يشيع العدو الإسرائيلي عبر وسائل إعلامه وكتابه ورجال الإعلام والفكر فيه، ومن خلال تصريحات العديد من قياداته السياسية والعسكرية والأمنية، محاولاً طمأنة نفسه ومجتمعه القلق الخائف، وإحباط الفلسطينيين وتيئييسهم، والاستخفاف بمقاومتهم والتقليل من شأن وقيمة تضحياتهم، بأن الانتفاضة الفلسطينية التي دخلت شهرها السادس قد ضعفت، وأنها لم تعد كما كانت، وأنها أقرب إلى الانتهاء منها إلى المواصلة، ويستند العدو في آرائه واستنتاجاته على إحصائياتٍ بيانية ومعطياتٍ رقمية، منها أن متوسط عمليات المقاومة التي كان يقوم بها الشبان الفلسطينيون بلغت في الأشهر الأربعة الماضية اثنان وعشرون عملية أسبوعياً، ولكنها انخفضت بحدةٍ في الشهر الخامس إلى سبعة عملياتٍ أسبوعيةٍ فقط.

كما أن المناطق التي كانت تشهد توتراتٍ دائمة وعملياتٍ كثيرة ومتكررة، قد استقرت وأصبح الهدوء يسودها، وعادت إليها الحياة الطبيعية، ولم يعد هناك احتكاكاتٌ مستفزة بين الفلسطينيين وجنود الاحتلال وعموم المستوطنين، وانخفض عدد نقاط الاشتباك والمواجهة، وهو الأمر الذي خفف من درجة التوتر التي كانت سائدة في الأشهر الأربعة الماضية، وقلل من أعداد الشهداء الفلسطينيين، الذين يشعلون بسقوطهم أوار الانتفاضة، ويزيدون من لهيبها، ويشحذون همم الشباب للثأر والانتقام، وهذا الأمر لا يقتصر على أحياء القدس ومدن الضفة الغربية، بل إن المناطق الفلسطينية في الخط الأخضر قد شهدت هدوءاً حقيقياً، كما لم ينفذ أحدٌ منها بعد مهند ملحم أي عملياتٍ أمنيةٍ.

يعزو فريقٌ كبيرٌ من الإسرائيليين أسباب انتشار العنف وتكرار العمليات الأمنية في مختلف المناطق، إلى الأدوار التحريضية والتعبوية التي ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي، والتسهيلات التي قدمتها شركات غوغل وفيسبوك وتويتر وغيرها من شركات الانترنت العملاقة، بالإضافة إلى بعض وسائل الإعلام العربية والفلسطينية، التي مارست التحريض ودعت إلى العنف، ويرون أنها وغيرها قد لعبت دوراً رئيساً في تأجيج الانتفاضة في أشهرها الأولى، وساهمت في نقل الصورة، وتحريض الجمهور، وتقليد الشبان وغيرة المواطنين، فضلاً عن انتشار الذعر والخوف والقلق في صفوف الإسرائيليين أنفسهم.

بهذا التفسير ينفي العدو الإسرائيلي الأسباب الحقيقية للانتفاضة، ويتجنب الحديث عنها أو التأكيد عليها، أو إبرازها على أنها مسبب الانتفاضة، وباعثة الغضب والثورة، ومفجرة المقاومة ومشعلة لهيبها، ألا وهي الاحتلال وسياساته، وجرائمه واعتداءاته، وتوغلاته واعتقالاته، وعمليات القتل التي يمارسها، وسياسات الحصار والتضييق التي ينفذها، وحالة الانغلاق التام في السياسة، والركود في الاقتصاد، وانعدام فرص التسوية وعدمية المفاوضات، وغير ذلك مما يتسبب به الاحتلال الجاثم على الصدور والغاصب للأرض والحقوق.

تشير التقارير الإسرائيلية أن عدد القتلى الإسرائيليين على مدى الأشهر الخمسة الماضية تجاوز الثلاثين قتيلاً، وقد قتلوا جميعاً خلال الأشهر الأربعة الأولى من الانتفاضة، خلال عمليات الطعن والدهس والقنص، وكان من الممكن أن يكون العدد أكبر من ذلك بكثير لولا الإجراءات الأمنية التي أتبعت، والسياسة المشددة التي طبقت، والأوامر الصارمة التي تلقاها الجنود والضباط في التعامل مع المنفذين أو المشتبه فيهم، ولكن التقارير نفسها تضيف أن طابع العمليات الأخيرة دمويٌ وعنيف، وأن حالة أغلب الذين يتعرضون لها من المستوطنين والجنود حرجة، وبعضهم قد توفي متأخراً متأثراً بالجراح التي أصيب بها جراء عمليات الطعن أو الدهس.

