بعيداعن الخوض- خلال هذه التأرخة العاجلة- في عوالم النجف الروحية، والاجواء الدينية والادبية للاسرة الجواهرية، وتاريخها واثارها العلمية، دعونا نغور لماماً في دوافع، ورؤى قصيدتي “عاشوراء” و” آمنت بالحسين” للجواهري الخالد، وما تشيان، بل وتلهبان به، حول مأثرة “الطف” واحداثها الاليمة، والعبر المستوحاة من الثورة الحسينية، ومنابعها وجذورها ومبادئها وافاقها..

 

* والقصيدة الاولى: “عاشوراء” منظومة ومنشورة عام 1935 وكانت بثمانية وستين بيتاً، استعرض فيها الجواهري، ووثق خلالها العديد من الاحداث التاريخية، الثورية والمأساوية في ان واحد، وبالاسماء المقرونة بالاوصاف التي تليق – بحسب متبنياته– بالمضحين من اجل المبادئ، من جهة، وبمعارضيهم، بل ومحاربيهم وقتلتهم، من جهة ثانية…

هيَ النفسُ تأبى أن تُذَلّ وتُقهَرا … ترَى الموتَ من صبرٍ على الضيم أيسَرا

وتخـتارُ محموداً من الذِكرِ خالداً…على العيش مذمومَ المَغَـبّـة مُنكَرا…

* وكما هو ديدنه الثابت، شبك الجواهري العام بالخاص، وبحورات مع الذات اساساً، ليستخلص وفي ابيات محدودات، ولربما في بيت واحد متفرد، عبرة العبقري الخابر للحياة:

ونُكّسَ يـومَ الطـفّ تـاريخُ أمـة… مشى قبلَها ذا صـولـةٍ متبختِرا

فما كان سهلاً قبلَها أخذُ مـوثـق على عَرَبيّ أن يـقولَ فيغـدِرا…

 

* وسيرا على عادته، ايضا، يوجز الشاعر المنوّرعظات واقعة الطف، وما سبقها وتلاها من بطولات وامجاد خالدة، ثم يروح موجهاً، دون وجل او تردد:

أقـول لأقوامٍ مَضَـوا في مُصابه … يسـومونه التحريـفَ حتى تغيّرا..

دعُوا رَوعةَ التاريخ تأخـذْ مَحَلّـها … ولا تُـجهِدوا آياتِه أن تُـحوّرا

وخلّوا لسانَ الدهر يَنطقْ فإنّه … بليـغٌ إذا ما حـاولَ النطـقَ عَـبّـرا

 

 * واذ جاءت “عاشوراء” في زمانها، والجواهري آنذاك في عقده الثالث وحسب، مباشِرة في المعاني والتصريح، واقرب للتوثيق التاريخي، هدر الشاعر الخالد بعد مرور اثني عشر عاماً، بعصماء “آمنت بالحسين” التي فاضت بالتعبير عن المواقف والمفاهيم الطافحة بالإباء والشموخ، والممجدة للفداء والتضحيات، كما هي الحال في الفرائد الجواهرية العديدة، وان اختلفت في الصور والاستعارة:

فـداء لمثـواك من مضـجـعِ … تـنـوّر بـالابلــج الأروعِ

ورعياً ليومـك يوم “الطفـوف” … وسـقياً لأرضك من مصرع

تعـاليت من مُفـزع للحتـوف … وبـورك قبـرك مـن مَفزع

 

* وفي مقابل ذلك تماماً، لم يجامل الشاعر الكبير أو يتهاون في هجو الخنوع والانحناء، وأولئك المقيمين على الذل، بل وحتى من يتوسط “كاللبن الخاثر” وغيرهم من اللاجئين “لأدبار الحلول فسميت وسطاً، وسميّ أهلها، وسطاءَ”..

