فيما مضى من الزمان، وفي إحدى حصص تعلّم اللغة الإنكليزية، التفت إلينا مدرس اللغة وهو إنكليزي المنشأ والمحتد، وكان في الصف لفيف من المتعلمين والمتعلمات من جنسيات مختلفة ولغات متنوعة جمعتهم واحدة من قاعات كلية “هارو اون ذي هِل” شمال غرب لندن، فقال وبحسرة:
إنني أغبطكم، صحيح أنكم طلبتي أعلّمكم قواعد اللغة الإنكليزية وطريقة المحادثة اليومية، ولكنكم أفضل حالاً مني، فأنا لا أجيد إلا اللغة الأم وهي الإنكليزية، فيما أنكم تتحدثون بلغاتكم وقدمتم هنا لتعلم لغة ثانية، وهذا يعني أنكم أفضل حظاَ منّي وربما بعضكم يتحدث بأكثر من لغتين. ومما علق بالذاكرة قوله: إنَّ اللغة الثانية هي ثقافة ثانية يضيفها المرء لثقافته وإذا أحسن استخدامها زادته ثقافة فوق ثقافته أعانته على حياته اليومية وأفاد بها بني جنسه وغيرهم. ولم يخطئ الرجل، فاللغة ثقافة قبل أن تكون كلمات تنضد وتنظم في سياقات للتفاهم والتحاور والمخاطبة، وهي ليست كلمات جامدة، ففيها من الروح والحيوية لا يدركها الا الذي يتعاطاها كلغة أصلية أو لغة ثانية، ورغم حديثي عن اللغة الثانية،
لكن حظوظي منها غير كافية، فتعاملي اليومي مع اللغة العربية في وسط عربي لم يجعلني أتسلط على اللغة الإنكليزية كما لم يجعلني من قبل أتسلط على اللغة الفارسية يوم كنّا في الهجرة القسرية نعمل في الصحافة العربية في طهران، ولكن اللغة الثانية تبقى مفيدة حتى ولو بقدر، ومن المفارقات اللطيفة أننا كنا في ندوة عامة مفتوحة في الهواء الطلق دعينا إليها في أحد أحياء العاصمة السنغالية دكار وكان ذلك يوم 30/1/2011م للحديث عن النهضة الحسينية،
وكان آية الله الشيخ حسين الكرماني ممثل المرجع الديني الأعلى آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني، القادم من مدينة قم المقدسة في إيران، من ضمن المتحدثين، وحيث أن الفارسية هي لغته الأم، فحاروا في أمر الترجمة لأن المترجم ولظروف خارجة عن إرادته تعذّره حضوره، فوقع الخيار عليّ أن أقوم بترجمة الكلمة الفارسية إلى العربية ثم يقوم المضيِّف الذي يجيد العربية بترجمتها إلى لسان أهل المدينة وهي اللغة الولفية،
وهكذا كان، ولأنَّ المجتمع السنغالي تواّق إلى المعرفة فكان صبره على ثلاثية الحديث المترجم من الفارسية إلى العربية إلى الولفية هو سيد الموقف في الخيام التي نصبت في الحي. هذه الذاكرة القديمة المتجددة حول اللغة والثقافة والترجمة فتح مصاريع أبوابها الإنتاجُ الجديدُ من دائرة المعارف الحسينية وهو الجزء الأول من “ديوان الشعر الإنكليزي” الصادر العام الجاري 2013م عن المركز الحسيني للدراسات بلندن في 326 صفحة من القطع الوزيري للمحقق الأديب الدكتور محمد صادق الكرباسي.
هنا كربلاء لا نتحدث عن مدينة كربلاء المقدسة الواقعة وسط العراق، والتي تشرّفت بمرقد الإمام الحسين(ع) منذ أن سقط على الأرض شهيدها عام 61هـ، كما يوحي العنوان الفرعي،
وإنما نتحدث عن العاصمة البريطانية لندن التي يحلو للبعض أن يسميها كربلاء أوروبا، حيث تتشح المئات من المساجد والمراكز والحسينيات والمنازل بالسواد إحياءً لذكرى استشهاد الإمام الحسين(ع) ويرفع البعض الرايات الحمراء فوق المنازل تعبيراً عن راية العباس بن علي بن أبي طالب(ع) الذي كان يحملها في عرصات كربلاء في عاشوراء 61هـ، ففي لندن وباقي المدن البريطانية تُقام المئات من المحافل العاشورائية يكون للشعر الحسيني باللغة الانكليزية حضوره الفاعل،
ولا سيما في نهاية الألفية الثانية وبداية الألفية الثالثة، وهي الفترة التي بدأت تشهد صعود طاقات أدبية شابّة من الوسط الإسلامي المهاجر فضلاً عن الوسط البريطاني المسلم نفسه، وهي طاقات وظّفت الأدب الإنكليزي في بيان عظمة النهضة الحسينية وأهميتها في حياة الشعوب.
