هناك فروق كبيرة جدا بين التنبّؤ الذي يرتبط بالرسالات السماويّة والظواهر الروحيّة وبين التوقّع ، فالتوقّع يقوم على معلومات سابقة وإحصاءات متعددة يجري تحليلها على أسس رياضيّة معيّنة يمكن بواسطتها إستنباط ما هو متوقّع حسب نظريّة الإحتمالات عندما ترتفع نسبة حدوث الحدث عن مقدار معلوم ويتم كل هذا بعد دراسة مسار الأحداث لفترات علميّة مدروسة وقد تحصل تلك التوقعات وقد لا تحصل بسبب ظروف تتداخل مع التحليلات وطبيعتها الإحصائيّة ، ويعرف هذا جميع من توفرت لهم خبرة في علم الإحصاء بأشكاله المتنوعة والعمليّة تشبه محاولة مدّ خط بياني وفق مساره السابق وعلى منواله ولهذا فهي عمليّة علميّة جدا وليس للتنبّؤ بالمعنى الروحي أية علاقة بالموضوع ولهذا نحتاج في مثل هذه العمليات والتوقعات إلى تاريخ تفصيلي للحوادث أو البيانات ولا يمكن إعطاء توقعات دون مراقبة ومتابعة تاريخ تفصيلي للظواهر كما أسلفنا وهنا أحب أن أذكر أنني إطلعت على ما كتبه أحد الأفاضل عن مبادئ أو شرح مبادئ الشيوعيّة أو النص الذي وضعه أنجلز وبما أن مبادئ الشيوعية ليست منتجا كما نوهنا مرارا وهي طبعا ليست ملك أحد بعينه فإن ما أظهره الفاضل كاتب المقال للأسف يجعلنا نتعرّف على أسباب إتجاه بعض السياسيين إلى تطبيق النظام الإشتراكي فيما بعد بالطريقة التي ادّت إلى إقامة نظام دكتاتوري وبناء نظام رأسماليّة الدولة حيث يتبين أن أنجلز أولى جهاز الدولة إنتباهه وإعتبر الدولة من حيث كونها سلطة تمثّل البروليتاريا بعد الثورة فإن الإجراءات التي وصفها جميعا تجعل جميع جوانب التصوّر تحوم حول سلطة الدولة وإجراءاتها وإعتبر المجتمع عندما يذكره هو الدولة ونسي أن المقصود بالإشتراكيّة هو ملكية وسائل الإنتاج وأن المطلوب أن تؤول إلى المنتجين الحقيقيين كما تنص أدبيات الماركسية ونقد رأس المال وجوهر النظام الجديد وليس إلى الدولة من حيث كونها تعبّر عن المجتمع ! إن هذا الكلام إن كان صحيحا كليّا فإنه قصور واضح في فهم معاني الإشتراكيّة وبناء النظام الإشتراكي ، إن أهم ما يتوجب على الثورة القيام به هو وضع وسائل الإنتاج بيد المنتجين الحقيقيين وليس إحلال رأسمالي بدل رأسمالي آخر حتّى ولو كانت الدولة أو سلطة الطبقة البروليتاريّة ، إن التفسير والمعاني التي كما يظهر لنا وكما يقول كاتب المقال أن أنجلز كتبها كانت بعيدة جدا عن المعاني الإشتراكيّة من حيث ملكية وسائل الإنتاج لأن أي ثورة إشتراكية لا تستهدف مقاعد السلطة الرسمية إلاّ من أجل تحويل ملكية وسائل الإنتاج إلى المنتجين الحقيقيين بناءً على تفاقم التناقض بين عناصر الإنتاج وعلاقات الإنتاج كما أسلفنا وذلك بهدف بناء علاقات إنتاج جديدة أرف في وحدتها وصراعها مع عناصر الإنتاج السابقة، ولا أدري ما علاقة إجراءات مثل فرض ضرائب على المواريث بالنظام الإشتراكي؟أو من حيث تمليك عناصر الإنتاج إلى المنتجين ؟ من هذه التصورات البعيدة نشأت أفكار فيما بعد صحّ نعتها بالشموليّة أو التوليتاريّة لأنها أفكار وضعيّة تتناول الواقع الموضوعي من خلال إخضاعه لإرادتنا وإعتباره مرتبط بوعينا وليس كما تقتضي الموضوعيّة، وكان على أنجلز أن يُحدثنا عن كيفية إنتقال وسائل الإنتاج من الرأسمالي إلى البروليتاري والبروليتاريا كطبقة وليس عن طريق إنتقالها إلى الدولة التي بشّر ماركس وأنجلز نفسه بضمورها حيث لمّا كانت الدولة عبارة عن سوط أو سلاح بيد من يُمسكها وكانت الطبقة البرجوازية تمسك بزمامها وتسخرها لمصلحتها فقد كانت البرجوازية حاضرة حضورا إقتصاديا إجتماعيا راسخا في الكيان الإجتماعي ولكن البروليتاريا فيما بعد لم يعد لها حضور إجتماعيا إقتصاديا إلاّ من خلال تنظيمات سياسية وحزبية فقط أي لم نرَ وجود هياكل إقتصاديّة بروليتارية بمعنى أننا لم نعد نرى مؤسسات إقتصاديّة تكون فيها البروليتاريا مالكة لوسائل الإنتاج والمهم تصوّر نمط الإنتاج وليس نمط التسلّط وبناء الدكتاتوريات الفرديّة فائض القيمة : بالرغم مما نرى في تفسير ومعاني فائض القيمة والإجتهادات الطويلة العريضة وما إذا كانت إستعمالية أو تبادليّة فإننا سنحاول تبسيط المفاهيم لأبعد مدى ممكن . ولنقل اننا علمنا قيمة ماتعود به سلعةٌ ما وأننا أخرجنا كلفة المواد الأولية وأخرجنا أجور العمال الذين عملوا على إنتاجها وكذلك أخرجنا أجور واندثار الآلات ووسائل الإنتاج ومختلف النفقات الرأسماليّة وغيرها فماذا يتبّقى ؟ هذا هو بالمختصر يُعبّر عن فائض قيمة تلك المنتجات وبالتالي نتساءل من هو أحق بهذا الفائض أو الربح الناتج ؟ ففي النظام الرأسمالي يكون هذا المتبقي من حصّة صاحب رأس المال ودأب المجتمع الرأسمالي على الإعتراف بهذا النوع من التقسيم وشرعيته ومن هنا جاءت تسمية النظام برمته بالنظام الرأسمالي وهناك من يرى أن هذا الفرق أو المتبقي هو من حصّة المنتجين لأن العمل وحده هو الذي أحال المواد الأولية إلى سلعة وقوة العمل هي التي من حقها أن تستولي على ذلك الفائض أو المتبقي ، وهناك آخرون يقولون بالمناصفة وآخرون يقولون نعم إن المنتجين يستحقون تلك القيمة الفائضة ولكن رأس المال يستحق بدل المجازفة وتحمّل الخسائر وأن المنتجين يجب أن يتحملوا الضرائب الحكوميّة وغيرهاوأن المنتجين لو لم يتحقق أي فائض فهل يتحمّل المنتجون الخسائر في أجورهم؟وهذا فيه كلام كثير ، ولكن الماركسيّة باعتبارها معنية بالعمال وقوة العمل وطبقة البروليتاريا فإن الشيوعيين والإشتراكيين يرون ان قوة العمل هي التي أعطت للسلعة قيمتها ولها الحق في كل تلك الأرباح أمّا رأس المال ومن زاوية كون قيمة أية سلعة إنما هي مقدار العمل المبذول في إنتاجها فكل الآخرين الذين لم يُساهوا في العملية بقوة عملهم في الإنتاج فإنه لا يحق لهم شئ ولكن يستفيد المطالع الماركسي من كثير من المصطلحات التي تتردّد في الأدبيات الماركسيّة فالمجتمع له دور أساسي ولو إستطعنا أن نتخيّل المجتمع في ظل الإشتراكية فإن مؤسسات إقتصاديّة يجب أن تنشأ على أعقاب الشركات والمؤسسات الإقتصادية التي كانت قائمة في ظل الرأسماليّة بيد أنه ليس من الصواب أن نقيم شركات ومؤسسات تابعة للدولة و أن نؤمم الشركات لتصبح مؤسسات حكومية وبالتالي نستبدل رأسماليا بآخر أعتى منه