما ألم بها والعكس صحيح ، لو أنها كانت اسلامية فإن بقية الديانات لن تهتم بها والعكس صحيح ، لو أنها كانت في المناطق الغربية والشمالية السنية فإن المناطق الجنوبية الشيعية لن تعير كارثتها إهتماما قط والعكس صحيح ، وهكذا دواليك لفقدان المعالم في العراق قيمتها الوطنية وبعدها الحضاري في العقل الجمعي بفعل ” اركيولوجيا الكراهية “في سابقة من نوعها لم يشهد لها وادي الرافدين مثيلا قبل الاحتلال الغاشم ، بخلاف المصريين الذين أهتموا بآثارهم ومعالمهم أيا كان بانيها والحقبة التي تمثلها ” الفرعونية ،القبطية ، الاموية ،الطولونية ، الفاطمية ،الايوبية ، المملوكية البحرية ،المملوكية الشركسية ، العثمانية ، فضلا عن عصر محمد علي وماتلاه ” وكلها محط احترام وتقدير ورعاية على مستوى الحكام والمحكومين كونها ثروة وطنية وقيمة حضارية ووجهة سياحية ، على النقيض مما يحدث في العراق من تجزئة للمعالم وفقا للاهواء والخلفيات الفئوية والطائفية تتباين فيها دائرة الاهتمام والرعاية بين مد وجزر إتكاءا على العصبيات ﻻ على الحضارات إضافة الى إهدار 112 مليون دولار على مشاريع ثقافية وهمية !
وقد شخصت خللا خطيرا في هذا الملف إضافة الى ما ذكرت خلاصتها :
أن كل معلم آثاري عباسي سيخيم عليه الاهمال لامحالة وربما الدعوة الى هدمه أيضا كما أشيع مؤخرا على لسان نائب في البرلمان دعا الى هدم ملوية سامراء الاثارية التي بناها الخليفة العباسي المتوكل على الله،عام 237 هـ ، لتشهد أول حادثة انتحار – وربما قتل – بعد اسابيع من طابقها الرابع لشاب يدعى “عمر عباس” على خلفية مشاكل عائلية وﻻ ادري لماذا اختار- عباس – التحفة الملوية لخاتمته المأساوية ، ألتشويهها ، أم لتوثيق انتحاره تأريخيا مطلقا العنان بفعلته الشنعاء تلك لعشرات خلفه سيحاولون محاكاتها بعمليات انتحار مماثلة كما يحدث عند ” صخرة الموت ” ببيروت ؟ وسواء أطالب النائب بهدم الملوية أم لا فإن الجهة التي أشاعت الخبر تهدف الى جس نبض الشارع بشأن العبث بالمعالم الاثارية وما اكثرها تماما كالعبث والاهمال الذي طال بغداد العباسية القديمة بكرخها ورصافتها عمدا لاسهوا ، لعل من أبرزها جامع الخلفاء الذي بناه الخليفة العباسي المكتفي بالله سنة 295 هـ والتي كادت منارته الشهيرة أن تسقط قبل مدة قصيرة لولا هاشتاجات الناشطين ومطالباتهم بإنقاذها ، كذلك المدرسة المستنصرية التي بناها في بغداد عام 1233 الخليفة المستنصر بالله ، وقد رأيت بأم عيني سكيرا عراقيا يتبول على جدارها الخارجي ﻹمتهانها فيما كان سائح اجنبي يلتقط صورا على سطحها إعجابا بها ، ناهيك عن اندثار الاف المدارس والخانات والابنية العباسية العريقة حتى لم يبق لها اثر اﻻ فيما ندر ، ليس الاهمال والعبث وحده من يطول الاثار العباسية بل الصراع المحتدم بشأنها ايضا كما حدث لجامع (الاصفية) الملحق بالمدرسة المستنصرية و الذي يزعم الوقف الشيعي بأنه مرقد الكليني صاحب كتاب ” الكافي ” ، فيما يدعي الوقف السني بأنه مرقد الحارث المحاسبي ، صاحب كتاب ” التوهم ” كل ذلك بخلاف ما يرجحه المؤرخون من أنه مرقد ﻷحد مشايخ الصوفية المولوية !