ومن النعم المعرفية أن تكون دائرة المعارف الحسينية للفقيه المحقق الدكتور الشيخ محمد صادق الكرباسي قد ولدت مكانيا في لندن عام 1987م، ولذلك فإن وقوفها على الأدب الحسيني في جزيرة أدب شكسبير هو في صلب اهتمامها، وقد أفردت من ضمن أبوابها الستين، بابا خاصاً بالأدب الحسيني غير العربي ومن ذلك الإنكليزية، وحيث من ديدن المحقق الكرباسي التمهيد لبيان الشعر الحسيني بكل لغة، كتابة مقدمة عن تلك اللغة، فإن لغة شكسبير هي الأخرى استأثرت بمقدمة وافية، أعقبها الجزء الأول من ديوان الشعر الحسيني باللغة الإنكليزية، الذي أخذ من المؤلف جهداً غير اعتيادي في لململة التراث الحسيني بلغة إليوت، على أن المؤلف سبقهما بكتاب صدر عام 2007م أسماه (الإسلام في بريطانيا) بحث فيه تاريخ نشوء الإسلام في المملكة المتحدة ووقف فيه على مسار النهضة الحسينية وتفاعل المجتمع البريطاني من مهاجرين وأصلاء معها.
ولما كان الإحتكاك المباشر بين جزيرة بريطانيا والمجتمع المسلم ليس ببعيد زمانيا، فإن الأدب الحسيني في الأدب الإنكليزي هو الآخر ليس ببعيد، وهذا ما يظهر من خلال القصائد التي أوردها المؤلف ونظم ترتيبها حسب وفاة الشاعر، فكانت أول قصيدة تحراها تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، على أن المؤلف في مقدمة الديوان أورد شرحاً مع الأرقام باللغة الإنكليزية والناطقين بها بخاصة في الدول التي تعرضت لاحتلال القوات البريطانية قبل الحرب العالمية الأولى وأثنائها ومنه العراق، وكان احتلال العراق قد فتح شهية المستشرقين والرحالة للتعرف على العراق من الداخل وكانت النهضة الحسينية وشعائر في صلب هذه المعرفة خصوصا إذا عرفنا ان حركة الشعب العراقي المضادة للغزو أثناء دخول القوات البريطانية لاحتلال العراق عام 1914م وفي ثورة العشرين عام 1920م لإخراجها إنطلقت من مرقد الإمام الحسين(ع) وتحت شعار (هيهات منّا الذلة)، وكانت هذه الفترة أوضح المراحل لتعرف المجتمع البريطاني على الثقافة الحسينية التي تشعل النفوس الأبية باتجاه التحرر ورفض العبودية، وباعتقاد الأديب الكرباسي:
(لعل أول ما تعرَّف عليه الإنكليز من النهضة الحسينية بشكل يثير عواطفهم هي الشعائر الحسينية في عهد الإحتلالات) مشيراً إلى احتلال بريطانيا لإيران الكبرى والهند الكبرى والبحرين الكبرى، ومن المفارقات أن: (أصبح الحسين(ع) ومحبوه في عقر دورهم، ومنها هذه الموسوعة المباركة التي بدأت من عاصمتهم لتحيي نهضة الإمام الحسين(ع) على بُعد آلاف الكيلومترات من مرقده الشريف). قوافيهم وقوافينا وليس بالضرورة أن ينظم في الإمام الحسين(ع) من شهد الشهادتين، فهناك عدد غير قليل من الأدباء استهوتهم مبادئ النهضة الحسينية وداعبت مشاعرهم وأحاسيسهم فترجموها إلى نظم،
على أن النظم الإنكليزي بخاصة والغربي بعامة لا يتشاكل كليا مع النظم العربي من حيث القافية والوزن والبحر، فالشعر الإنكليزي لا يتقيد بالوزن، وبحوره قليلة العدد، والقصيدة الواحدة بشكل عام أشبه بالمقطوعات المترتبة من أسطر موزونة تختلف نبرتها بين أبيات وأخرى، أي أنها تعتمد الصوت وتكراره في نهاية الشطر فيقال لها تجوّزا قافية ختامية ومنها قول الشاعر علي بن مهدي المتوفى عام 1985م: O Furat, did recorded a dirge, your waves An elegy, your murmur foundly saves فالشاعر هنا في هذه القصيدة المؤلفة من 22 شطراً يخاطب نهر الفرات الذي استشهد عنده الإمام الحسين(ع)، فيقول: رتّلت أمواجَ حُزْنِكَ نُدْبةً أيها الفراتْ تركَ لنا خريركَ وَلَهاً في الرثاء مقطوعة أبياتْ. في مثل هذه القصائد يشترك كل شطرين بنهايات الصوت ويختلف من حيث الحروف وقد تتماثل، وهو أشبه بالشعر المثنوي أو الثنائي الذي يتشاكل فيه البيت في القافية في صدره وعجزه، وتختلف قوافي الأبيات في القصيدة الواحدة، ومثل هذا يكثر في الشعر الإنكليزي المقفى صوتيا وقد يُسمى بالمصطلح الإنكليزي (rhyming couplet)،
