هذا السؤال ليس وليد اليوم ولكنّه سؤال قديم جديد ناتج عن حالة التخبط في السياسة والمواقف الفلسطينية لدى كافة الفصائل والتنظيمات والجماعات التي عددها يكاد يساوي (الهم في وعلى قلب الفلسطيني). وهذا التخبط والتذبذب في المواقف السياسية هو السبب الرئيسي في عدم انجاز كافة هذه التنظيمات مجتمعة أي هدف من أهداف الشعب الفلسطيني رغم مرور خمسين عاما على تأسيس أولها وهي حركة فتح. وقد بدأت حركة فتح عام 1965 ببرنامج ( التحرير من النهر إلى البحر ) أي كامل الأراضي الفلسطينية التي تمّ احتلالها عام 1948 لتقام عليها “دولة إسرائيل”. وبدأ التنازل العلني الموثق للحركة عام 1987 في دورة المجلس الوطني الفلسطيني في العاصمة الجزائرية حيث أعلن ياسر عرفات قيام الدولة الفلسطينية ضمن حدود عام 1967 أي في القطاع والضفة فقط التي لا تتجاوز مساحتهما 21 في المائة من اجمالي المساحة الفلسطينية. و وقّع ياسر عرفات نفسه اتفاقية أوسلو في سبتمبر عام 1993 مع رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك اسحق رابين، ومن المؤكد أنّ اسمها الحقيقي ليس اتفاقية بل ( إعلان مبادىء) لذلك لم تتضمن أي نص واضح عن حقوق الشعب الفلسطيني التي يوافق الاحتلال على منحها له، وهذا هو السبب في بقاء الاتفاقية مجرد ورقة شكلية لم يلتزم بها الاحتلال رغم مرور أكثر من عشرين عاما على توقيعها. واستمر التذبذب الفلسطيني من قيادي لآخر، فمنهم من تحدث عن تبادل أراض مع الاحتلال ومنهم من لا يريد التمسك بحق العودة..إلخ هذه المواقف التي تؤكد عدم وجود استراتيجية فلسطينية متفق عليها، بل استمر الاستيطان في أراضي الضفة الغربية ليبتلع نسبة ليست قليلة من مساحتها.
وكذلك تذبذب مواقف حماس السياسية
تأسست الحركة في ديسمبر عام 1987 أي بعد تأسيس حركة فتح بحوالي 22 عاما، وأيضا أعلنت في بيانها التأسيس التحرير من النهر إلى البحر وأنّ (الصراع مع الاحتلال الصهيوين هو صراع وجود وليس صراع حدود). ورغم ذلك تتذبذب مواقف حماس من قيادي إلى آخر حسب المكان والمناسبة. فمسؤولها الأول خالد مشعل صرّح أكثر من مرة للإعلام الأمريكي تحديدا موافقة الحركة على قيام دولة فلسطينية ضمن حدود عام 1967 ، بينما قيادات أخرى في داخل قطاع غزة وخارجه تكرّر من حين إلى آخر موضوع التحرير الكامل من النهر إلى البحر..فأي الموقفين للحركة يستمع ويصدّق المواطن الفلسطيني؟
واجتياح غزة الأخير مثالا!!
