هناك دوما في حقول آداب اللغات والترجمة، وسائل وصيغ حضارية تقوم بها مؤسسات أكاديمية أو مراكز دراسات وأبحاث سياسية أو علمية، لغرض نقل تجارب الشعوب وحضاراتها في مختلف ميادين المعرفة، فمنذ مئات السنين إن لم تك الآلاف تلاقحت حضارات ولغات وعادات وتقاليد بين شعوب الأرض، حتى لم تعد هناك لغة نقية بالتمام والكمال، ما لم يكن فيها مفردات من لغات أخرى، وفي محيطنا شهدت الشعوب ومنها العربية ومنذ أكثر من ألف عام عمليات ترجمة ونقل كثير من معارف الرومان والفينيقيين والميديين والآشوريين وغيرهم من وإلى العربية، بما في ذلك العقائد الدينية وميثولوجيا الشعوب. وقد أردت بهذه المقدمة أن أضع إمامكم التكييف الحضاري للتعريب، قبل تناول الشكل الهمجي العدواني الذي استخدمته بعض الحركات والأحزاب العنصرية القومية والدينية العربية مع مكونات العراق وسوريا وشمال أفريقيا من غير العرب، وهو بالتأكيد لا يمت بأي صلة من الصلات بما ذكرناه أعلاه، لأنه استهدف الإنسان غير العربي في هويته وذاكرته وانتمائه وحتى إنسانيته، وتسبب في تشويه حاد وتغيير ديموغرافي في الأرض والإنسان، ولا علاقة للعرب أو الأمة العربية بما فعلته تلك الأنظمة والأحزاب العنصرية، كما أنها غير مسؤولة إلا بالقدر الفردي الذي استخدم وسيلة لتحقيق تلك الأغراض، ومن أكثر النماذج التي استخدم فيها التعريب تلك المدن التي تشكل حافات إقليم كوردستان أو حدوده في كل من العراق وسوريا:

 

     ففي العراق تم تهجير مئات الآلاف من السكان الكورد الأصليين في كركوك ومناطق ديالى وجنوب اربيل ( مخمور ) وشمال وغرب الموصل في زمار وسنجار وسهل نينوى، واستقدام مئات الآلاف من العرب إلى تلك المدن، وقد اختلفت أساليب التعريب والتغيير الديموغرافي من مكان إلى آخر، ففي سنجار مثلا لم يستقدم عرب من خارج القضاء إلا بنسبة ضئيلة جدا، لكنهم شجعوا أبناء البادية والجزيرة والقرى الجنوبية التابعة لقضائي سنجار والبعاج، بل وتحويل البعاج وهو قرية كبيرة إلى قضاء امتد في حدوده الشمالية إلى مركز مدينة سنجار، سالخا معظم قرى سنجار الكوردية وربطها بالقضاء الجديد ذو الغالبية العربية، وبذلك شجعوا أبناء تلك المناطق وعشائر البعاج بالسكن في مركز المدينة مع إغراءات الأرض السكنية والقرض والوظيفة، بينما كان يحرم على ابن المدينة أن ينال نفس الحقوق إلا بتغيير أو (تصليح) قوميته إلى العربية، مما دفع سلطات حزب السلطة وأجهزتها الخاصة للتوجه إلى كل بيوتات سنجار وعشائرها وكذا الحال في زمار والشيخان وسهل نينوى، والضغط باتجاه تغيير القومية وإلا سيتم ترحيلهم فورا، وذات الأسلوب استخدم في مناطق ديالى أيضا، حيث منع بشكل يعاقب عليه القانون استخدام الأسماء الكوردية أو تمليك الدار أو أي عقار حتى السيارات لمن قوميته كوردية، وذلك لدفع السكان إلى تغيير قوميتهم إلى العربية، وفي كركوك ومعظم بلدات وقرى الحدود السورية العراقية والسورية التركية، تم ترحيل سكانها الكورد الأصليين وإسكان مواطنين عرب بدلا عنهم، كما حصل في مخمور ومشروع ري الجزيرة،  أيضا وبإغراءات كبيرة مثل تمليكهم 100 دونم أو 60 دونم من الأراضي حسب حجم الأسرة، مع تسهيلات زراعية وقروض مالية، حُرِم منها سكان المنطقة الأصليين الذين وضِعوا أمام خيارين؛ إما الترحيل وخسارة كل شيء أو ( تصليح ) القومية من الكوردية إلى العربية والحفاظ فقط على ممتلكاتهم، وكانت كركوك الطامة الكبرى التي تعرض فيها السكان لواحدة من أبشع عمليات الإبادة والعنصرية المقيتة، حيث تم تهجيرهم وتشتيتهم في كل أنحاء كوردستان والعراق، مع مصادرة كل ما كانوا يمتلكونه، واستقدام مئات الآلاف من أهالي الجنوب والفرات الأوسط إلى المدينة وأطرافها، مع مغريات كبيرة بدأت بعشرة آلاف دينار، في حينها كانت أكثر من ثلاثين ألف دولار، إضافة إلى قطعة ارض سكنية ووظيفة عسكرية أو أمنية أو مدنية.

