الشاعركثير عزّة كان قبيح المنظر ، قصير القامة ، رث الثياب، من شعراء العلويين ، ملأ الدنيا ، وشغل الناس، فلما رأه الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ، إزدراه ،وقال له تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ، فأجابه كثير : يا أمير المؤمنين ، كل عند محله رحب الفناء، شامخ البناء، عالى السناء؛ ثم أنشأ يقول:
وجـرّبت الأمور وجرّبتني ** فـقد أبدتْ عريكتيَ الأمورُ
وما تخفى الرجال عليّ إنّي ** بـهم لأخـو مـثابته خبيرُ
ترى الرجل النحيف فتزدريه ** وفـي أثـوابه أسدٌ هصورُ
ويـعجبك الـطرير إذا تراه ** فيخلف ظنك الرجل الطريرُ
بـغاث الطير أطولها رقاباً ** ولم تطل البزاة ولا الصقورُ
خشاش الطير أكثرها فراخاً ** وأم الـصقر مـقلات نزورُ
ضعاف الأسد أكثرها زئيراً ** وأصـرمها اللواتي لا تزيرُ
وقـد عظم البعير بغير لبٍّ ** فـلم يـستغن بالعظم البعيرُ
يـقوّده الـصبي بكلِّ أرضٍ ** وينحرهُ على الترب الصغيرُ
فـما عظم الرجال لهم بزينٍ ** ولـكن زيـنهم كـرمٌ وخيرُ
فقال عبد الملك : لله دره ، ما أفصح لسانه، وأضبط جنانه ، وأطول عنانه ! والله إنى لأظنه كما وصف، فاستشعرالحرج و تسرعه فيما قال ، فاعتذر من كُثــير عزة و قربه إليه و رفع مجلسه.
كثير عزّة :
في (البداية والنهاية) /الجزء التاسع/ لابن كثير سنة ثمان ومائة ، وفيها توفي كثير عزة الشاعر المشهور:
وهو كثير بن عبد الرحمن بن الأسود بن عامر، أبو صخر الخزاعي الحجازي، المعروف بابن أبي جمعة، وعزة هذه المشهور بها المنسوب إليها، لتغزله فيها، هي أم عمرو عزة بالعين المهملة، بنت جميل بن حفص، من بني حاجب بن غفار، وإنما صغر اسمه فقيل كثيّر، لأنه كان دميم الخلق قصيرا، طوله ثلاثة أشبار.
قال عنه المرزباني: (كان شاعر أهل الحجاز في الإسلام لا يقدمون عليه أحد، أخباره مع عـزَّة بنت جميل الضمرية كثيرة، كان عفيفاً في حبه، قيل له: هل نلت من عزة شيئاً طول مدتك ؟ فقال: لا والله، إنما كنت إذا اشتد بي الأمر أخذت راحتها فإذا وضعتها على جبيني وجدت لذلك راحة.
وقيل لكثير: يا أبا صخر، كيف تصنع إذا عسر عليك الشعر ؟ قال: أطوف في الرباع المحيلة والرياض المعشبة، فإن نفرت عنك القوافي وأعيت عليك المعاني فروَح قلبك، وأجمَ ذهنك، وارتصد لقولك فراغ بالك وسعة ذهنك، فإنك تجد في تلك الساعة ما يمتنع عليك يومك الأطول وليلك الأجمع.
قال ابن خلكان: كان يقال له رب الدبان، وكان إذا مشى يظن أنه صغير من قصره، وكان إذا دخل على عبد الملك بن مروان يقول له: طأطأ رأسك لا يؤذيك السقف، وكان يضحك إليه، وكان يفد على عبد الملك، ووفد على عبد الملك بن مروان مرات، ووفد على عمر بن عبد العزيز.
قالوا: ودخل كثير عزة يوما على عبد الملك بن مروان فامتدحه بقصيدته التي يقول فيها:
على ابن أبي العاصي دروعٌ حصينةٌ ** أجاد المسدى سردها وأدالها
قال له عبد الملك: أفلا قلت كما قال الأعشى لقيس بن معد يكرب :
وإذا تجيء كتيبة ملمومة *** شهباء يخشى الذائدون صيالها
كنت المقدم غير لابس جبةً *** بالسيف يضرب معلما أبطالها
فقال: يا أمير المؤمنين وصفه بالخرق و وصفتك بالحزم.
ودخل كثير عزة على عبد الملك فأنشده وعنده رجل لا يعرفه، فقال الرجل لعبد الملك هذا شعر حجازي دعني أضغمه لك ضغمة (الضغم : العض) . قال كثير: من هذا يا أمير المؤمنين ؟ قال: هذا الأخطل، فالتفت إليه فقال له: هل ضغمت الذي يقول :
والتغلبي إذا تنحنح للقـرى ****حك آسته وتمثل الأمثالا
تلقاهم حلماء عن أعدائهم** وعلى الصديق تراهم جهالا
والأخطل ( 19 هـ – 92 هـ / 640 – 710 م ) ، هو غياث بن غوث بن الصلت بن طارقة التغلبي من أهل الحيرة ، كان مسيحياً
ودخل كثير يوما على عبد الملك وهو يتجهز للخروج إلى مصعب بن الزبير فقال: ويحك يا كثير، ذكرتك الآن بشعرك فإن أصبته أعطيتك حكمك، فقال: يا أمير المؤمنين كأنك لما ودعت عاتكة بنت يزيد بكت لفراقك فبكى لبكائها حشمها، فذكرت قولي:
إذا ما أراد الغزو لم تثن عزمه * حصان عليها نظم درٍّ يزينها
نهته فلما لم تر النهي عافــه ** بكت فبكى مما عراها قطينها
قال: أصبت فاحتكم.