طوال الأسابيع الستة الأولى من الاجتياح الإسرائيلي للقطاع الذي بدأ في السابع من يوليو 2014 واستمر 51 يوما، ظلّت وسائل الإعلام الحمساوية وغالبية قياداتها تنفي أية علاقة للحركة بخطف الصبية الإسرائيليين الثلاثة وقتلهم في الثاني عشر من يونيو 2014 ، وكانت هذه العملية السبب الرئيسي للإجتياح الإسرائيلي. وفجأة قبل توقيع اتفاق التهدئة بين الفصائل الفلسطينية ودولة الاحتلال في القاهرة في السادس والعشرين من أغسطس الماضي، يعلن قيادي حماس صالح العاروري المقيم في تركيا علنا وأمام وسائل الإعلام في جلسة من جلسات الجمعية العامة لإتحاد العلماء المسلمين في مدينة استانبول التركية يوم العشرين من أغسطس ( خمسة أيام قبل توقيع اتفاق التهدئة ) بأنّ حركة حماس هي التي خطفت وقتلت الإسرائيليين الثلاثة، حيث قال حرفيا: “إن الجناح المسلح لحركة حماس “كتائب القسام” نفذت عملا بطوليا أشعل شرارة انتفاضة فلسطينية جديدة، إنها عملية نفذوها إخوانكم بكتائب القسام”. و بعد هذا الاعتراف البطولي مارس العاروري نفس التذبذب وعدم وضوح الرؤية لدرجة العبث إذ قال: “لم تكن حماس تنوي التورط في إشعال معركة كبيرة في الوقت الحالي، ولا أظن أن إسرائيل أيضا تريد الحرب، ولكن الله أراد لنا ما حدث”. من يتخيل هذا القول؟ قيادي حمساوي ينفي مسؤولية الاحتلال الإسرائيلي لاجتياح دام 51 يوما وأوقع قرابة 2400 شهيد أو قتيل لا فرق، و قرابة عشرة الاف جريح وتدمير شبه كامل للبنية التحتية للقطاع، ويضع المسؤولية في كل هذا على إرادة الله تعالى؟. وكانت اتفاقية التهدئة التي أطلق عليها(طويلة الأمد) أيضا مثالا ميدانيا لعدم وجود استراتيجية فلسطينية، فما معنى تهدئة طويلة الأمد؟ ومن سيقرّر مدتها؟ الاحتلال أم الفصائل الفلسطينية وضمن أية معطيات؟.
لذلك يسأل كثيرون: من سيعمّر القطاع مرة كل خمس سنوات؟
كافة التقديرات الفلسطينية تؤكد أن اعادة إعمار ما دمّره هذا الاجتياح يحتاج إلى ما لا يقل عن تسعة مليارات دولار، فمن سيدفع هذه المليارات على ضوء أنّ دمار اجتياح عام 2008 حقيقة لم يتم اعماره كله حتى الآن. وكثيرون على ضوء اعتراف صالح العاروري بدأوا يتساءلون: ما هي مسؤولية دول العالم عن نتائج أفعال حماس وغيرها من الفصائل الفلسطينية كونها أفعال غير مدروسة ولا محسوبة نتائجها سواء اعتبرنا النتائج نصرا أم لا؟. لأنّ الحروب عادة لا تقاس بما تمّ فيها من صمود وبطولات ولكن بنتائجها على الأرض. وإذا تمّ عقد مؤتمر للمانحين الدوليين في سبتمبر الحالي كما يشاع ، فلن تتشجع أية دولة على الدفع والتبرع بمبالغ طائلة بل مجرد مبالغ ضئيلة لن يرقى مجموعها لنسبة من المليارات التسعة المطلوبة ، وإذا توفرت هذه المليارات فالشروط التي يضعها الاحتلال تجعل كل دولار أو كيس اسمنت يمرّ من خلاله خطوة خطوة كي تتأكد كيف تمّ صرف الدولار وكيف تمّ استعمال كيس الاسمنت .
وهاهي اتفاقية التهدئة تدخل نهاية اسبوعها الثالث ولا فتح للمعابر ولا دخول للسولار والمازوت والاسمنت، ولا اطلاق سراح أسرى فلسطينيين، ولا أخبار عن مؤتمر للمانحين، بينما الاعتقالات الإسرائيلية في الضفة الغربية مستمرة..فإلى اين سيقود هذا التخبط والتذبذب الفلسطيني حيث لا استراتيجية واحدة متفق عليها، ولا تنفيذ لأية اتفاقية مصالحة ووحدة وطنية، بل بالعكس فور توقف الحرب بدأت الشتائم والاتهامات بين فتح وحماس وكل طرف يخون الآخر ويعتبره لا يمثّل الشعب الفلسطيني، والشتائم بين الطرفين في اللقاءات السرية والأحاديث العلنية لم ينل الاحتلال الإسرائيلي نسبة منها..فأية استراتيجية فلسطينية هذه؟