ثمة أكثر من ضاحية في أطراف بغداد تعرف بهذا الاسم , الذي يشير إلى كثرة استعمال الكرود وسائط للإرواء الزراعي , واصل التسمية (كراد ) على وزن فعال , وهو صاحب الكرد ويجمع على كرادة . وهذه الصيغة من الجموع تكثر في اللغة الشعبية الدراجة . ومثالها :
زراعة: جمع زارع
عمالة : جمع عمالوهو العامل ويطلق غاليا على عمال البناء بلامة: جمع بلام وهو صاحب الزورق
سماجة: جمع اسماك أي السماك
والضواحي التي تسمى بهذا الاسم تمتد على جانبي دجلة . وهي :كرادة الصليخ , شمالي بغداد على الجانب الشرقي من النهر , والكرادة الشرقية الى الجنوب وتقع على الجانب الشرقي أيضا . وكرادة مريم على جانب الغربي المقابل للكرادة الشرقية (1) . وكانت هذه الضواحي الثلاث تشتمل على المزارع وبساتين كثيفة تروى من دجلة بواسطة الكرود المنتشرة على الضفاف , وذالك قبل البدء باستعمال المضخات الآلية.
أن الكرادة الأولى الواقعة في منطقة الصليخ لم تشتهر طويلا بهذ الاسم , الذي صار يطلق فقط على من لا يسكن أحدى الكرادتين , مريم والشرقية.
ولكل من الكرادتين تاريخ مستقل , وخصائص محلية متميزة رغم وقوعها متقابلتين على ضفاف نهر دجلة . ويترتب على ذلك ضرورة تخصيص كل منهما بدراسة مستقلة وهذا البحث الذي نقدمه لقراء مجلة بغداد قصور على كرادة مريم . وأرجو أن أوفق في وقت لاحق إلى تخصيص شقيقتها الشرقية بدراسة مماثلة .
تمتد كرادة مريم على طول شاطئ دجلة الغربي بين موقع جسر الأحرار الحالي شمالا حتى نهر الخر جنوبا . أما عرضها فمن شاطئ النهر حتى سكة حديد بغداد البصرة . وكانت تحدها سابقا (سدة المسعودي) وهذه السدة بنيت في العهد العثماني الأخير لحماية بغداد الغربية من فيضان نهر الفرات . وقد زالت من الوجود أخر بقايا هذه السدة منذ حوالي العشرين عاما. ومن هذا نعلم أن كرادة مريم تتبوأ منبسطا فسيحا من الطرف الجنوبي الغربي لمدينة بغداد . على أن الجزء الأعظم من هذه المساحة كان أما بورا متروكا وأما أرضا مزروعة . أما المنطقة السكنية فكانت تحاذي النهر محصورة في شريط من الأرض لا يزيد عرضه على الكيلو متر الواحد . والبيوت الكرادية تبنى عادة بالرهص الطوب_ وتسقف بجذوع النخل . وفي زمن متأخر بنى الموسرون منهم باللبن وسقفوا بالخشب .
وتبنى الدور متلاصقة بحيث تشكل سطوحها مجموعات يكمل بعضها بعضا. ومن طريف ما كان يقع أنهم إذا طاردوا لصــا ربما أستطاع أن يعبر الطرف من أوله إلى أخره فوق سطوح المنازل ! ومع ذلك فالكرادة قلما يفلت اللص من أيديهم !. تتألف كرادة مريم من أحياء متميزة عن بعضها يطلق على كل منها اسم (طرف) ومن أشهرها طرف ( الثعالبة) ويقع اليوم إلى الشمال من جسر الجمهورية , و ( العباسية ) وفيها اليوم بناية المجلس الوطني الجديد , والمطيرية _ بتسكين الميم _ و ( الكاورية) وكانت متنزها صيفيا لأهل بغداد وقد تردد ذكرها في الأغاني البغدادية القديمة . وهذا الطرف المشهور بكثافة بساتينه وبشاطئه الرملي الذي يؤلف بلاجا طبيعيا يصلح للرياضة والسباحة.. وينقسم الطرف الواحد إلى دروب وشوارع غير منتظمة تعرف باسم ( واجهات ) جمع ( واجهة ) وهي تقابل الاصطلاح البغدادي ( عكود ) جمع عكد .