وتشير أغلب التقارير الأمنية التي ترفعها المخابرات الإسرائيلية إلى حكومتهم، أن عدد العمليات قابل للتراجع والانخفاض أكثر، وأن الأيام القادمة ستكون أكثر هدوءاً، ويعزون ذلك إلى أكثر من سببٍ، منه الإجراءات الصارمة، والسياسات المشددة، وحالة الحيطة والحذر والترقب والاستعداد والجاهزية التامة التي يعيشها الجيش والمخابرات الإسرائيلية، التي تتبع سياساتٍ ضابطةٍ وحازمةٍ من شأنها عدم التساهل مع أي محاولة قد تخل بالأمن.

لكن المخابرات الإسرائيلية لا تغفل دور السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية المختلفة، التي لعبت أدواراً حقيقية وإيجابية في ضبط الشارع الفلسطيني، وملاحقة النشطاء والتضييق عليهم، فضلاً عن إحباط عشرات العمليات الخطرة، ولهذا فقد نصحت المخابرات الإسرائيلية حكومة كيانها بمنح الأجهزة الأمنية الفلسطينية بعض الصلاحيات في الأحياء العربية بمدينة القدس، كونها أقدر على ضبط الشارع، والسيطرة على المواطنين الفلسطينيين، والعمل الجاد بالتنسيق مع المخابرات الإسرائيلية للتقليل من العمليات الأمنية التي تشهدها مدينة القدس وأحياءها.

يحث عددٌ من الإعلاميين ورجال المخابرات الإسرائيلية حكومتهم إلى زيادة عدد التصاريح المسموحة للعمال الفلسطينيين للعمل في قطاعات البناء والزراعة والمصانع الغذائية ومعامل النسيج وغيرها، وتخفيف القيود المفروضة على المصلين في المسجد الأقصى، والسماح لأعدادٍ أخرى من قطاع غزة بالانتقال إلى القدس للمشاركة في صلاة الجمعة، كما ينصحون بتسهيل عمل المشاريع الاقتصادية والاستثمارية المختلفة داخل المناطق الفلسطينية لإشغال السكان، وخلق فرص عملٍ مناسبة لهم، وينصحون حكومتهم بالإسراع في هذه الخطوات قبل الاستحقاقات الجديدة التي قد يفرضها الغياب المفاجئ لرئيس السلطة الفلسطينية، حيث من المتوقع في حال عدم تسوية الأوضاع مبكراً، أن تسود المناطق الفلسطينية حالة فوضى واضطراب كبيرة، التي من شأنها أن تمتد وتتسع وتترجم إلى عملياتٍ أمنيةٍ واسعةٍ وكبيرة ضد أهدافٍ إسرائيلية.

يحلم العدو الإسرائيلي ويتمنى أن يصحو يوماً فيجد أن الانتفاضة قد انتهت، ونارها قد خبت، وجمرها قد خمد، وفعالياتها قد توقفت، ولم يعد ما يهدد أمنهم، ويذهب النوم من عيونهم، ويبعث الرعب في قلوبهم، إنها كأمانيهم القديمة وخيالاتهم الدائمة، ولكنه نسي أن الانتفاضة ما هي إلا أحد أشكال المقاومة، وهي وإن انتهت –وقد تنتهي- فإنها ستسلم الراية لشكلٍ آخر من المقاومة، وأسلوبٍ جديدٍ في النضال.

لن يجمد الشعب الفلسطيني على حال، ولن يعدم وسيلة، ولن يقف مكتوف الأيدي تجاه الظلم والبغي والعدوان، وهو شعبٌ لا يعترف بالعجز، ولا يؤمن بالضعف، ولا يستسلم لليأس، ولا يقبل بواقعٍ تصنعه القوة الظالمة، بل تقوده عقيدته، ويحركه إيمانه، ويدفعه يقينه بأن الغد له وأن النصر حليفه، وأن أرضه ستعود إليه حرة، وأن الوطن سيغدو يوماً فلسطينياً أبداً، لسانه عربي، ومقدساته إسلامية ومسيحية، مطهرة من أي رجس، ومحررة من أي قيد، إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً، ويومئذٍ يفرح الفلسطينيون والعرب والمسلمون.