د. احمد عدنان الميالي/مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية
لانجد الان في المشهد السياسي العراقي اي مؤشرات او ملامح او بوادر ايجابية لمواجهة التحديات والازمات العاصفة في العملية السياسية ولا يمكن التعويل على امكانية استئناف عقد جلسات مجلس النواب، وكذلك عودة جلسات مجلس الوزراء للانعقاد بحضور قوي او ضعيف لإيجاد حلول مستدامة للازمات ولايمكن التماس اي ملامح لحلول واقعية وعملية للازمة الخانقة التي بدأت هذه المرة نهاياتها مفتوحة ولاتقبل الحل، بل قد تقبل التعقيد او التأجيل والترحيل بأفضل الحالات.
الافق السياسي العراقي غامض ومجهول المسارات والمالات حتى الان الازمة السياسية الحالية لايمكن تشخيص اسبابها بسهولة فقد تعددت وتنوعت عناوينها ومسمياتها وخلفياتها واسبابها، لكنها دخلت منعطفا معقدا وقابلا للتجيير والتوظيف والهروب من مواجهة المطالب العامة بعد اقتحام المتظاهرون للمنطقة الخضراء ودخولهم مبنى مجلس النواب، واعتداءهم على عدد من نواب المجلس وموظفيه، ناهيك عن تخريب بعض محتوياته، في الثلاثين من شهر نيسان الماضي.
تداعيات هذا الاقتحام كان من المفترض ان يصبح عامل ضغط قوي ومؤثر لتفعيل مسيرة الاصلاحات ويجبر الكتل السياسية على تبني المطالب والاستجابة للتحديات، لكن ماحصل هو التسبب في خلط الاوراق وبعثرتها الى ابعد الحدود، بحيث ان اعادة ترتيبها بصورة مرضية ومقبولة، يحتاج الى جهود كبيرة ووقت طويل وتنازلات عن مكاسب تعصف بالوجود السياسي لبعض الكيانات المتصدية للفعل السياسي، الامر الذي من شأنه ان يفتح الباب واسعا لكل الاحتمالات، لاسيما السلبية والخطيرة.
والذي حصل ان عملية الاقتحام، كانت السبب الذي وفر القوة الدافعة والرافعة للقوى والكيانات السياسية الى تعليق حضورها في جلسات البرلمان واجتماعات الحكومة، وهيأت ووفرت المبررات والحجج لدى تلك القوى والكيانات لتتحجج بالأمن والهيبة والقدرة السياسية الضائعة لإسناد قرارات التعليق والمقاطعة الى اشعار اخر. ومن الغريب ان نقول ان جانبا من تلك المبررات والحجج يبدو منطقيا ومعقولا، اذا نظرنا اليها بصورة مجردة عن اي احتقانات ومواقف مسبقة، وبعيدا عن اي حسابات وعقد ومصالح خاصة.
هكذا هي السياسة فن الممكن تقتضي المناورة والمراوغة والاستثمار والتلون، فبالنسبة للتحالف الكوردستاني، بعد تعرض عدد من نوابهم الى الاعتداء والتجاوز من قبل بعض المتظاهرين الداخلين للمنطقة الخضراء، رفضوا بشكل واضح وصريح عودة وزرائهم ونوابهم الى بغداد، ولم ينجح رئيس مجلس النواب سليم الجبوري خلال زيارته الاخيرة للإقليم في اقناعهم بالعدول عن موقفهم، وهم يريدون اعتذارا رسميا من التيار الصدري، باعتبار ان المتظاهرين الذين اعتدوا عليهم ينتمون الى ذلك التيار، وكذلك يريدون ضمانات امنية بعدم تكرار ما حصل، انهم ركبوا الموجه الصحيحة في الوقت المناسب.
وهذا ما هو معلن ومنطقي اصلا، لكن الجزء الاخر ان لديهم مطاليب وشروطا اصبحت علنية ايضا كانوا لايتحدثون بها الا في الكواليس وخلف الابواب الموصدة، لكن الان لم يخجلوا وتحدثوا بها علنا ومنها، قيام الحكومة الاتحادية بدفع التخصيصات المالية لقوات البيشمركة، باعتبارها تشكيلات عسكرية رسمية، اضافة الى تسديد جزء من الرواتب المتأخرة شهور عدة لموظفي الاقليم، وعدم اختيار شخصيات كوردية لتولي مناصب وزارية في اي تشكيلة حكومية جديدة دون التشاور والتنسيق المسبق مع الاقليم. بل لا دخل لبغداد بهذا الشأن فهم مصرون على بقاء وزرائهم دون تغيير باعتبارهم تكنوقراط.