الحياة الاقتصادية :
كانت الحرفة الرئيسية لأهل الكرادة هي الزراعة . وكان معظم المزارعين يملكون الأراضي التي يزرعونها . ولم تكن الأرباح المتأتية من الزراعة تمكن المزارع من توسيع رقعة الأرض التي يزرعها , ولذلك حافظة الملكيات الزراعية على حجمها الصغير .ومن نتائج هذا الوضع أن الكرادة لم تشهد أي نوع من التمييز الحاد بين السكان بسبب الفقر والغنى , إذ لم يكن في المجتمع الكرادي كله غني بالمعنى الصحيح .
أن المالك قد يتولى زراعة أرضه بنفسه . وقد يدفعها إلى فلاح ليزرعها مناصفة وهذه هي المزارعة _ النظام المعروف قديما . ومن شروط عقد المزارعة أن يقدم الفلاح العمل والبذور , والماء على صاحب الأرض . ويأخذ كل منها نصف المحصول , يضاف إلى ذلك حصة العقر بنسبة 1|10 من حصة الفلاح يأخذها المالك .
والفلاح قد يؤاجر نفسه للعمل مع المزارعين بموجب عقد سنوي يبدأ بأيلول وينتهي بأيلول من السنة التالية . والأجر مقطوع مقدراه ثلاثة آلاف قرش تركي . يتسلم الفلاح منه ألف قرش كدفعة أولى قبل المشروع بالعمل . ويعطى له الباقي على دفعات حسب الطلب ويستعين الفلاح في مزاولة عمله بمساعد يطلق عليه أسم ( فضال ) وقد يكون الفضال امرأته أو بنته .
وأشتغل بعض الكرادة بالزوارق _ الأبلام _ التي كانت تتولى النقل بين ضفتي دجلة . وعندما ظهرت الزوارق البخارية واستخدمت للنقل عبر المسافات الطويلة , عمل فيها جماعة منهم . وكانت منطقة عملهم على ظهور هذه الزوارق تنحصر بين سيد سلطان علي والزاوية في الكرادة الشرقية .
وأمتهن آخرون صيد السمك . وهؤلاء هم (الثعالبة) الذين يسكنون الطرف المسمى باسمهم . وفي مواسم الفيضان حين كان الهور الواقع خلف سدة المسعودي يمتلئ بمياه نهر الفرات يحصل أهل الكرادة على عمل يدر عليهم رزقأ لا بأس به , ذالك هو صيد السمك ( أبو سيف ) أو السويفي . وهذا النوع من السمك يكثر في هور المسعودي ولم يكن يباع , لكثرته , بل كانو يقلونه لاستخلاص دهنه . ويجمع هذا الدهن في صفائح ويباع لأهل السفن لاستعماله في طلاء سفنهم حماية لهل من التأكل .
ومن الاعمال الرئيسية لأهل الكرادة بيع الفجل . وكانوا يسمونه (أبو خوصة الذهب) دلالة على الربح الوفير الذي يتحصل من بيعه . والخوصة مفردة الخوص وتتخذ عادة الشد باقة الفجل . وكانو يبيعونه على أهل بغداد في الكرخ والرصافة .
وثمة مهن لم يكن في كرادة مريم من يمتهنها . كالخياطة _ الرجالية _ والحلاقة . وقد كان الرجال يذهبون إلى بغداد لخياطة ملابسهم . أما الحلاق فكان يأتيهم من بغداد , وكان متجولا يحمل ( عليجة ) وهي كيس من القاش السميك , يضع فيها ادواته المؤلفة من موسى وماكنة قص الشعر . وأعتاد الحلاق أن يقعد زبونه على حافة أحدى السواقي او على شاطئ النهر ويبلل رأسه بالماء , ثم يحلقه دون استعمال الصابون . وكان الحلاق يلتزم المنطقة بحيث لا ينافسه أحد . أما أجرته فتدفع له على شكل محاصيل زراعية في نهاية كل موسم . ونادرا ما كان يقبض أجرته نقودا.
وليس في الكرادة حوانيت ولا عطارون بل كانوا يذهبون إلى أسواق الشواكة وعلاوي الحلة لشراء ما يحتاجونه . وثمة مواد كان أهل الكرادة يحصلون عليها مجانا وكانت عندهم في حكم المشاع . وهذه هي : التمر والدبس واللبن والتكي والمخضرات والفجل والنبق والحطب . وهم يبيعون هذه الأصناف للبغادة ولا يتبايعون بها في منطقتهم . وكانوا ينكرون على احدهم أن يشتريها من السوق ويعد المزارعون ذلك اهانة لهم . وقد جرت العادة أن يذهب رب الأسرة إلى المزارع ويقول له: (عندي اليوم لحم) يقصد انه يريد طبخ المرق لأهله, وعند ذلك يعمد صاحب الزرع إلى حقله فيجني له ما يسد حاجته من المخضرات . ولقد مارست هذه الظاهرة تأثيرها على أبناء الجيل الجديد في المحلة فكانوا _ إلى زمن قريب _ يتحرجون من شراء ثلاثة من هذه الأصناف المشاعة وهي التمر والتكي والنبق ويعتبرون الحصول عليها بطريق الشراء أمرا غير طبيعي.

