كان والدي يحرص كثيرا على أن يدفع أجور من يعملون في بناء بيتنا الكبير، كما يحرص على إطعامهم وإكرامهم طيلة أيام عملهم، ولا يغادرون في المساء قبل أن يغسلوا ويأكلون الخبز والزيت مع الشاي..

كان يعتقد أن الجدار الذي يقوم ولا تدفع أجرة السواعد التي تعرقت لإقامته مهدد بالأسوأ، لأنه “حرام”..

تذكرت أحاديث الكبار القديمة عن “العرق الحرام” وأنا أستحضر حكاية ما يعرف ب”طريق الوحدة” والذي سمعته من بعض الأقارب..

يعرف المغاربة أن الاستعمار الفرنسي أرغم مئات الشباب على العمل بنظام السخرة، ورغما عنهم في بعض المشاريع الكبرى، بل ونعرف أيضا أن التجنيد في الجيش الفرنسي واستخدام آبائنا ككاسحات ألغام في حروب فرنسا سواء في الفيتنام أو في حرب التحرير من ألمانيا النازية لم يكن اختياريا..لكن القليل منا من يعرف أن مغرب الاستقلال أيضا استمر في تسخير الشباب وخاصة المنحدرين من البوادي والمداشر الفقيرة. ففي الوقت الذي كانت تبعث فيه الأسر المدينية أبناءها للدراسة في فرنسا للاستعداد لمسك زمام الأمور في البلاد، كان يتم جلب أبناء المغرب العميق قهرا وقسرا لإقامة البنيات التحتية ..

ومما سمعت من بعض الشيوخ، أنهم أخذوا رغما عنهم من أجل بناء “طريق الوحدة” كأطول طريق وطنية آنذاك، وكانت عملية تسخير أبناء هذه المناطق تتم تحت إشراف وبمباركة قوى سياسية طالما تغنت بالوطنية والمساواة.. طرق وسدود وقناطر وسكك بنيت بالدموع وب”عرق حرام” هكذا تم بناء مغرب الاستقلال للأسف.. ومن الحكايات التي سمعتها أن بعض الفلاحين الذين كانوا يخفون أبناءهم ولا يسلمونهم للقايد ليرحلوا للعمل في “طريق الوحدة”، بسبب مصادفة تلك الفترة مع مواسم فلاحية يحتاجون فيها لسواعد أبنائهم ، كانوا يتعرضون للتهديد بالحبس، وكانوا يعاقبون فعلا في بعض الأحيان.. مرت السنوات وعندما كنا نقرأ عن إنجازات الملك الراحل الحسن الثاني في دروس التاريخ خلال المرحلة الابتدائية، درسنا أن واحدا من إنجازاته كان بناء “طريق الوحدة”

لكن مقررات التاريخ لم تشر من قريب أو بعيد لتلك السواعد الفقيرة التي أجبرت على الحفر شهورا طويلة تحت الشمس الحارقة وبدون مقابل… كان والدي يخشى سقوط جدار إن لم يكرم من بناه ويعطيه أجرته قبل أن يجف عرقه، فيما بني وطن كامل ب”العرق الحرام” فكيف لا ينهار في يوم ما، ما لم تكف تلك الأشباح المقهورة عن البكاء وهي تستند إلى أحجاره التي أقيمت تحت سياط القايد وتهديد الشيخ..