* كنت أحلم بأن أكون ملكا !!!
* على كل إنسان أن يكون على قدر الألوهة في دخيلته !
أول ما خطر في بالي أن أقوله وأنا أجر خطاي المتعبة نحو ولوج عقد السبعينيات من عمري هو تساؤلي ” عما إذا كان ثمة ضرورة لوجودي رغم اجتهادي أن يكون لوجودي ضرورة “
كنت في طفولتي المبكرة أحلم بأن أكون ملكا ، ونظرا لأنني لم أكن أسمع إلا بالملك حسين ، فقد جعلته مثلي الأعلى وعقدت صداقة عظيمة معه بأفعالي الخارقة ( كأن نركب فرسين طائرتين من صنع خيالي ) وتزوجنا من أختين من فتيات بلدتنا كنت مولها بهما ، وعرض علي جلالته أن يتنازل لي عن عرش المملكة الأردنية ! غير أن شهامتي كانت تأبى ذلك . وحين وقفت أمام جلالته لأول مرة بعد بضعة أعوام لم أصدق أنني أمام الملك الذي كنت أرافقه في أحلام طفولتي التي انتهت إلى غير رجعة بعد أن أصبحت شابا يحلم أحلاما واقعية !
أجل لقد اجتهدت منذ البداية وكان علي أولا أن أواجه القدر الذي رسم لي بأن أكون راعيا وأن أتابع ثقافتي قدر الإمكان وقد انتصرت على هذا القدر ، لكني لم أفكر في أنني سأكون صحافيا وأديبا وناقدا ورساما ، كما لم أفكر على الإطلاق أنني سأكون فيلسوفا ! أول شيء تعلمته في طفولتي هو العزف على الناي ، ودون أن أفكرأيضا في أنني سأكون موسيقيا ذات يوم ، وحين وجدت نفسي ألج عالم الفلسفة بوله ، لم أفكر أيضا أنه سيكون لي فلسفتي التي قد تضيف ولو لبنة في صرح الفكر الإنساني وقد لا تضيف ! .. أجل كل الأشياء حدثت دون تخطيط ، وفي الإمكان القول أن هروبي من رعي القطيع حدث دون تخطيط أيضا !
كان علي أن أنطلق من فهم جوهر الخالق ، و نظرا لأن قراءاتي العلمية أثبتت لي أن الوجود مكون من مادة وطاقة ولا شيء غيرهما ، رحت أضع الخالق ضمنهما ، ونظرا لأن الخالق لا بد أن يعرف بنفسه ليكون شيئا فقد راح يجهد مليارات السنين إلى أن خلق الخلق الذي توجه بخلق الإنسان ككائن أرقى . لذلك قلت ” الكائنات تخلق نفسها بنفسها بفعل الطاقة الناجمة عن العناصر المادية التي توفرت لها وتفاعلها مع طاقة الخلق الكلية السارية في الكون ”
إذن الخالق خلق الخلق ليري نفسه وليعرفه الناس من خلقه . ورحت أفكر في غاية أخرى للخلق فلم أجد إلا أن الغاية من وجودنا والتي أرادها لنا الخالق (كونه موجود بطاقته في كل منا وفي كل كائن ) هي أن نكون خالقين بدورنا لنساعده في عملية الخلق ونبني الحضارة بتحقيق قيم الخير والعدل والحق والمحبة والجمال . توصلت إلى هذا من كون الخلق الذي خلقه الخالق جميلا ، وبما أن الخلق جميل فلا شك أن غاياته جمالية وإنسانية وتنشد قيم الخيروالحق والمحبة والجمال . وبناء عليه فعملية الخلق عندي تكاملية بين الخالق والمخلوق ،أي بين الطاقة والمادة . فلاطاقة دون مادة ولا مادة دون طاقة ،وبالتالي لا خلق دون خالق ولا خالق دون خلق ،وانتفاء أحد الطرفين انتفاء للآخر. وفناء الوجود (لو تم) هو فناء للخالق وبالتالي العودة إلى العدم ( أللاشيء ) وهذا أمر لم ولن يكون.