الحـــياة الاجتماعــية :
يرتبط معظم سكان كرادة مريم بالقرابة أو بالمصاهرة. وكان التماسك بينهم قويا والتعاون سنة متبعة. ولذلك امتازت حياتهم اليومية بالنشاط والحركة الدؤوب . وهم بتضافرهم قلما احتاجوا إلى غيرهم . وأكثر ما تبرز هذه الروح عند وقوع الحوادث والنكبات كالمرض والموت والحريق وسطوة اللصوص. ففي حالات كهذه ما على المنكوب الا أن يطلق صيحة عالية _ وهذه المهمة تقوم بها نساؤهم خير قيام _ حتى يزحف الطرف بأسره نحو مصدر الصوت , وفي الحال : أن كان حريق اطفأوه , أو لص طاردوه , أو ميت تجمعوا حوله فقاموا بكل ما يجب نحوه ونحو أسرته , وأن كان عراك حالوا دون الفريقين وأصلحوا بينهم .
كان حجاب المرأة الكرادية _ ضمن منطقتها_ أخف قيودا من حجاب أختها البغدادية . وهي في المزرعة تعمل مع الفلاح كما هي الحال في الريف . وبالاختلاط مسموح به في نطاق معين . وكان الرجل يمشي مع المرأة من بنات محلته في الأماكن العامة دون أن يثير منظرهما تساؤلا أو ريبة ما دامت ( النية صافية ) على حد تعبيرهم .
من عاداتهم في الزواج أقامة الأعراس على طريقة البغادة . أما تكاليف الزواج فبسيطة. أن أقصى حد للمهر هو ثلاثة آلاف قرش . والقرش يعادل (2,5) فلسين ونصفا . وجهاز العروس يتألف من فراش وصندوق للملابس مع بدلة العرس . وقد يضاف أليها البساط _ نوع من السجاد المنسوج في مدن العراق الأوسط _ وأغلب ما يكون صندوق الملابس من النوع المعروف بالمرفع . وقد يشتري العريس سريرا للنوم مما يصنع من سعف النخيل , وقد لا يستطيع ذلك فينام على الأرض . ولكن بعض الموسرين منهم كانوا يحتفظون في بيوتهم بدستة من الفرش يخصصونها للإعارة . وتنظم من هذه وتنظم من الأثني عشر فراشا فوق بعضها وتغطى بشرشف . ويرقد العروسان فوق هذه الفرشة طوال الأسبوع الأول من زواجهما ثم تعاد الفرش إلى أهلها .
اللباس اليومي للكرادي دشداشة من الخام الأسمر الغليظ . والعرقجين للراس , فلا يجوز للرجل أن يخرج من بيته حاسر الرأس . أما قدماه فحافيتان على الأغلب , ولباس القدم الوحيد هو اليمنى الأحمر المعروف . وفي المناسبات يلبس الكرادي المقتدر زبونا من الصوف وعباءة ( دك المشهد ) أي عمل النجف مع العقال واليشماغ . و الزي الرئيسي للفلاح هو ( البشت ) ويحاك من الصوف الأحمر المغزول باليد . ولم أتكمن من معرفة السبب الذي من أجله يحتقر الكراديون هذا اللباس البغدادي .
وكان لكل من المرأة البكر والمتزوجة غطاء رأس تعرف به فالعذراء تلف رأسها بـ(الجتاية) وهي عصابة بيضاء ذات كراكيش . أما المتزوجة فتتلفع بالجرغد والفوطة التي تغطي رأسها ونحرها وصدرها معا . ولا تلزم الفتاة بلبس الفوطة ما لم تتزوج . ويفهم من ذلك أنهم كانوا يتشددون في حجب المتزوجة . ويبدو أن هذا التمييز في لباس الرأس قد تطور فيما بعد فصار محظورا على العذراء أن تلبس الفوطة لأن ذلك يعني أنها تريد التشبه بالمتزوجات .