كل معلم آثاري كانت له بصمة في هزيمة الفرس والروم وصد الهجمات الصليبية تأريخيا سيتعرض للاهمال أو التدمير ﻻمحالة ، كما حدث مع مملكة الحضر التي دمرت على يد ما يسمى بتنظيم داعش وتمثال ثاني ملوكها سنطروق الاول الذي اعيد بعد سرقته وتهريبه من بيروت الى بغداد بصندوق طماطة ، وآثارها التي دمرها عناصر داعش بالمعاول في نيسان 2015 ومتحف الموصل الذي دمرت مقتنياته في شباط 2015 تماما كما صنع بمعالم النمرود التاريخية التي جرفت بواسطة الشفلات ،علاوة على نسف المنارة الحدباء الملحقة بجامع النوري الكبير، جامع النبي يونس الذي نسفه التنظيم في تموز 2014، جامع النبي شيت الذي دمر في اليوم التالي، مثلثا بجامع النبي جرجيس الذي فجر بعد سابقيه خلال 48 ساعة!
وعلى ذات المنوال فإن كل معلم عثماني صائر الى زوال أو إهمال متعمد، قلاعا كانت أم أبنية أم حصونا أم مساجد عريقة ولعل آخرها وليس أخيرها ما حدث لجامع الاحمدية الذي بناه نائب سليمان باشا الكبيرسنة 1796م ، حين انهارت احدى قبابه فلم يتدخل احد لإعادة بنائها لحين اطلاق حملة الكترونية لناشطين انتهت بتعهد السفير التركي ببغداد بإعادة ترميمها مع الجامع بعد زيارة عاجلة قام بها – جيو سياسيا – تماما كما تفعل ايران – جيو سياسيا – مع معالم تدعي نسبتها اليها في العراق وتعلن عن اعادة اعمارها وتأهيلها بين فينة واخرى ، وكما يفعل الفاتيكان مع المعالم المسيحية ، وما يصدق على الاحمدية يصدق على جامع الحيدر خانة الذي بناه الخليفة العباسي الناصر لدين الله ، واعاد بناءه وتوسعته والي بغداد العثماني داود باشا سنة 1827م، وجامع مرجان الذي بنى مدرسته أمين الدين مرجان ، وقام سليمان باشا بتوسعتها وتحويلها الى جامع كبير وكذلك ” جامع الازبكية ، المرادية ، الفضل الكبير ، الوفائية ، العادلية ،العثمانية ، العاقولية ، الاباريقي ،قنبر علي ، ،سراج الدين ، سيد سلطان علي وجامع الخفافين ، واﻷخيران يشهدان نزاع ملكية مماثل لنزاع الاصفية ” وغيرها الكثير فكلها تتعرض الى اهمال متعمد إنتقائي بعد إخضاعها الى – اركيولوجيا الكراهية – بإعتبار انها داخلة ضمن الصراع العثماني – الصفوي التأريخي الذي يلقي بظلاله على تفكير الطائفتين الرئيستين – السنة والشيعة – ما ينعكس على وقفيهما ايضا بفعل ضغط جمهورهما عليهما ، ناهيك عن عائدات الوقفيات التي تدر ذهبا التابعة لكل معلم مذكور في قلب العاصمة ، اضافة الى تغيير الهويات المناطقي التدريجي، وإن لم يعلن عنه ظاهرا بشكل سافر خشية زيادة طين التبعية والعصبية والطائفية بلة .
وخلاصة القول لاتخضعوا المعالم الاثارية ، التراثية ، الفلكلورية لثقافة الكراهية الانتقائية ، فهي إرث حضاري قبل ان يكون تراثا إنسانيا يتحتم على الجميع المحافظة عليها والحيلولة من دون العبث بها ، والكف عن ترديد عبارة ” إنها مجرد حجر في بلد هلك فيه البشر والشجر ” ﻷنها مقولة حق اريد بها باطل، وهذه العبارة عادة ما تصاغ فئويا وتقال للتقليل من شأن المعالم التي تخص المكونات الاخرى ، فيما تقلب الدنيا عاليها واطيها ان عبث بمعلم يخص المنتقدين أنفسهم ، والكف عن ترديد عبارة ” أتركوا اثارنا تُهرب ليحافظ عليها الاجانب في متاحفهم ﻷنها ان بقيت هاهنا فسيطالها الخراب والتدمير ” فهذا مرادهم لإفراغ العراق من كل جميل وأصيل ، والابقاء على كل قبيح ودخيل مكانه ، كما ان حماية المواقع الاثارية من عبث العابثين ، وملاحقة لصوص الاثار ومهربيها والتثقيف بالمحافظة عليها والسعي الحثيث لإستعادة ماهرب منها ، وعدم التفريق بين المعالم بناء على ” أركيولوجيا الكراهية ” واجب وطني واخلاقي لايقتصر على الجهات الحكومية فحسب وانما هي مسؤولية مشتركة بين الجميع كل بحسب موقعه واختصاصه وما أفلح قوم ضيعوا جذورهم كما ضيعوا بلادهم طائفيا وانتقائيا . اودعناكم اغاتي