ولاشك ان مثل تلك الشروط والمطاليب، تبدو وكأنها نوع من الابتزاز من جانب، ومن جانب اخر، فأنها تعكس عمق وخطورة الازمات السياسية والامنية والاقتصادية التي يواجهها الاقليم ومدى نفعيتهم اي يقر البعض على انها فذلكة سياسية مشروعة من باب تامين المكاسب السياسية لهم فهم رابح مهم من هذه الازمة.
اما التيار الصدري، الذي اعلن وزرائه في الحكومة عن استقالتهم منذ وقت مبكر، وعلق عضوية كتلة الاحرار في البرلمان فأنه ربط عودته الى المشهد السياسي بتصويت البرلمان على كابينة المستقلين التكنوقراط التي قدمها رئيس الوزراء حيدر العبادي في ظرف مغلق لهيئة رئاسة البرلمان في الحادي والثلاثين من شهر اذار الماضي، والتي تعد هذه الكابينة مطمئنة لهواجس التيار الصدري السياسية ويعتبرون ان هذه الكابينة تمثل مطاليب الجماهير الداعية للإصلاح والتغيير.
ورغم ان زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر استطاع ان يحشد ويعبأ جزءا لا يستهان به من الشارع العراقي لفرض رؤاه واطروحاته الاصلاحية، الا ان الذهاب بعيدا الى مستوى اقتحام المنطقة الخضراء والبرلمان، جعل الامور تتجه الى المزيد من التعقيد والارباك على كل الاطراف بلا استثناء ونعتقد هنا ان السيد مقتدى الصدر سيتراجع عن تصعيد مواقف التيار باتجاه عصيان مدني او اسقاط العملية السياسية الى هذا الحد وهو حد العرقلة والتلويح بالتهديد بالنزول للشارع مرة اخرى.
واظن ان التيار الصدري استنفذ ذخيرته السياسية والشعبية الى حد ما وفي المرحلة المقبلة لن يكون اللاعب الاساسي في حلحلة الازمة اذ ركبوا الموجة الصحيحة.
لكن في الوقت المناسب في مقابل ذلك فان المجلس الاعلى الاسلامي العراقي يبدو متضررا ومنزعجا جدا لانه يعتقد انه مستهدف سياسيا وسيصاب بفاقد انتخابي كبير فيما لو اطيح بوزرائه ونائب رئيس مجلس النواب بهذه الكيفية التي تجعله كيانا سياسيا واجتماعيا مجروحا، ولذلك فهو يحاول ان يروض الموجة او يذوب تداعياتها اذ اوضح زعيمه السيد عمار الحكيم قبل بضعة ايام عن رفضه للتجاوز على الشرعية الدستورية وانتهاك حرمة المؤسسة التشريعية (البرلمان)، وشدد على اهمية التفريق بين الاصلاح الحقيقي، والاصلاح الذي يريد من ورائه البعض تحقيق مكاسب سياسية خاصة.
واكد السيد عمار الحكيم ان المخرج المناسب للازمة الراهنة هو الذهاب الى تشكيل اغلبية برلمانية عابرة للمكونات، علما ان زعيم المجلس كان قد طرح تلك الفكرة في مناسبات سابقة ولاقت ترحيب فاتر من قبل اطراف سياسية اهمها كتلة دولة القانون جناح نوري المالكي الذي نادى بذلك سابقا وكانت اهم ملامح برنامجه الانتخابي للدورة الحالية ورغم عدم تطابق تصوراتهم لكن من الممكن ان تتشكل كتلة جديدة مستقبلا يترتب على عاتقها قيادة المرحلة القادمة ولو اني استبعد ذلك في الوقت الحاضر ولكن، من المؤكد ان ترجمة ما يدعو اليه المجلس الاعلى ومقاربة المالكي الذي يبدو بنظري هو الرابح والمستفيد الاكبر من هذه الازمات يتطلب تهيئة ارضيات صلبة ومناخات سياسية ملائمة، وتفاهمات وتنازلات بين المالكي والحكيم ومن ينضم اليهم لتكوين مثل هذه الاغلبية الوطنية، وهذا يحتاج الى وقت غير قليل، وحراك سياسي ضاغط باتجاهات متعددة اهمها القبول بالخسائر السياسية.