قال: مائة ناقة من نوقك المختارة.
قال: هي لك، فلما سار عبد الملك إلى العراق نظر يوما إلى كثير عزة وهو مفكر في أمره، فقال: عليَّ به، فلما جيء به قال له: أرأيت إن أخبرتك بما كنت تفكر به تعطيني حكمي؟
قال: نعم!
قال: والله؟
قال: والله، قال له عبد الملك: إنك تقول في نفسك: هذا رجل ليس هو على مذهبي، وهو ذاهب إلى قتال رجل ليس هو على مذهبي، فإن أصابني سهم غرب من بينهما خسرت الدنيا والآخرة.
فقال: أي والله يا أمير المؤمنين فاحتكم.
قال: أحتكم حكمي أن أدرك إلى أهلك وأحسن جائزتك، فأعطاه مالا وأذن له بالانصراف.
وقال حماد الراوية، عن كثير عزة: وفدت أنا والأحوص، ونصيب إلى عمر بن عبد العزيز حين ولي الخلافة، ونحن نمت بصحبتنا إياه ومعاشرتنا له، لما كان بالمدينة، وكل منا يظن أنه سيشركه في الخلافة، فنحن نسير ونختال في رحالنا.
وفدت عزّة الضمرية على عبد الملك بن مروان تشكو إليه ظلامة فقال لا أقضيها لك حتى تنشديني شيئاً من شعر كثيّر، فقالت: لا أحفظ لكثيّر شعراً ولكني سمعتهم يحكون عنه أنه قال فيَّ هذه الأبيات :
قضى كل ذي دين فوفى غريمه وعزّة ممطول معنَى غريمها
وقد سألت أم البنين عزّة عن ذلك الدين، قالت: وعدته قبلة فتحرجت منها، فقالت أم البنين أنجزيها وعليَ إثمها.
فقال عبد الملك: ليس عن هذا أسألك ولكن أنشديني قوله :
وقد زعمتْ أني تغيرت بعدها*** ومن ذا الذي يا عزّ لا يتغيرُ
تغيّر جسمي والمحبة كالذي**** عهدت ولم يخبر بذاك مخبرُ
قال فاستحيت وقالت: أما هذا فلا أحفظه ولكن سمعتهم يحكون عنه، ولكن أحفظ قوله :
كأنّي أنادي صخرةً حين أعرضتْ*** من الظلم لو تمشي بها العصم زلّتِ
صفوحٌ فما تلقاك إلا بخيلــــــــــة ****ومـــن ملَ منها ذلك الوصل ملّتِ
فقضى لها حاجتها ورد عليها ظلامتها وقال: أدخلوها على الحريم ليتعلموا من أدبها.
وروي أن عبد الملك بن مروان أراد أن يزوج كثيرا من عزة فأبت عليه وقالت: يا أمير المؤمنين أبعد ما فضحني بين الناس وشهرني في العرب ! وامتنعت من ذلك كل الامتناع، ذكره ابن عساكر.
وروي إنها اجتازت مرة بكثير وهو لا يعرفها فتنكرت عليه وأرادت أن تختبر ما عنده، فتعرض لها فقالت: فأين حبك عزة؟ فقال: أنا لك الفداء لو أن عزة أمة لي لوهبتها لك، فقالت: ويحك لا تفعل ألست القائل:
إذا وصلتنا خلّة كي تزيلنــــا *** أبينا وقلنـــا : الحاجبيــة أولُ
فقال: بأبي أنت وأمي، أقصري عن ذكرها وأسمعي ما أتقول:
هل وصل عزّة إلا وصل غانيةٍ * في وصل غانيةٍ من وصلها بدلُ
قالت: فهل لك في المجالسة؟ قال: ومن لي بذلك؟ قالت: فكيف بما قلت في عزة؟ قال: أقلبه فيتحول لك، قال: فسفرت عن وجهها وقالت:
أغدرا وتناكثا يا فاسق، وإنك لها هنا يا عدو الله، فبهت وأبلس ولم ينطق وتحير وخجل، ثم قالت: قاتل الله جميلا حيث يقول:
محا الله من لا ينفع الود عنده * ومن حبله إن صد غير متينِ
ومن هو ذو وجهين ليس بدائم * على العهد حلافا بكلّ يميــنِ
ثم شرع كثير يعتذر ويتنصل مما وقع منه ويقول في ذلك الأشعار ذاكرا وآثرا
وقد ماتت عزة بمصر في أيام عبد العزيز بن مروان، وزار كثير قبرها ورثاها وتغير شعره بعدها، فقال له قائل: ما بال شعرك تغير وقد قصرت فيه؟ فقال: ماتت عزة ولا أطرب، وذهب الشباب فلا أعجب، ومات عبد العزيز بن مروان فلا أرغب، وإنما ينشأ الشعر عن هذه الخلال.
وكانت وفاته ووفاة عكرمة في يوم واحد، ولكن في سنة خمس ومائة على المشهور. وإنما ذكره شيخنا الذهبي في هذه السنة – أعني سنة سبع ومائة – والله سبحانه أعلم.