سرحتْ بخيالي للبعيد البعيد وقلت بيني وبين نفسي، كيف هو الاحتمال والتحمل وقبول الواقع باختلافهِ والمتوقع المجهول؟! فلم أجدَّ أية إجابة في زحام الأماني تُرضي هذا السؤال الحامل لبضع كلمات تقفز في المُخيلة! أعلم أن الأحلام غابتْ وضاعتْ، والأماني أصبحت مُستحيلة وصعبة المُنال، والواقع أصبح مريرًا ومشوهًا والإنسان بات تائهًا يلعب ويُلاعب في ذات الوقت، وأعلم أن بعض الكائنات تغير من جلدها حسب تقلبات الفصول! ولكن مع ذلك لا زال هنالك حالمون يحلمون بفردوس الأرض المسلوبة والمغلوب على أمرها.
هؤلاء يحلمون بالبناء الشاهق والراسخ وآخرين يُضيعون ويهدمون معنى كل شيءٍ بتوافه الأشياء والتمركز في النقطة ذاتها! أنها دوامة يدور في رحاها الضياع ليأخذ من هذا وذاك لتعيش التفرقة ويحيا التمزق! لكن إذا بقينا نحلم أعلم أن لا فائدة لهّا إذا بقيت مُجردّ حلم يتمنىّ أن يتحقق فقط في أراضي جرداء لا تملك زارعين حقيقيون يتحملون تعب مسّك الفأس طوال النهار وهم يحرثون من أجلها ويلقون فيها بذرة المستقبل. والسنين هي في مضيٌّ تعقبها أخريات قادمات مجهولات، وسمفونيات الحزن ما زالت تُعزف لتتراقص عليها القلوب الباكية والشاكية من ألم وحسرة وفراق ما زال يفتك بالأعماق من أوضاع تكاد تشبه الجحيم بالرغم من عدم  رؤيتهِ!
سؤال أخر بادرَّ مُخيلتي وأنا أفكر بكل هذه الزوابع التي لا نهاية لها كما يبدو أو حلول على الأقل … وهو: أرض أرهقها زحام الغيوم السوداء في سمائها وضاقوا ساكنيها ذرعًا من كل ما يتجرعونهُ، هل لها أن تُقلد الحياة وتعيش الدفء في زواياها، أم أنهُ الوهم الهارب إليهِ هو من يطلب هذا؟!
أقول: التقليد لن يُجديّ لها بشيءٍ كونها باتتْ شبه عمياء وخرساء من كل ما يمرُّ عليها، والأحلام لا تنفعها في ظل ضباب مُعتم ولكن تُريحها ويُعطيها القليل من الأمل المنشود في دروب أيامها القادمات!
بدأت تفضفض عن الجاثم بنفسًا مُثقلةٍ، قائلة:” كان ليَّ كل شيءٍ ولكن الضياع والبعثرة أكلت تلك الأشياء ولم يبقى منها ألا الفتات، كان لدي أبناء وكنا جميعنا معًا في سفينة واحدة ولكن القبطان في كل محطة كان ينزل واحدٍ يلحقهُ الثاني إلى أن زاد ثقلها المُرهق وخفَ مسارها وضاعت عنهُ، كنْا نتكلم جميعنا بلسان واحدٍ رغم اختلاف اللغات ولكن البرج سقط على رؤوسنا مرة أخرى، كنا نتصافح بأيادي كلها دفء ووحدة واليوم بطلٌ هو من يحمل خنجرهُ بيدهِ ليضربهُ بالآخر حتى يراهُ يُدميّ! كانت لدينا أمنية مُشتركة وطموح واحدٌ يتحقق في وطنًا ولكن ما من تفسير لكل ما حصل ويحصل! ابتسمت ابتسامة أليمةٍ ثم أكملت:” التجديد لم ولن يصبح ثوبنا بل بتنا نقلدّ ونعيش حياة آخرين ونتبع خطواتهم ونصنع الأحداث في واقعنا وندعوها رغمًا عنها وعنا! أصبح جسدنا من كثرة ما أصابهُ كمنْ هو مصاب بمرض الجدري، تُدميه منطقة وتؤلمهُ أخرى، صبحنا وأصبحنا ولا نزال نستقبل الصباح على هذا الحال، ولم يعد لنْا حديث جديد يُبررّ هذا، المعالم تتغير بمرور الأيام والربيع يمضيّ بسرعةٍ ليعقبهُ الصيف بحرهِ الحارق! الأرض تذهب والوطن في دوامة ومن يسكنهم في تشتت في البقاع! أبوابنا أصبحت بلا أقفال وجدراننا آيلة للسقوط والقوارض تشاركننا لقمتنا وتنافسنا في مسكننا والهواء الفاسد يُضيق أنفاسنا ويخنقنا، فما السبيل لنحيّا الحياة كما هي الحياة أو كما نريدها؟!    
نتمنىّ أن نكون …. ولكن؟! أنها النفوس الحية الميتة المُتضرعة الطالبة بصمتًا، أنها عيون تطلب الشفاء والبصرّ، أنها قلوب تتمنىّ الحنان، أنها أيادي ممدودة للأعالي تطلب السلام وأفواه تصرخ طلبًا للنجاة، ولكن أين هذا في ظل أرض اغتيلت بالانفجارات والاضطهادات والتعصب الأعمى وأرهقها زحام الخوف والتنافس وزارها التصحرّ المُبكر؟! أين هي تلك الأرض التي قامت على الأمجاد وشمختْ من سواعد ملئت السماء بالحمامات؟! أين هي تلك الأرض التي هُجرت وأصبحت بيبانها مفتوحة ليدخلها من يشاء ويأخذ ما يريد من أجل أن ينهض هو وتموت هي؟! أين هو ذلك الصباح المشرق الذي كان يتغنىّ بنسائم وطنًا الندّية؟!   
الكلام كثير والفعل قليل! مللنْا من الإنابة عنْا ومن كثرة الطبول التي تدق من أجل أن تفسح للكذب والمراوغة طريقًا يسير عليها، مللنْا من كثرة الشعارات واللافتات البيضاء المكتوبة بقلم النفاق، مللنْا من الجلوس في الملعب ومُتابعة نفس اللاعبين وهم يلعبون بالكرة والعمر يرسم خطوطهِ على ملامحهم وهم يرسمون الحياة لغيرهم بأفكارهم المُتناقضة والغير مُتماشية مع الحدث الحاصل في حينهِ، مللنا من كل شيءٍ جالب للملل، حتى بتنا نملُّ من أنفسنا ولم يعدّ بمقدور قدرتنا على التحمل! فما بالك بأرض تحمل كل هذا وتئنُّ منهُ ولم يعدّ بمقدورها وهي تتحمل لسنوات طوال أوجاعًا وجراحًا لا دواء وطبيب لها، غيرَ أن تنقش قبلة على جبين وطنًا، تعتذر منهُ من أجل ما يفعلهُ من يسكنهُ ويسمح به قاطنيه سواء كان بيدهم أو ظروفًا أجبرتهم على ذلك.

أنها الأرض وأنهُ الوطن وأنهُ السلام المنشود في حياة حرة وأنها نفوس تطلب الكفاية من كل شيءٍ، فقد فاضّ بها الكيل والحمل أصبح أثقل مما يتصور.