ولربما نجتهد، ونصيب، فنرى في “آمنت بالحسين” مجمعاً للشواهد والأدلة الأبرز على الرؤى الجواهرية المتميزة، وبمقاييس بالغة الرفعة في تبجيل “الواهبين النفس” فداءً للمبادئ التي يؤمنون بها، وتلكم بلا شك هي التضحية الأضخم للدفاع عن القيم والذود عنها، كما يرى صاحب “آمنت بالحسين…

 

* وفي مقاطع تالية من العصماء ذاتها يستمر الجواهري في الاتجاه الذي يريد اعلانه عن تضحيات الحسين الثائر و”نهجه النير” الذي بات “عظة الطامحين العظام” لاولئك “اللاهين عن غدهم” والقنوعين دون احتجاج وتمرد أو ثورة.. كما يفيض عديد آخر من أبيات القصيدة بعواطف ومشاعر انسانية فائقة التعبير في تقديس الثبات والصمود لرجل يوم “الطفوف” و”الملهم المبدع” الثابت أمام “سنابك خيل الطغاة” دون خوف أو رهبة … وبهدف أن يُطمر “جديب الضمير بآخر معشوشب ممرع…

شممتُ ثـراك فهب النسيم … نسيم الكرامـة من بَلقـعٍ

وطفت بقبرك طوفَ الخيال … بصومعـة المُلهـم المبدع

تعـاليت من صاعق يلتظي … فـان تـدجُ داجية يلمـع

 

* ثم يروح الجواهري ليتمثل مأثرة الحسين التاريخية، و”يمحص” الأمر دون أن يرتهب من “الرواة” أو يخدع بما ينقلون، ويمضي هادفاً للحقيقة لا غيرها، وبدون “تزويق” أو مبالغات… وبعد ذلك فقط، يجد الشاعر أن في فداء الحسين دفاعاً عن مبادئه، وقائع لا أعظم منها، وهو “أن يطعم الموت خير البنين، من الاكهلين الى الرضع “… ثم يحل مسك الختام، فتجدد القصيدة تقديس ذلك الصمود والعطاء الذي “نوّر” من ايمان الجواهري، وفلسفته في الإباء والفداء، والتي تجسدت، كما سبق القول، في الكثير من قصائده ومن بينها: “سلام على مثقل بالحديد – 1951 ” و”بور سعيد – 1956″ و”كردستان – موطن الأبطال- 1962″ والى “اطياف الشهداء الخالدين- 1963″ و”فلسطين الفداء والدم – 1970” فضلاً عن قصــائد الوثبـة، الشـهيـرة، عــام 1948… وها هو الجواهري يناجي الحسين:

تمثلـتُ يومـك في خاطـري … ورددت “صـوتك” في مسـمعي

ومحصـت أمـرك لم “ارتهب” … بنقـل “الرواة” ولـم أخــدع

ولما ازحـت طـلاء “القرون” … وسـتر الخـداع عن المخـدع

وجدتـك في صـورة لـم أُرعْ … بـأعـظــمَ منهـا ولا أروعِ

 

* وللاستزادة، نقول أن قصيدة “امنت بالحسين” المتفردة في المبنى والمعنى، والرؤى، نشرت في جميع طبعات ديوان الجواهري، ومنذ العام 1951 وقد خُط خمسة عشر بيتاً منها بالذهب على الباب الرئيس للرواق الحسيني في كربلاء، كما أُنشدت، وتُنشد، في مختلف المجالس والمناسبات الاحيائية لواقعة “الطف” التي تصادف كما هو معروف في الأيام العشرة الأولى من شهر محرم، كل عام….

————————————

… الصورة المصاحبة للموضوع:

من ارشيف السيد سلمان هادي آل طعمة، ألتقطت في الصحن الحسيني بكربلاء، بتاريخ 1947.11.26 قبيل القاء الجواهري الخالد(الثاني من اليسار) لعصمائه “آمنت بالحسين”… ويظهر من اليمين: الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، السيد عبد المهدي المنتفجي، السيد صدر الدين شرف الدين…

مــع تحيات مركز”الجواهــري” للثقافة والتوثيق

www.jawahiri.com