وعلى ضوء هذه القاعدة رحت أفكر في الحياة والموت وما بعد الموت ، فإذا كانت غاية الحياة في الإنسان هي العمل والإبداع لتحقيق القيم الأرقى والأجمل والأفضل ، فإن غاية الموت هي تجديد الحياة . تماما كما عرف أجدادنا الأوائل في سومر وأكاد أن موت الإله تموز لم يكن إلا لتجديد الحياة والخصب . فدون موت لن يكون هناك مكان يتسع للبشر وسينضب مخزون الأرض من عناصر الثروة المادية التي تغذي النباتات والأشجار التي تعيش الكائنات الحية بما فيها الإنسان على تناول ثمارها وأعشابها ،وهذا يعني انتهاء الحياة أيضا . إذن فالموت ضرورة لاستمرار الحياة . وما الموت إلا توقف مؤقت للطاقة الحيوية السارية في جسد الكائن
وليكن الإنسان ! والتي ستتجدد بتحلل وتفاعل جسد الإنسان مع المادة الكائنة في التربة بفعل الطاقة الكلية السارية في الكون لينتج عنها طاقة جديدة تتفاعل مع الطاقة السارية الكلية . لذلك طالبت بدفن الإنسان مباشرة في التراب ،أي دون تابوت ، للسرعة في التحلل والإنتاج ! وقد ضربت مثلا بحبة القمح التي نسحقها ( نطحنها ) ثم نحرقها بتعريضها للحرارة ، وهذا يعني أننا نميتها ، لكن وحين نأكلها مع الخبز أو غيره تمنح جسدنا بتفاعلها مع العناصرالمادية الأخرى التي نأكلها طاقة حيوية لتستمر حياتنا .. إذن فحبة القمح تحولت رغم كل ما تعرضت له من حياة جزئية محدودة إلى حياة أخرى أكبر فطاقة حيوية سارية في أجسادنا .
أما إذا لم نسحق حبة القمح ولم نأكلها بل زرعناها في تربة مناسبة لها ، فإنها تمنحنا سنبلة من قرابة ستين حبة ، بتفاعلها من العناصرالمادية التي توفرت لها والطاقة الناجمة عن هذه العناصر .
نخلص إلى نتيجة أن أجسادنا تتحول بعد الموت إلى مادة وطاقة . فإذا كانت المادة تختلط بالتربة لإخصابها، فأين يذهب فائض الطاقة الزائد عن حاجة المادة للتحول . ليس هناك إلا الطاقة الكلية السارية في الكون . أي الطاقة الخالقة . وهكذا نرى أنه إذا كان الإنسان مساهما في عملية الخلق بوجوده الحي ،فإنه مساهم في عملية الخلق ذاتها بوجوده المادي الطاقوي ،ولن أقول الميت ،لأن الحياة لا تموت والألوهة لا تموت . والمادة والطاقة لن تموتا لأنهما جوهر الألوهة . والحياة مستمرة ومتجددة . وما على على كل إنسان في الوجود إلا أن يدرك أنه يحمل ألوهة في دخيلته وفي نفسه ،وأنه ينبغي عليه أن يكون على قدر هذه الألوهة ، وأن يساهم بشكل فعال في إقامة المحبة بين البشر ،وصنع الحضارة بتحقيق قيم الخير والحق والعدل والجمال . ودون ذلك فإنه لا يستحق الحياة ومن الأفضل له أن يموت ليكون سمادا لإخصاب تربة الأرض !
آمل بعد هذا الكلام المختصر أن يكون لوجودي ضرورة ،وأنني لم أعش عبئا على المجتمع والبشرية كلها .
محمود شاهين . 25/10/ 2015 ( قبل أربعة أيام من الذكرى السبعين لمولدي 30/10/1946)