وبدلا من رب عمل أعزل( نسبيا) نأتي برب عمل مدجّج بالسلاح يستأنف إستغلال الشغيلة بل واستعبادها بشكل أبشع. إن المؤسسات الإقتصاديّة في ظل الإشتراكية يجب أن تنشأ وتُدار من قبل المنتجين أنفسهم وليس من قبل الدولة وأمّا ما يأتي عليه المنظرون الإشتراكيون من ذكر للمجتمع فلا يجب أن يؤول هذا المصطلح إلى معاني الدولة بل إن الدولة مجرد سوط أو سلاح بيد الطبقة السائدة ولا ينبغي أن تحل محل المنتج الحقيقي كما لا يجب أن يُفهم من مفردة المجتمع بأنها الدولة فالمجتمع أعم وأكبر وأشمل من الدولة وهو يضم الدولة بالإضافة إلى هيكل الإنتاج برمّته ولهذا عندما نقول أن المجتمع هو الذي سيقوم بتنظيم العلاقات الإنتاجية الجديدة لا يجب أن نوجّه أنظارنا إلى الدولة ، لماذا؟ لأننا لو نظرنا إلى المجتمع في ظل نمط الإنتاج الرأسمالي لا نجد أن الدولة هي التي تدير عجلة الإنتاج بل المؤسسات الرأسمالية مثل الشركات والمصانع والمؤسسات المختلفة لكن الدولة تعبّر عن مصالح أولئك الرأسماليين وهكذا يجب أن لا نستبدل رب العمل بالدولة بل بالعمال إن كان الفكر الإشتراكي صحيحا أمّا كيفية تنظيم العلاقات الإنتاجية بين مختلف المؤسسات والمصانع وتحديد القيم التبادليّة وكمية الإنتاج وغيرها يمكن أن تتم عبر مؤسسات مشتركة ولكنها بعيدا عن الدولة وعبر مؤسسات تشترك فيها المؤسسات الإقتصادية الإنتاجية جميعا وهكذا بالنسبة لتخطيط الإنتاج ، وبالتالي لا يجب أن نحل الدولة محل أي تعبير عن المجتمع فالمجتمع شئ أكبر من الدولة كثيرا والدولة جزء من مكونات المجتمع فقط. وفي النهاية أود أن أؤكّد أن الماركسية منهج للتفكير العلمي السليم وليست وصفة جاهزة للتطبيق في كل الأزمان والأمكنة وأن الأدبيات التي تخرج علينا بين الفينة والأخرى لتكرر قول المفكرين الأوائل مثل الفيسلوف كارل ماركس وصديقه فريدريك أنجلز لا يصح إعتبارها نصوصا مقدّسة فنحن نتعامل يوميا مع قوانين نيوتن ولكننا لا نعيد ما قال نيوتن عن الحياة أو الفن أو مختلف جوانب الحياة بل ولا حتى حلوله للمسائل الرياضية المعقّدة والتي كان كثيرا ما يلجأ في حلها إلى حلول تقريبية هامشية قد لا يتقبلها علماء اليوم أو قد لا يقتنعون بمدى تعبيرها عن الحقائق ولا نسأل ماذا قال نيوتن أو ماكسويل أو فراداي أو بويل أو آينشتاين أو برنولي عن الدين لأنها مواقف وأقوال لا يُعتد بها معرفيا ولهذا لا يصح أيضا أن نحيط هؤلاء العلماء بهالة تقرّبهم من القديسين والأنبياء بل هم علماء شانهم شأن كافة العلماء الآخرين ولا نجد في إهتماماتهم الأساس سوى محاور إهتمامهم في الإقتصاد أو الفلسفة أو المجتمع أو غيره ولكن فكرهم ومنجزاتهم لم تتناول أشياء أبعد من هذا فهي أفكار تعبّر عن المنهج العلمي في البحث ولهذا لا يصح أيضا إعتبار تصوراتهم المستقبليّة بمثابة تنبّؤات كتنبؤات الأنبياء ورسل السماء بل هي توقعات علمية دنيوية مبنية على وقائع حقيقية ومتى ما تغيّرت تلك المعطيات فإن النتائج بالتأكيد ستؤول إلى الإختلاف. إنتهى وقد نعود للموضوع مرةً أخرى على ضوء ما نطالع فيه. والسلام عليكم.