“يَا شِيعَةَ آلِ أَبِي سُفْيَانَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ دِينٌ وكُنْتُمْ لَا تَخَافُونَ الْمَعَادَ فَكُونُوا أَحْرَاراً فِي دُنْيَاكُمْ وَارْجِعُوا إِلَى أَحْسَابِكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْرَاباً فَنَادَاهُ شِمْرٌ فَقَالَ مَا تَقُولُ يَا ابْنَ فَاطِمَةَ قَالَ أَقُولُ أَنَا الَّذِي أُقَاتِلُكُمْ وَتُقَاتِلُونِّي وَالنِّسَاءُ لَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ فَامْنَعُوا عُتُاتَكُمْ عَنِ التَّعَرُّضِ لِحَرَمِي مَا دُمْتُ حَيّا”

 

 تعتبر واقعة كربلاء الأهمّ من بين الحوادث التاريخيّة التي حصلت في القرون الأولى بعد ظهور الإسلام؛ إذ يصف علماء المسلمين أن “ما جرى في عاشوراء فريداً في تاريخ الإنسانيّة، ولم تشهد الإنسانيّة واقعة مثلها على مدى حياتها” وقالوا “لا يوم كيومك يا أبا عبد الله” و”لا يوم كيوم الحسين” للتعبير عن أهمية ما حدث في معركة كربلاء.

 هذا الوصف الاستثنائي لواقعة كربلاء لم يقتصر على المفكرين المسلمين، بل تعداهم إلى غيرهم من المفكرين والمؤرخين، فقد قال الباحث الانكليزي جون أشر ” إن مأساة الحسين بن علي تنطوي على أسمى معاني الاستشهاد في سبيل العدل الاجتماعي”. ووصف المفكر المسيحي “إنطون بارا ” معركة كربلاء بقوله إن ” واقعة كربلاء لم تكن موقعه عسكرية انتهت بانتصار وانكسار بل كانت رمزاً لموقف أسمى لا دخل له بالصراع بين القوة والضعف، بين العضلات والرماح بقدر ما كانت صراعاً بين الشك والإيمان، وبين الحق والظلم”.

 هذه الأهمية الكبرى التي حظيت بها واقعة كربلاء، والتي تتجدد في العاشر من محرم من كل سنة – رغم تعاقب الزمان عليها- تلقي على عاتقنا مسؤوليّة خاصّة في كيفيّة التعاطي مع هذه الحادثة الاستثنائيّة، إن من حيث المضمون، أو المنهج، أو التحليل والدراسة، أو الاستفادة على صعيد الدروس والعبر.. أو غيرها من الجوانب..

 وبالتالي، من الأهمية بمكان أن نعرض بعض أحداث هذه الواقعة على قواعد القانون الإسلامي والقانون الدولي الإنساني، لنرى ما هي قيمة هذه الواقعة من حيث أشخاصها ومن حيث ما يحملونه من قيم إنسانية؟ وما هي النظم والقواعد الحربية التي كان ينبغي الالتزام بها وفقا للمعايير الإسلامية، ومدى التزام طرفي الواقعة بها؟

 ثم، كيف لنا أن نحاكم تلك الحقبة الزمنية المظلمة من تاريخ الإسلام؟ وكيف نتعامل مع تلك الجرائم التي ارتكبها جيش السلطة الأموية يوم ذاك؟ وما يجب على الأمة الإسلامية أن تقوم به من أجل إظهار هذه الواقعة على المستوى الأممي، وتعريف المجتمع الدولي بها كمعركة شهدت مأساة إنسانية قل نظيرها في التاريخ ليس من حيث عدد ضحاياها، فحسب بل من حيث البعد الفكري والإنساني والعقائدي الذي كان يحمله الحسين وإتباعه؟ كيف يمكن أن نحول دون تكرار الحدث المأساوي؟ وكيف يمكننا أن نمنع من تكرار الجريمة؟

 اكتسبت واقعة كربلاء أهميتها عند المسلمين من عاملين مهمين: الأول: هو أحد طرفيها كان هو الحسين بن علي، وهو من أهل بيت النبوة وهو عدل وقرين للقرآن، التزاما بالموروث الفكري والعقائدي لدى المسلمين الذي يربط ربطا وثيقا بين القرآن الكريم وأهل بيت النبي، كونهما خليفتي الرسول (ص) طبقا لقوله (ص) ” إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله حبل ممدود ما بين السّماء والأرض، أو ما بين السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض”. والثاني: أن الطرف الأخر للواقعة كان جيش السلطة الحاكمة وأتباعها، ذلك الجيش الذي كان يحكم باسم الإسلام وبسنة الرسول “ص” إلا أنه ارتكب من الجرائم والفضائح ما لا يحصى ولا يعد قبالة عدد قليل من الرجل والنساء والأطفال جلهم كان ينتسب إلى نبي هذا الأمة!.