 

     إن ما تعرضت له هذه المدن لم يبدأ مع تسلط البعث، وان كان قد وصل إلى ذروته مع اغتصابهم للسلطة في دمشق وبغداد، بل كانت سياسة كل الذين حكموا البلاد العراقية والسورية منذ قيام هذه الكيانات بعد اتفاقية سايكس بيكو، حيث تعرض الأهالي لشتى أنواع الإبادة الاجتماعية، سواء بمسخ هويتهم وثقافتهم وتحريم لغتهم، أو من خلال الحملات العسكرية التي استهدفتهم كمجتمعات بشرية، كما حصل للكورد في الأنفال العراقية أو التتريك في تركيا، والعمل على إبادتهم كليا، وكذا الحال في إيران التي استخدمت ذات الثقافة والأسلوب الهمجي في التعريب ولكن بصيغة التفريس أو التتريك، وفي سوريا لم يكتفوا بالتهجير والترحيل بل تم سحب الوثائق الرسمية التي تثبت مواطنيتهم السورية مثل شهادات الجنسية والهوية المدنية من مئات الآلاف واعتبارهم جاليات مقيمة محرومة من كل امتيازات المواطنة، وفي العراق على سبيل المثال وقبل قيام المملكة العراقية وتحديدا مطلع القرن الماضي 1903 لم تتجاوز نسبة العرب في كركوك 3% من السكان، وفي سنجار وحتى منتصف الخمسينيات من القرن الماضي لم يكن هناك أكثر من 10% من السكان عربا ومعظمهم من البدو، وكذا الحال في الموصل التي كانت تضم كل كوردستان العراق حينما كانت ولاية قبل إدغامها في مملكة العراق، ويعرف سكانها الأصليون كم هي نسبة العرب في ساحلها الأيسر على سبيل المثال لغاية مطلع الستينيات من القرن الماضي، وما حصل فيه بعد ذلك.

 

     لقد أنتجت تلك السياسة البائسة والعنصرية المقيتة، تمزيق حاد في البنية الاجتماعية العراقية والسورية وبقية البلدان التي تعرضت لها، بل تسببت في حروب وعمليات إبادة جماعية للسكان ( الانفال وحلبجة ) وما فعلته داعش بالايزيديين والمسيحيين في كوردستان العراق، كل هذه المآسي جاءت نتيجة لتلك السياسة في التعريب والاسلمة، وما يسمى اليوم بالمناطق المتنازع عليها في كوردستان العراق، وهي أصلا مدن وبلدات كوردستانية تعرضت لتك السياسة المقيتة، ذهبت فيها أجيالا كاملة ضحية لتلك الثقافة الهمجية، حيث فقدت لغتها وثقافتها بسبب منع تعلمها أو استخدامها للغتها الأصلية، بل عملت على تمزيق المكونات الاجتماعية من بيوتات وعشائر على خلفية تعريب البعض منها ورفض البعض الآخر لتلك العملية.

 

     وشتان بين أن تنقل وتترجم آداب وحضارة شعب إلى لغتك وبين أن تمحو ثقافة وحضارة شعب آخر لتحتل ذاكرته!