ويمكن القول ان اطروحة المجلس الاعلى قابلة ان تتحول الى خيار يتبناه ويدعوه اليه الاخرون فيما لو لم تتحقق انفراجات حقيقية وسريعة للازمة. اما ائتلاف دولة القانون خاصة جناح المالكي فقد طرح رؤية، للخروج من الازمة، تتشابه كثيرا مع رؤية المجلس الاعلى كما قلنا، الا ان المتغير المعرقل لهذه المقاربة هو رئيس الوزراء حيدر العبادي، الذي يعد من قيادات حزب الدعوة الاسلامية، ومن الوجوه البارزة في دولة القانون، يتبنى بحكم الضغوط التي يتعرض لها باعتباره رئيسا للوزراء، مواقفا وتوجهات تفتقر الى الوضوح بل مصابة بالغموض وعدم الحسم من جانب، ويحاول من خلالها ارضاء مختلف الفرقاء رغم تباين رؤاهم من جانب اخر، مما يعني ان هناك تباينا في المواقف بين اقطاب دولة القانون، ربما بعضها يرتبط بالظروف التي قطعت الطريق على المالكي للبقاء على رأس الحكومة بعد انتخابات عام 2014 ومهدت الطريق للعبادي ليحل محله.
اما تحالف القوى العراقية الذي يمثل المكون السني، فهو ايضا يعاني من مأزق كبير، تجلى واضحا في جانب كبير منه، حينما تبنى مجموعة من النواب السنة مطلب اقالة رئيس البرلمان سليم الجبوري، ليتسبب ذلك في تعميق حالة الانقسام بين اتجاهات ذلك المكون واتساع الهوه بين فريقين فيه، احدهما داعم للجبوري بقوة، والثاني رافض له بإصرار، وبين الدعم والرفض تضيع البوصلة وتفقد المكاسب وتبقى الحوارات عقيمة وغير مجدية وغير حاسمه لهذا المكون الذي اظنه المتضرر الاكبر من الازمة وماسينتج عنها رغم عدم ادراكهم لذلك، اذا هناك من يريد اتخاذ خيار المقاطعة والخروج من الحكومة، وآخر يسعى بكل ما اوتي من قوة للحصول على هذه الوزارة او تلك من خلال مساومات وصفقات هي اقرب الى منطق المقاولات منها الى السياسة، وكل هذا في ظل ارتهان الكثير من مناطق المكون السني لهيمنة تنظيم داعش، ونزوح إعداد كبيرة منها، ناهيك عن الخراب والدمار الهائل الذي لحق بالمناطق التي تم تحريرها من داعش بفعل العمليات العسكرية.
وصل الحد اخيرا لاتخاذ موقف ابتزازي معلن للمكون السني اذا طالبوا كشرط مسبق للعودة للبرلمان وتدعيم قرارات الاصلاح وخيارات العبادي المقبلة باستلامهم مبالغ لإعادة اعمار المناطق المحررة وتنفيذ اجندات الاصلاح الخاصة بهم عند تشكيل الحكومة وهو موقف تصعيدي اقتبسوه من الكورد مع ذلك وقد يمكن القول ان المكون السني لا يمتلك رؤية واضحة لحل الأزمة، بل والأكثر من ذلك، ان إرادات وأجندات ومصالح وحسابات داخلية وخارجية متناقضة تتجاذبه وتقاذفه..!
ولهذا فان جماهير وقواعد المكون السني هي الاكثر تضررا بسبب هذه للمواقف من ساسته الذين لم يقدموا شيئا يذكر لجمهورهم عدا الدمار والانحسار هذه الصورة السوداوية للمشهد السياسي العراقي، المملوءة بالكثير من التفاصيل والجزئيات المعقدة التي تزيد العملية السياسية ضبابية وتشوشا، تجعل من الصعوبة بمكان تلمس مآلات وافاق نحو الحل، فضلا عن ذلك فأنها يمكن ان تجعل الخيارات والاحتمالات السلبية تتدافع بقوة مع الخيارات والاحتمالات الايجابية، ونتائج ذلك التدافع تقرره وتحدده صوابية مواقف وتوجهات القوى السياسية، وكذلك مقدار المرونة التي تبديها والتنازلات المتبادلة فيما بينها وفق قاعدة المصالح الوطنية العامة، لا في اطار الصفقات والحسابات والحساسيات السياسية الضيقة التي تقوم على معايير الربح لي والخسارة للآخرين في المشاركة السياسية وفق الاطر الحزبية والسياسية والفئوية والجهوية المنبوذة شعبيا الان انها خيبة امل حقيقية.