*صبحه بغوره

أطلت مبكرة من الشرفة التي كانت على شيء مريح من الاتساع ، ولكن السور أمامها كان مرتفعا لذا لم يتسن لها أن تشاهد إلا صفحة السماء والطيور المهاجرة في أسراب متوالية، السماء في هذا الوقت من العام واجمة مكفهرة ولم تعد سحبها كما عهدتها خفيفة وجميلة بيضاء ولم تعد ترى فيها أثرا للأطيار التي ألفتها تحلق في كل الأوقات ،

ظلت خلف زجاج النافذة تنظر لأعلى إلى حيث بدأت تتساقط قطرات المطر، تأملتها كيف تهطل وتتساءل، كيف حملت السحب كل هذه الكميات من المياه لتضرب الزجاج بعنف ؟ ثم أين تلك العصافير المغردة التي لم تكن تبرح شرفتها؟ كم تمنت أن ترى سريعا السماء صافية كما رأتها ذات مرة زرقاء تزورها السحب البيضاء الناصعة مرورا لطيفا، لجأت نادية إلى غرفة بنتيها قبل نهوض زوجها،

 

كانتا لازالتا نائمتين وقد علت شفاههما ابتسامة بريئة  أيقظتهما بضع لمسات حانية من أنامل والدتها وهي تهديهما القبلات الصباحية مليئة بكل الدعوات الجميلة الدافئة ، ابتسمتا للنهار الجديد ولمحيا والدتهما التي اقتربت من وجنتيهما لتقبيلها بكل ما في الكون من حنان، نهضتا تراقصان أشعة شمس الشتاء التي تسلل بعضها للغرفة من بين السحب ، كرهت نادية غربتها ، ترجع بذكرياتها إلى تلك البقعة البيضاء التي تعودت عليها مع أهلها وصديقاتها حيث ألفت أن يخفف عنها شدة قهر زوجها لها وتوحشه معها والذي لم يرحمها ولم يترك رحمة ربنا تنزل عليها بردا  وسلاما ، انه يعشق إذلالها وتعذيب بنتيها ولاء وشدى ،استفرد بها في الغربة ، تنهدت وهي تتذكر كم جميلة ساعات الفجر في بلدها ،

إنها تشعرها كل يوم وكأنها أخرجت للحياة من جديد ونشأت في أحضانها كمثل كل الأولاد والبنات ، عندما لعبت وضحكت وركضت في تلك الطرقات الضيقة التي تعرفها ، أعادت التنهيدة مرة أخرى لكن من أعماقها فخرجت أنفاسها ساخنة كسخونة العواطف عندما تتغلب على دواعي الإنصاف حتى في نفوس العقلاء ، أخطأ أهلها بتزويجها، كان كل همهم أن يوفروا لها الستر في عباءة رجل ،

 

لم يشفع لها عندهم شهادتها الجامعية التي نالتها بعد جهد وسهر ومستواها الثقافي المرموق كانت تظن أنها ستأخذ بعض من الحرية حتى تحدد اختياراتها واكتشفت أن الأمر في النهاية سيان سواء درست أو لم تدرس فالمجتمع يختصر الأمر بالنهاية في بلادها في شخص الرجل ولا وجود لحكمة المرأة ولا لرأيها حتى ولو كانت  منطقية وواقعية لأنها مرفوضة لكونها فقط امرأة ، تنتصر دائما أخطاء الرجل وما أدراك ما الرجل، قال يوما سنهاجر، لم يعترض أهلها فهو المسئول ، ولكنه متهور وقاسي القلب، لم يهمهم هذا الأمر كثيرا بل كانوا يصبرونها  فالفأس وقعت على الرأس وعيب وعار عندهم  لفظ “مطلقة ” طالبوها بالصبر كما صبرت الكثيرات مثلها، سيكبر وتكبر بناته وحتما سيتعقل، لم يمنح للانتظار مهلة و قرر السفر إلى عالم جديد مختلف تماما ،ومع الأيام صارت جزءا من الحياة اليومية لفرنسا ومن وقت لآخر وعلى هامش الذاكرة المتعبة تصحو فجأة على ضحكة تقفز منها عنوة لتدق أبواب القلب المشرعة للهواء المحمل بشيء من حنين الوطن والمفتوحة دائما لاستقبال نسماته، عاد أخر النهار من عمله ورائحة الخمر تفوح منه وبدأت الملحمة اليومية ضرب وسب وتكسير الأشياء كعادته ، قبعت محتضنة بناتها تصبر حالها بغد تجد فيه حلا لنفسها ، مضت السنين وكبرت البنات ، وبقي هو على حاله، لم تصلحه الأيام بل زاد سوءا، وذات ليلة عندما اقترب كعادته كل مساء لضربها،عاندته شدى ابنتها الكبيرة كي تحول بينه وبينها، أرادت أن تغطيها بجسدها الطري الغض لتمنع عنها اللكمات ، فيما بقت ولاء تتأمل الموقف خوفا من وراء باب غرفتها الموارب ، رأته وهو يربط قدمي أختها ويعلقها ويبرحها ضربا ويمارس عليها كل أنواع التعذيب حتى إذا ما شارفت على الموت فك قيدها خوفا من السلطات الفرنسية بعدما هدده أحد الجيران بأن يرفع شكوى ضده ، بقيت متمددة  تتألم في فراشها،

 

 

استجمعت شيئا من الشجاعة واعتدلت في جلستها وأخبرت أختها التي ظلت بجوارها وواظبت على مداواتها أنها لن تكمل حياتها في هذا البيت وستهرب، ليلتها  باتت ولاء فزعة من ما سمعت وحذرتها أن الشارع لا يرحم ، اشتكت شدى من جروحها وكسورها التي لا تسمح لها حتى بالحركة لكنها مع ذلك صممت على الذهاب إلى الكنيسة المقابلة للبيت، وترجت أختها أن لا تخبر والدها بمكانها مهما كان الأمر وحتى أمهما فلو أخبرتها سوف تضعف وتخبره المهم عندها أن تبتعد بأي طريقة عن جحيم والدها الديكتاتوري المتوحش الطبع وسيء التصرف.. وهربت شدى. عاد الأب مساءا وكعادته راح يبحث عنها محاولا إيجاد أي سبب ليواصل عقابه لها وتعذيبها، لم ينس أنها  تجرأت يوما وحاولت أن تدفع عن أمها شروره ، كسر كل ما وجده في طريقه وهو يصرخ صراخا هستيريا ونادية تبكي وتقسم إنها لا تعلم أين ذهبت ، مرت السنون وشدى تعيش في دير الراهبات وتنتقل من كنيسة إلى أخرى، طال انتظار نادية لترى ابنتها وفشلت في العثور عليها وفي غمرة انشغالها فاجأها خبر وفاة والدها وقد علمت أنهم بانتظارها قبل أن يدفن حتى تأتي وتراه ، ولما أخبرت زوجها السكير بالأمر وأنها ستأخذ  ابنتها ولاء لتحضر جنازة جدها مانع ورفض ،

 

ولاء تريد أن ترى أهلها وحتما ستعود لتكمل دراستها الجامعية وكذلك ستعود شدى إلى حضن أمها بعدما تركت البيت منذ سنين طويلة ، تحججت نادية بكل الحجج حتى يطمئن ويطلق سراحها ، ووافق على مضض ..أعدت ولاء كل أوراقها وأشياءها خفية عن والدها وما أن أقلعت الطائرة حتى تنفستا الصعداء، سافرتا معا في أول رحلة عودة إلى بلدها وعزمتا على أنه لا رجعة للجحيم بعد اليوم ، انه فصل الربيع الذي طالما انتظرته ، استقبلتهما السماء الضاحكة بدفئها ،عادت العصافير إلى تغريدها على  شرفاتها التي ألفتها ، اليوم عرفت أنه خارج أحزان سنين عمرها العالم كبير وما أوسعه، راحت ولاء ترمقها بعيونها الجوزية المتوقدة حنانا وذكاء وكبرياء وقد صدق ظنها في السعادة وراحة البال التي تنعم بها ..لانت لهما الظروف واستغلتا فرصة كل لحظة لإضفاء أجواء السعادة بحجم شوقهما لها ، لقد ودعتا ذلك الشتاء الفرنسي الشمالي القاسي الذي لا يكاد ينقطع، أخيرا خرجتا من سكونهما الحزين وانعقتتا من استكانتهما المهينة،انفرجت ابتسامة عريضة على ثغر ولاء تعلن إشراق دنيا جديدة في حياتهما ولعل أروع ما فيها أنها رأتها بعيونها وأنها تحمل أكثر مما كانت تتصور محملة بأجمل الأماني في تلك الأفاق المذهلة أن يجمع الله تعالى شملهما مع شدى، ،

 

أما هو فانتظر سنينا بعدما هجرته زوجته وابنته طويلا وعاش وحيدا إلى أن أتى اليوم وجاءها اتصال مبتسر أن تحضر إلى المطار في موعد معين ، راحت ولاء رفقة والدتها التي أصبحت مشرفة على قسم الطب الشرعي بالمستشفى العسكري ، قصدتا المطار وكم كانت المفاجأة لما رأت ابنتها شدى مسرعة نحوها، احتضنتها برفق، دام عناقهما طويلا في هدوء وصمت  كانت مواجهة حارة بالحنين المتبادل، إنها المسافة التي باعدتهن كثيرا وكانت أطول مما ينبغي، مسافة أكبر من السنين ، مسافة العمر الذي انقضى في الهم والغم ، نطقت عيون الأم هاتفة، ها أنت يا بنيتي بين أحضاني من جديد بنفس الملامح البريئة وشوقك وطيبتك ، لم ينقص منك شيئا حتى آن لنا فالتقينا، وجدت معها طفلها الصغير “يونس ” أسمته على اسم والدها الذي غادر الحياة مريضا في مصحة للمدمنين، سألتها والدتها عمن كان يعتني وعلمت أنها هي من  كانت تراقبه عن بعد وكانت تدري كل أخباره ولما علمت انه دخل المصحة فعلت كل ما بوسعها لأن يحيا بقية أيامه مرتاحا لكن عذاب الضمير وشدة الندم وقهر الحسرة عجلت بموته بائسا تعيسا ، لقد ظلت شدى الابنة بارة بوالدها رغم كل إساءاته لها، أقبل عليهم زوجها ليكسر الأجواء الثقيلة بمرحه وثرثرته وكان يتصبب عرقا ومتلهفا لرؤيتهم ، انه مدير إحدى المدارس العربية الخاصة حيث تعمل شدى ،

 

 

هو من ساعدها على استعادة ثقتها بنفسها وكان له الفضل في تقوية عزيمتها للنجاح في الحياة، هو من قبلها زوجة عن اقتناع بها، رحبت به ولاء وأمها وقد كان أنهى لتوه إجراءات إخراج التابوت من المطار،انه نعش والدها ، فسرت شدى الأمر لوالدتها أنها لم ترض إلا أن يدفن والدها بأرضه ويتوسد ترابها فهنا يلتقون جميعا ،وبقلوب رحيمة يحيون في عالم من الصفاء والمحبة .