وزيادة في التمثيل فإن قصيدة الشاعر علي مهدي تنتهي بالكلمات الثنائية التالية: (came) (fame)، (eye) (dye) ، (pace) (grace)، (high) (nigh)، (earth) (mirth)، (appeared) (revered)، (blood) (flood)، (start) (impart)، (fate) (state)، (sigh) (nigh)، فهذا نموذج من الشعر الإنكليزي، ولكنه بشكل عام كما يؤكد المؤلف:
(أنَّ الشعر الإنكليزي كله شعر حر وقد يقفّى، ولكن لا التزام بالقافية فإنه يلتزم بصوف الحرف ويكفيه تقارب المخارج، ومنها عدم الإلتزام بعدد التفعيلات في الشطر وتطابقها بالشطر الآخر)، وبشكل عام فإن التفعيلة في الشعر الانكليزي تتألف من عدد محدود من المقاطع منها المنبورة ومنها غير منبورة،
والنبر هو إظهار الصوت ورفعه على جزء من الكلمة وهذا ما نلاحظه في الكلمات الإنكليزية السابقة فعند القراءة المعربة تصبح كالتالي: (كَيْمْ) (فَيْمْ)، (آيْ) (دايْ)، (پَيْسْ) (گرَيْسْ)، وهكذا، فالنبر يقع على نهايات الكلمات، وهنا توحّدت الحروف النهائية مع النبر، ولكن في بعض القصائد تختلف الحروف وتتوحد من حيث النبر والنطق بما يوحي للسامع توحد القافية في القصيدة الإنكليزية، من قبيل: (face) (case) فعند القراءة المعربة تصبح كالتالي:
(فَيْسْ) (كَيْسْ). وبشكل عام فإن القافية في الشعر الإنكليزي قافية سماعية أكثر منها قافية حروف كما في الشعر العربي، وتنحصر بحور الشعر الإنكليزي بشكل عام في: العمبقي والتروكي والداكتيل والأنابستي والامفبراكي، واستطاع الأديب الكرباسي أن يرجع كل قصيدة إلى ما يقاربها من البحر في الشعر العربي، ولعلّ من مميزات هذا الديوان هو الترجمة العربية بالمعنى التي جاءت على نحو من النثر المقفى بما أعطى للقصائد رونقها، فهي ترجمة مقفاة غير موزونة لكن اشطرها تفوق الشعر الحر بكثير من حيث التشكيلة والمعنى، وقد ضمن الديوان 60 قصيدة للشعراء حسب الزمان: وليم كوك بن رتشارد تايلر (William Cooke Richard taylor) المتوفى سنة 1849م وهو أقدم الشعراء الذين نظموا في الإمام الحسين(ع) ووصل شعرهم، الإلكسندر داود بن جون رسل (Alexander David John Russel) المتوفى عام 1934م، هيربت جورج بن جوزف وليز (Herbet George Josef Wells) المتوفى سنة 1946م، الشاعرة الهندية سارجيني نايدور بنت آغرنات چاتو پاديايا (Sarojini Naidu Aghoranth Chattopadhyaya) المتوفاة سنة 1949م، إثل بنت جون پوپ (Ethel .M. John Pope) المتوفاة عام 1952م، أحمد بن علي الوقفاني المتوفى نحو 1960م، معين الدين الحيدر آبادي المتوفى عام 1969م، أمين بن حسن علي الخراساني المتوفى سنة 1967م، محمد محبوب علي المتوفى عام 1968م، علي بن مهدي المتوفى سنة 1985م،
وسلمان بن رجينالد توحيدي المتوفى عام 2001م، والأخير هو من البريطانيين الذين دخلوا الإسلام ونظموا في الإمام الحسين(ع) وأهل بيته الكرام وقد أدركه الموت بعد أن أصيب بفيروس خلال وجوده في حج بيت الله الحرام، وقد التقيت به مرات عدة في المملكة المتحدة وآخر عهدي به في مكة المكرمة في حج عام 1421ه الذي توفى فيه. ولأن الديوان في الأدب الحسيني باللغة الإنكليزية فإن المستشرق البريطاني خبير اللغات السامية واللغات القديمة البابلية والآشورية إضافة إلى اللغات الأردوية والفارسية والعربية والفرنسية واليونانية،