الأطعمة التي يكثر الكرادة من تناولها عي كالآتي مصنعة على الوجبات اليومية : في الفطور :
العصيدة : وهي حساء يعمل من الطحين المسهى _ أي المحمص بالدهن _ والنمت المطبوخ . وقد يأكلون التمر والخبز واللبن . وقليلا ما يتناولون مشتقات الحليب كالزبدة والقشطة والجبن .
في الغداء:
تمر وخبز ولبن .
في العشـــاء :
البالوته : وتعمل من الطحين المحمص والدبس . وقد يتناولون الرز . وقد يأكلون الباذنجان المشوي بالتنور مع الخبز والملح . وثمة طبخة من الباذنجان أو الباميا مع الماء وعصير الرمان الحامض لا يدخل اللحم في تركيبها تسمى (مصكعة ) والتسمية تعبير عن بؤس الطبخة ودلالتها على خشونة العيش . وطبخة يأكلها القادرون منهم تدعى 0 سنكسير) أو ( حامض حلو ) تعمل من المشمش المجفف والدبس واللحم . وتقدم مع التمن .
في الولائم : مرق حامض الشلغم مع التمن .
ومن أكلاتهم : الخميعة _ بتسكين الخاء _ ومادتها الحليب والسكر والدهن المغلي . واللبنية _ بكسر اللام وتسكين الياء _ وهي لحم وتمن ولبن وتطبخ سوية .
لم يعرف أهل كرادة مريم ألا القليل من المشروبات كاللبن والقهوة . وكانوا حتى أوائل القرن الحالي يجهلون الشاي . ويحكى ان هنديا في جيش الاحتلال الانكليزي في الحرب العالمية الأولى أهدى فلاحا من أهل الكرادة كيس شاي فقدمه الكرادي بوره إلى بقرته ظنا منه أنه نوع من العلف . ويذكر بهذه المناسبات أن قطعات من جيش الاحتلال هذا قد نزلت في الكرادة . ونشات بسبب ذلك صداقات وطيدة بين الأفراد الهنود في هذا الجيش وبين أهلها . حتى أن الكثير منهم تعلم اللغة الهندية . في حين كان الجمود والقطيعة يسودان علاقاتهم بالأفراد المغربيين في الجيش المذكور . ولا غراب في ذلك , فالمضطهدون مهما اختلفت جنسياتهم يميلون بفطرتهم إلى التجانس , والائتلاف مع بعضهم.
لهجــة أهـل الكـــــرادة :
يتكلم اهل كرادة مريم بلهجة خاصة تختلف مع بعض الوجوه عن لهجة أهل بغداد. ومن خصائصها أنها بسيطة وخالية من التفخيم الذي يميز اللهجة البغدادية . ويمتاز كلام الكرادي بطغيان حركة الكسر على مفرداته بدل الضم الذي يكثر في كلام البغادة . وهناك مفردات شائعة في قاموس اللهجة الكرادية لا يستعملها أهل بغداد , ومفردات أخرى يتفاوت اللفظ بها بين اللهجتين أما في الحركات وأما في الحروف وفيما يلي قائمة ببعض هذه المفردات , نوردها للمقارنة :
الكرادة بغداد
يدحج: يباوع : بمعنى ينظر . وقول أهل الكرادة مقلوب من (يدحق)
باكلا:_ باقلاء
يكتل: يبسط : للضرب والصفع الذي يقع بين المتخاصمين
جدام : كدام : قدام
كنتور: قنطور : دولاب الملابس
طاسة : كاسة
بخصم: بقصم
جِرك (بكسر الأول): جُرك (بالضم )
يِعرف: يُعرف
يٍشتغل : يُشتغل (واللام مفخمة) وغاليا ما يكسر الكرادة عين الفعل الذي يضمه البغادة .
تترد على ألسنة أهل كرادة مريم أمثال دارجة أكثرها من المثال البغدادية مع تحريف بسيط في بعضها . وهذه نماذج منها :
_ الجوة أبطة عنزة يبغج عند البغادة : يصرخ
_ الخير لبو خضير والزبل على الخانجي
_ لو ردت تهجج أكنس وعجج
_ أبو سراج جوه أنجانته خبز ما ينام الليل
_ مفل بزونة حسين الطعمة جووها وما عاودت _ مثل أهل قازة وبازة : يضرب لجماعة يختلفون على قضية وليس فيهم من هو أكثر خبرة بها من صاحبه .
_ يابو بشت بيش بلشت : يخاطب به الفقير _ والبشت هو لباس الفلاح الفقير كما أسلفت_ إذا دخل في صراع مع من هو أقوى منه . ويضرب لكافة الحالات المماثلة .