 إذن، تأتي أهمية معركة كربلاء من حيث أنها شهدت تباينا شاسعا بين طرفيها في مستوى التفكير ومستوى الفعل الإنساني لدى كل منهما، ومن حيث فهمهما لطبيعة كتاب الله عز وجل، مع أن من المفروض أن يكون لدى طرفي واقعة كربلاء مستوى متقارب من الفهم والسلوك الحربي كونهما ينتميان إلى الدين الإسلامي وكانا قريبين من عهد الرسالة الإسلامية، وكل منهما يدعي تمثلها!

 ابتداء، يرى فقهاء المسلمون أن الأصل في الإسلام هو السلم لا الحرب. ويؤكد الإمام السيد محمد الشيرازي ذلك بقوله: إن منطق الرسل والأنبياء، هو منطق السلم واللاعنف والاحتجاج العقلاني من أجل إنقاذ البشرية، حيث يقول الله تعالى في كتابه الكريم حول استخدام السلم واللين والابتعاد عن العنف والغلظة، واستخدام سياسية العفو، والاعتماد على منهج الشورى كأسلوب في الإقناع الحر والحوار السلمي والمشاركة في اتخاذ القرار ” فبما رحمة من ربك لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب، لانفضوا من حولك، فاعف عنهم، واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين.

 وبناء على ذلك، شرع الإسلام القوانين التي تمنع الحرب ما أمكن إلى ذلك سبيلاً، ووضع القواعد التي تحكمها وتلطِّف من آثارها إذا اضطر الجيش الإسلامي إلى خوضها دفاعاً عن المسلمين، أو رفعاً لظلم واقع على الشعوب. وألزم الجندي المسلم بواجبات وبأخلاقيات عظيمة، يجب عليه التحلي بها في سلوكياته ومعاملاته مع الآخرين من الأعداء، والمغلوبين في الحرب، والمعاهدين، أو المهادنين، وغيرهم.

 وقد أتفق المسلمون إلا ما شذ منهم أن الحسين بن علي في معركة كربلاء كان عدلا للقرآن؛ كما أخبر الرسول (ص) فإذا كان القرآن الذي نزل على نبي المسلمين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فالإمام الحسين عليه السلام قال في وصيّته لأخيه محمّد بن الحنفيّة حين أراد الخروج من المدينة إلى كربلاء “وأنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي صلى الله عليه وآله وسلم، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر”.

 وإذا كان القرآن “ميزان القسط”، فإنّ الإمام الحسين عليه السلام كان يقول: “أمرت بالقسط”. وإذا كان القرآن موعظة من الله تعالى حيث يقول: ﴿مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾، فإنّ الإمام الحسين عليه السلام يقول في عاشوراء “لا تعجلوا حتّى أعظكم بالحقّ”. وإذا كان القرآن يهدي إلى الرشد، فالإمام الحسين عليه السلام يقول: “أدعوكم إلى سبيل الرشاد”.

 واتفق المسلمون أيضا أن الحسين عليه السلام كان قد طبق أسس السلم في ميدان الحرب، فلم يكن طالبا للحرب بل كان موقفه في ساحة المعركة يدل على طلب الأمن والسلام، ولم يبادر بعمل يدفع الخصم نحو إشعال نار الحرب تطبيقا لوصية علي عليه لأحد قادته “فسر على بركة الله فإذا لقيت العدو فقف من أصحابك وسطا ولا تدنُ من القوم دنو من يريد أن ينشب الحرب ولا تباعد عنهم تباعد من يهاب البأس” ونهى أصحابه عن مقاتلة غير الخصم، ووقف في القوم خاطبا فيهم وقدم الحجج والأدلة من أجل إرجاع وإنذار الخصم وتخويفه، ونصح أهله وأصحابه إنه إذا ما بدا القتال فلابد أن يكون بدافع الإيمان ولأجل الحق..

 هذه المعايير الإنسانية التي تمتع بها الحسين وأصحابه كانت معدومة تماما عند جيش السلطة الحاكمة، ففي نهار شديد الحرارة، منع الجيش الأموي وصول الماء إلى معسكر الإمام الحسين (عليه السلام) لأكثر من يوم، للضغط على الإمام الحسين (عليه السلام) وحمله على الطاعة للحكم الأموي، حتى بات جميع من في معسكر الحسين بما فيهم الأطفال والنساء والشيوخ يعاني شدة العطش. ثم ما لبثوا أثناء المعركة وبعدها أن قدموا على ارتكاب أبشع الجرائم التي منها قتل الأطفال، وتقطيع أوصال الشهداء من أبناء وأشقاء الإمام الحسين، ولم يكتف بعد المعركة بقتل الإمام وأصحابه، بل عملوا على قطع رؤوس الشهداء والتمثيل بجسد الإمام وتقطيع أوصاله تحت حوافر، وسبي النساء والأطفال..

