جولة جديدة من جولات “صفين”، أطول معارك الإسلام عمرًا، حلبتها اليمن هذه
المرة، ستسفر في النهاية عن باب صغير للخروج من الكابوس المزمن الذي
يعيشه المبتلون بمحنة الميلاد في حفرة ( الوطن) (العربي)، فلا هو وطن ولا
هو عربي!
“صفين” الأولي لم تكن حاسمة، صمت غبارها لا إلي “علي” ولا إلي “معاوية”،
لكن مكيدة التحكيم أضافت إلي المتناحرين فئة رابعة، سنة وشيعة
وميكافيللين وخوارج، وانتصر الميكافيليون دائمًا، غير أن الشروخ في
الخريطة السياسية لم ينجح المسلمون أبدًا في ترميمها، وهي، كانت؛ كلما
تقدمت في العمر، تتسع بوتيرة تصاعدية!
اندلعت عقب “صفين” أسئلة، “عمار بن ياسر”، مثلاً، قُتل وهو يقاتل في صف
“علي”، وثمة حديث من أحاديث “البخاري” يقول:
(ويح “عمار”، تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الله ويدعونه إلى النار)
ولأن منطق الميكافيليين الغريب واحد؛ اعتبر الأمويون “عليَّاً” القاتل
لأنه من أخرج “عمارًا” ووضعه بين رماحهم!
هكذا، روَّج الأوغاد قبل مذبحة “رابعة” وبعدها وما زالوا، وأضافوا إلي
قاموس العربية مصطلحًا بكرًا: المخطوفين ذهنيَّاً!
ولا يحتاج عاقل إلي الاسترخاء فوق معجزة ليكتشف المجرمين، أو؛ فليسأل
الستينات وما أدراك ما الستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات
والعشرية الأولي من القرن الواحد والعشرين والآن!
وكما اضطربت الخريطة الاجتماعية بعد “رابعة”، ثمة حكاية للمفكر العراقي
“علي الوردي” تعكس العمق السحيق لهزلية الشروخ التي تركتها “صفين”
ورائها!
في أحد مقاهي لـندن سأله صديقه الأمريكي عن سبب الخلاف بين السنة والشيعة، فأجاب:
– إنه الخلاف على ولاية الحكم!
فسأله الأمريكي مندهشًا:
– ولماذا؟ ألا يجلسون على مائدة المفاوضات لحقن الدماء؟
فقال “الوردي” والشعور بالخجل ينتابه:
– إن المتخاصمين قد ماتوا قبل 1400 سنة!
وانفجر الأمريكي ضاحكًا!
لكن المسلمين أحبوا عليَّاً، أشهر من انتابه لقب الإمام، لقد اتحد الإسم
باللقب في واحدة من المرات القليلة التي تجعل الدهشة تنتابنا، يكفي فقط
أن تقول الإمام ليطفو فورًا علي سطح ذهنك اسمُ “علي”، حتي القرويين
وأصحاب الحد الأدني ينطقونه “الإمامو علي”، وأين موطن الغرابة؟، فكل ما
صدر عنه يورط الآخرين في حبه، أجل، لتطرف الخيال الشيعي في سيرته نبض،
لكن، الروايات التي من طرق متزنة تكفي لنحب عليَّاً، حتي المسيحيين
تشيعوا له، الشاعر “بولس سلامة”، قال:
جلجل الحقُّ في المسيحيِّ حتى / عُدَّ من فرط حبه علويا
فإذا لـم يكـن عليٌ نبيًا / فلقـد كـان خٌلقٌـهٌ نبويا
“جورج جورداق”، أيضًا، شاعر “هذه ليلتي”، أراق حبرًا كثيرًا في “علي”،
ونزف شعرًا مبالغًا فيه لا داعي لذكره!
من العيب أن نلوم علي أمراضنا الخاصة “عليِّاً” أو “معاوية”، وأسباب
الشقاق كان يمكن القفز فوقها لولا أن الميكافيللية وجدت في تأجيجه جرحًا
يمكن أن تعيش في دمه، ونصيب الدين في الخلاف فقيرٌ جدًا، إنها السياسة،
هل السعودية برأيك تخوض الحرب في اليمن حمية للدين؟ لا طبعًا، هي تفعل
هذا حماية للموقد العائلي لـ “آل سعود”، أو، فلماذا لا تنشط للقتال في
سوريا أو في العراق؟
بتجاوز الحديث عن جسارة السعودية والتماهي مع ضجيج القطيع أؤكد أنها لم
تقدم علي ارتكاب “عاصفة الحزم” قبل أن تستأذن العالم وقبل أن يقطع لها
العالم وعدًا بألا يتركها وحدها في حفرة تخون الفريسة متي تدخلت إيران!
لقد تواصلت الرياض مع العالم بما فيه باكستان، هذا جعلها مثارًا لسخرية
“حسن نصر الله”، أنا، أيضًا، ذعر الرياض ذكرني برجل ما زال حيًا في جيب
قديم من جيوب ذاكرتي، كان هزيلاً وكثير الشجار في الوقت نفسه، علي حدود
الأرض غالبًا كانت معاركه الصغيرة، ليملأ فراغات المسافة بين رغبته
المحمومة في الإشتباك وبين صلاحيته لخوض اشتباك بالأيدي وبالأسنان
أحيانًا، اعتاد؛ عند احتدام رغبته في شجار الحقول؛ أن يسب بأعلي صوته
ويتوعد خصمه علي طول الطريق والمنعطفات؛ وكما يحدث في القري في مثل هذه
الأحوال، كان صراخه يشدُّ الناس من البيوت يحاولون تهدئته، وكلما كثر
عددهم ازداد هياجه، وهو، عندما يقف أخيرًا أمام خصمه وجهًا لوجه يكون قد
تأكد من زوال الخطر، حوله الآن من سوف يجعل المعركة لا تترهل إلي حد
إزهاق روحه، وإن حدث اشتباكٌ حقيقي، فلا أقل من أن يجد من يحمله إلي
الوحدة الصحية لإيقاف نزيفه وترميم جراحه!
لا شك في أن للسعودية نبض في المآلات البائسة لثورة اليمن، وهي، لم
توفرفقط خروجًا آمنًا لـ “علي صالح”، بل قطعت له عهدًا بتصميم ورعاية
خارطة طريق تضع ابنه علي سدة الحكم مستقبلاً، وكانت، قبل أسابيع، تدعم
الحوثيين!
فـ “آل سعود” يدركون أن الريح التي يمكن أن تعصف أسرع بخيامهم هي
ديمقراطية تولد في اليمن، وهم، حتمًا، يحرسون الإخلاص لوصية “عبدالعزيز
آل سعود”:
“فقر اليمن في عزكم، وعز اليمن في فقركم!
حقيقة لا يفطن إليها إلا صاحب مزاج مرير، من حيث الجغرافيا، والتاريخ،
وعلماء الأنساب يعرفون جيدًا أن العرب ما لم يكونوا من جذور يمنية فهم
أقل العرب نسبًا!
لكن، هل تفقَّد التحالفُ عقله قبل خوض هذا المنحدر؟ هل وزن المجازفات
وبحث البدائل؟ هل سأل الأكمة عما يختبئ خلفها؟ أما كان التفاوض مع
الحوثيين أسلم من تحليلهم إلي عناصر مسكونة بالرغبة في الانتقام؟
ربما، كان أرجح الخليجيين عقلاً هو السلطان “قابوس”، العماني الوحيد الذي
سمع العالم اسمه، ومن سمع باسم شخصية عمانية غير “قابوس” فلا يبخل علي
الآخرين بفضحها!
ربما، من يدري؟
“قابوس” داهية، وعندما ارتبك الأفق السياسي في اليمن، لاحظ مستخدمو تويتر
ظهور عشرات الحسابات التي علي حائطها “قابوس فخر عمان”، ما أجمل المكر
والثعالب، وما أجمل “هذه ليلتي” رائعة “جرداق”، وأجمل بيتيه:
بعدَ حيــْـنٍ يُبــدّلُ الحبُ دارَا / وَالعصَافيرُ تهجرُ الأوكَـارا
وَدِيارٌ كانتْ قَـديـْـماً ديـَارا / سَترَانا كَمَا نرَاها قِفـَارا..
ألا ليتها غير ديار اليمن، وبصرف النظر عن الممرات الوعرة التي سوف سوف
تسلكها المعركة، فالأفق إيراني بكل المقاييس وأيها!