والذي يتكلم الأردوية بطلاقة، البروفيسور ديفيد جون ماثيو (David Matthews) المولود في لندن عام 1942م، استهواه الديوان وكتب مقدمة باللغة الإنكليزية قدّم فيها رؤيته عن حركة الإمام الحسين(ع) والنهضة الحسينية والدور الذي تضطلع به دائرة المعارف الحسينية لتوثيق هذا التراث والتحقيق فيه، معتبراً من وجهة نظر مستشرق بريطاني بحث الأدب الأردوي وقام بتدريسه في شبه القارة الهندية وفي المملكة المتحدة وتناول القضية الحسينية في تراجمه ودراساته أنه: (أصبحت مذبحة كربلاء القضية المركزية لدى المسلمين الشيعة)، ومن واقع مشاهداته في شبه القارة الهندية أثناء تدريس الأدب الأردوي: (وتجدر الإشارة أن الإختلاف المذهبي بين المسلمين من الشيعة والسنة ليس بالشيء الكبير ولا يعد واضحاً عندما يتعلق الأمر بالنهضة الحسينية، هناك مسلمون سنة يحيون العشرة الأولى من محرم الحرام بل يشاركون في الشعائر الحسينية). وأكد البروفيسور ديفيد ماثيو الذي قام بزيارة المركز الحسيني للدراسات بلندن يوم الجمعة 21/10/2011م وتحاور مع راعي الموسوعة الحسينية المحقق الدكتور محمد صادق الكرباسي، واطلع على جانب من أجزائها المطبوعة والمخطوطة، أنه:
(أعطت واقعة استشهاد الحسين وأهل بيته والمقربين من أصحابه الأفق الواسع للكتابة عن النهضة الحسينية نثرا ونظما باللغات التي يتحدث بها المسلمون العربية والفارسية والأردوية المنتشرة في خاصة في شبه القارة الهندية) ووجد البروفيسور ديفيد ماثيو الذي ألَّف سبعة عشر كتاباً معظمها في اللغة الأردوية وآدابها وله ترجمة لمرثية الشاعر الهندي مير ببر علي أنيس (1801- 1874م) الشهيرة بمرثية “معركة كربلاء” المتداولة على الألسن في الخطابات الحسينية ومنابرها باللغتين الأردوية والانكليزية، إضافة إلى تخصصه بشعر الشاعر الباكستاني محمد إقبال المتوفى عام 1938م وغيره، أنه كخبير في الأدبين الغربي والشرقي، أن:
(الشعر العربي هو الأغنى والأضخم)، وهو أمر مفروغ منه لأسبقية النظم العربي ولوقوع المأساة في وسط عربي، فضلا عن أن العربية كانت سائدةً في الأوساط الإسلامية خارج الوطن العربي، وكان معظم الشعراء غير العرب ينظمون بالعربية ولاسيما في إيران وشبه القارة الهندية، مثنيا في الوقت نفسه على الترجمة العربية للقصائد الإنكليزية الواردة في الجزء الأول من ديوان الشعر الانكليزي.
ولا يخفى أن سني شعراء هذا الديوان امتدوا من عام 1849م إلى عام 2000م، وتوزعت أصولهم القومية بين الدول التالية: المملكة المتحدة، الولايات المتحدة، إيرلندا، الهند، وإيران، من مذاهب وأديان مختلفة، يجمعهم الإنتصار لقيم الخير التي استشهد في سبيلها الإمام الحسين(ع). وكعادته بوصفه باحثا يضع الأمور في نصابها، فإن المحقق الكرباسي أنهى الديوان بخاتمة بتقديم الشكر لمن تعاون معه في إنجاز هذا الديوان وهو الأول من نوعه، وهم: الأستاذ السيد آدم خليل المرعشي، الأديب السيد حسين محسن البزاز، الشاعر الدكتور عبد العزيز مختار شّبِّين، المهندس الحاج هاشم سلطان علي الصابري، الأستاذ علي محمد التميمي، والأستاذ عمر عزيز آلاي بيك: (حيث مدّوا يد العون سواء في التنضيد او التنقيب أو الترجمة أو إعادة الصياغة أو السعي في غير ذلك بشكل أو بآخر)، وهذا الشكر هو في حقيقته رسالة يقدمها المؤلف لكل باحث أو مؤسسة علمية أو أكاديمية بأهمية التواضع للعلم.