 مع أن الإسلام قد وضع قيودا على المقاتلين أهمها: منع قتل الأطفال والشيوخ والنساء، وأكد على عصمة دماء غير المقاتلين من العبّاد والضعفاء والأُجَراء والعمال والرسل ورعايا الأعداء، كما وضح أن سيادة الفضيلة ورعاية الكرامة الإنسانية في الحروب الإسلامية ورعاية الجرحى وحسن معاملة الأسرى وعدم التخريب وحماية المنشآت المدنية هي من القيم الإسلامية في الحروب. وأرسى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قواعد حظر التمثيل بالجثث والإجهاز على الجرحى والانتقام من الأسرى وطالبي الأمان. وهو ما تؤكده اليوم بوضوح الأحكام الدولية، عرفية أو مكتوبة، إذ تقضي بوجوب ” معاملة الضحايا بإنسانية ” أي احترام شرفهم ودمهم ومالهم.

 الحقيقة أن الأمويين لم يعاملوا ابن بنت النبيّ وآل محمد وذوي قُرباه كما ينبغي أن يُعامَل اليهود والنصارى، بل وكما تقضي أخلاق الحرب الإسلاميّة أن يُعامل المشركون، إنما عاملهم معاملة يَندى لها جبين البشرية خجلاً، ويترفع حتّى الكفار والمشركون واليهود والنصارى والأمم المتوحشة عن معاملة خصومهم بها. ومع أن المائة رجل قد قُتلوا عن بكرة أبيهم بين يدَي ابن بنت النبي ودفاعاً عنه، ولم يَبقَ من الرجال إلا ابن بنت النبيّ، وكان بإمكان جيش الحكم أن يأسره إلاّ أن ذلك الجيش لم يأسر ابنَ بنت النبيّ إنما شنّ هجوماً شاملاً على رجل، ثمّ قتله وقطع رأسه، وأوطأ الخيلَ صدرَه وبطنه وهو ميت، ثم سلبه ثيابه الملطخة بالدم!!!

 خلاصة ما تقدم أن معركة كربلاء كانت عنوانا تاريخيا فارقا بين دعاة الحق ودعاة الباطل، بين دعاة الحرية ودعاة العبودية، وبين دعاة السلم ودعاة الحرب؛ فقد قدم الإمام الحسين (ع) درسا بليغا للإنسانية والمسلمين في عدم قبوله الظلم وتقديم التضحيات الكبيرة من اجل الخلاص منه وإحقاق الحق ونشر الفضيلة والعدل بين الناس… ونظرا لذلك كان الإمام الشيرازي يرى:

1- أن الهدف من حركة الإمام الحسين (ع) كان تصحيح سلوك الناس وتقويمه، بعد أن تلون سلوك الناس وأخلاقهم في ظل النظام الأموي بطابع العنف والاستبداد والوحشية والاستهتار بما لا يتناسب مع الخلق الإسلامي والإنساني، فأعاد الإمام (ع) بنهضته الشريفة مكارم الأخلاق التي بناها جده الكريم (ص) وقدمها إلى البشرية ودعا الناس للتخلق بها في كل مراحل الحياة.

2- أن الإمام الحسين (ع) قد لخص لنا ولكل الأجيال السابقة واللاحقة فلسفة نهضته المباركة من خلال قوله الشريف: (إني لم اخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (ص) أريد أن أمر بالمعروف، وأنهي عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي) فالإمام الحسين (ع) لم يخرج طلباً للسلطة ولا حباً بمنصب دنيوي أو كرسي زائل، بل خرج طلباً لإعادة النبض الدافق إلى وريد الرسالة الإسلامية التي أنهكتها الأهواء والمطامع من الحكام الذين حاولوا جاهدين طمس معالم تلك الرسالة السماوية الخالدة من جهة وتفريغها من محتواها الروحي والفكري من جهة ثانية.

3- أن الثورة الحسينية لم تكن في يوم من الأيام إرثاً للمسلمين فحسب، وإنما الثورة الحسينية إرث للبشرية جمعاء، ولذلك إذا أرادت الإنسانية الجريحة أن تشفى من جراحها وأن تعافى من آلامها، عليها أن تعيش كربلاءها المستمدة من كربلاء الحسين.

 ويدعو الإمام الشيرازي (ره) في كتابه (رؤى عن نهضة الإمام الحسين (ع) على أن يكون المحرم منطلقاً مناسباً لإبلاغ أهداف الإمام الحسين (ع) إلى البشرية جمعاء حيث أن الإسلام دين عالمي لإنقاذ جميع الناس من الظلمات إلى النور، وليس دين المسلمين فقط.

……………………………………

** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات…