منذ أن إقتحم المتظاهرون مجلس نواب ” الشعب” ولليوم خرجت علينا الأحزاب المتحاصصة على مختلف إنتماءاتها الطائفية والقومية ومعها ما يسمّى بالرئاسات الثلاث ببيانات شديدة اللهجة تندد فيها بـ ” همجية ” المتظاهرين هذه التي ضيّعت هيبة الدولة حسب زعمها، فهل العراق دولة في عهد المحاصصة الطائفية القومية؟ وما هي سمات الدولة ووظائفها بنظرهم؟
كي لا نطيل في مفهوم الدولة وتعريفاتها القانونية تبعا لمدارس فقهية قانونية وأجتماعية وسياسية وإقتصادية مختلفة وكي نكون أمناء مع تاريخ بلدنا الذي يسير الى نهاية تراجيدية لا نتمنى أن يصل إليها، علينا الإعتراف من أنّ العراق كدولة وفق حدوده المعروفة اليوم “حدود سايكس بيكو” كان ولساعة إحتلاله في التاسع من نيسان 2003 دولة حسب الفقه الدستوري المعاصر الذي يعرّف الدولة بـ (مجموعة أفراد “شعب أو شعوب” يقيمون إقامة دائمة على إقليم محدد ويخضعون لسلطة سياسية). فهل أبقى الذين ورثوا هذه الدولة بعد الإحتلال شيئا منها، و هل حاولوا بعد أن دمّر المحتل الأمريكي مؤسساتها العسكرية والأمنية المهمة أن يعيدوا بنائها من جديد بعيدا عمّا كانت عليه عهد البعث، ووفق مهنية كانت مطلبا لحكّام اليوم أثناء مقارعتهم لذلك النظام الدموي؟ وهل يخضع العراق اليوم في عهده الطائفي القومي لسلطة سياسية بمعناها المتعارف عليه، أي هل تمتد سلطة “الدولة” السياسية على كامل تراب العراق الجغرافي والتي بدونها لا يبقى للدولة مفهوما أو معنى؟
لا يعتبر العراق اليوم دولة بالشكل المتعارف عليه مطلقا كونه فاقد لأهم خصائص الدولة التي بدونها نعيش كما اليوم حالة اللادولة، فعلم الإجتماع السياسي يقول حول الدولة وتأسيسها من أنها تأتي “بموجب عقد بين الأفراد تخلوا بموجبه عن بعض حقوقهم مقابل تحقيق الأمن والإستقرار وضمان حريتهم المنسجمة مع قوانين الدولة ودستورها”. فهل حققت “الدولة ” العراقية القائمة اليوم الأمن والإستقرار للمواطنين العراقيين على كامل ترابها الوطني ؟
قبل الخوض بواجبات الدولة ومعرفة إن كانت “الدولة” التي يراد لها أن تكون “مهيوبة” علينا التأكيد على ضياع هيبة الدولة حالما تخلّت عن عنفها المشروع “الجيش والأجهزة الأمنية” مقابل العنف المنفلت وغير المشروع “الميليشيات بمختلف تسمياتها”، كون العنف المشروع هو الركن الأساس في إستتباب الأمن والذي بدونه يبقى الحديث عن التنمية بمختلف حقولها مجرد كلام ليس الا.
لان الدولة العراقية تكونت أساسا من أحزاب ذات أذرع عسكرية لازالت عاملة وتعمل بموازاة “جيشها النظامي” وتتفوق عليه في العدّة والعديد، فأن العنف غير المشروع نراه اليوم هو الذي يتحكم بقرارات الدولة أو بقرارات الاحزاب التي تشكل هذه الدولة بلغة أخرى. وبهذا سيبقى العنف غير المشروع وهذا يشكل تهديدا مستمرا للسلم المجتمعي ممّا يهدد وحدة الدولة الجغرافية، خصوصا وإنّ هذا العنف غير المشروع يقاد من خلف الحدود.
من أهم واجبات الدولة ، إرساء الأستقرار السياسي ومحاربة الفساد في ظل دولة قانون، فهذه الأركان الثلاثة مع إستتباب الأمن “العنف المشروع” تشكل القاعدة العريضة والمتينة لهيبة أية دولة. ولمّا كان الوضع السياسي بالبلد غير مستقر منذ بدء دولة المحاصصة لليوم، والفساد مستشر بشكل يفوق فساد أية دولة بالعالم اليوم إن لم يكن على مرّ التاريخ، وبغياب واضح لدولة القانون والذي تستغله ميليشيات وقحة تحتل شوارع المدن متى ما تريد لإجهاض أي تحرك جماهيري، ناهيك عن غياب شبه تام للخدمات وأستشراء البطالة وإتسّاع رقعة الفقر، فإن الحديث عن هيبة الدولة العراقية يعتبر نكتة ثقيلة.
لا هيبة لدولة نهب ساستها مئات مليارات الدولارات من خزائنها، ولا هيبة لدولة شعبها لا يعيش حياة آدمية، ولا هيبة لدولة تخاف جماهيرها فتكيل لهم التهم المختلفة كلما تظاهروا من اجل أصلاح ما يسمى بالعملية السياسية التي هي في موت سريري منذ أن قامت لليوم، ولا هيبة لدولة يهرب ممثلي “الشعب” فيها بمعية حقائبهم المملوءة بمال الناس الى دولهم الأصلية كون العراق ليس ببلدهم مطلقا، والّا لما ناصبوه العداء وحقدوا عليه بهذا الشكل البشع.
الجماهير وحدها بإمكانها إعادة الهيبة لبلدها عن طريق تواجدها المستمر وبشكل سلمي في الساحات والشوارع للضغط على قوى المحاصصة وتفتيتها عن طريق قيادات ميدانية واعية للظرف السياسي المعقد والخطير الذي نمر به، على الجماهير أن لا تكلّ مطلقا من التظاهر والإعتصام بل عليها تطويره بإستمرار لزيادة سعة المشاركة فيه، هيبة العراق في شعبه وليس في هيبة لصوصه. ولا هيبة للعراق الّا بقبر المحاصصة مرّة واحدة والى الأبد.