_ مثل تعلولة علي الراضي : وهذا المثل كرادي صرف . وأصله أن فجالا يدعى علي الراضي كان يبيع الفجل في الكرخ . وكان يتأخر هناك إلى الليل , ثم يعود إلى منزله في وقت متأخر . وبعد أن يتناول عشاءه ويؤدي الصلاة وينجز ما لديه من أعمال في بيته يخرج إلى التعلولة . والتعلولة هي السمر وكانت لها أهمية خاصة عندهم بالنظر لخلو المحلة من المقاهي والمنتديات وحين يصل البيت الذي ينوي قضاء تعلولته فيه يكون المتسامرون قد أوشكوا على الانصراف . وربما طرق الباب وأهل الدار يهمون بالنوم ! فذهبت تعلولته مثلا .
وقد تردد ذكر الكرادة في الأمثال والكنايات البغدادية . ويلاحظ أن البغادة كثيرا ما كانوا يتهكمون من أهل الكرادة . ويستند هذا التصرف إلى اعتقاد البغدادي أن الكرادي غير متحضر وأن درجته في سلم التطور الاجتماعي أدنى من درجته . وليس لأهل بغداد يد في هذا الاعتقاد فهو من نتائج الشعور بالتفوق الذي يلازم أهل المدن ويغرس في أذانهم مثل هذه الأفكار والغرور . يعير أهل بغداد أهل الكرادة بالباذنجان فيقولون ( كرادي أبو بيتنجانة ) ويردد صبيانهم أهزوجة بهذا المعنى يقولون فيها :
كرادي كرادي أبو بيتنجانة
خلي الجلب نايم ومشنتر اذانة
ولا يعرف أحد بالضبط أصل هذه الشتيمة التي يطعن بها البغداديون جيرانهم الكرادة . سوى أننا نعرف أن أهل الكرادة كانوا يكثرون من زراعة الباذنجان ألا أنهم لا يستهلكونه بكثرة لاضطرارهم إلى بيعه . وهم لا يأكلون منه ألا ما يدر عليهم بيعه ربحا وهو الباذنجان الكبير الحجم يشوونه بالتنور أو يطبخونه مرقا . وفي هذه العادة ما يدل على الشح والفقر معا .. وأهل بغداد يزعمون أن الباذنجانة تعادل عند الكرادي دم الإنسان ! وهذا بلا شك من المزاعم الباطلة . .
ومن الأمثال البغدادية قولهم ( كرادة وعزا حسين ) يضربونه للجماعة تحرص على الشيء وتثير الضوضاء من حوله . والكرادة معروفون بحرصهم على أقامة التعازي في مناسبة عاشوراء . وفي هذه المناسبة كانت تعد الولائم الكبرى , حيث يجد فقراء الكرادة وهم الأكثرية بغيتهم فيتهافتون عليها بحماس شديد . وآخر يقولون فيه (بل المعظم على الكرادة ) وفي أصل المثل ومعناه أقوال متناقضة . وقد أورد جانبا منها الشيخ جلال الحنفي في كتابه القيم عن الأمثال البغدادية , (راجع حرف التاء من الجزء الأول).
كسلة مريم :
يقترن أسم كرادة مريم بالكسلة المشهورة التي كان يؤجج أوارها أهل بغداد. وقد فاتنا أن نشير إلى ضريح يقع في وسط الناحية وينسب إلى السيدة مريم بنت عمران والدة المسيح ومنه استمدت كرادة مريم اسمها . والمرجح ان هذا القبر يعود لامرأة صالحة من نساء العهد العثماني أسمها مريم . وقد التبس الأمر على الناس فشاع بينهم أنها السيدة العذراء , والعذراء لم تأت إلى العراق ولا عهد لها بالكرادة.
كان أهل الكرادة يقدسون ضريح مريم تبعا لهذا الظن. واتخذوا من الأرض التابعة له مقبرة لأكبادهم . أما أهل بغداد فكان هذا المشهد متنزها لهم يجتمعون حوله في كل عام مرتين : في الجمعة الأولى بعد عيد الفطر والجمعة الأولى بعد عيد الأضحى , وهذه هي الكسلة .. والكسلة في بغداد ثلاثة أيام , فإلى جانب كسلة مريم كانت كسلة سيد إدريس في الكرادة الشرقية ويحتفل بها في الحد الأول بعد العيدين . وكسلة أبو رابعة في الأربعاء الأول بعد العيدين وكانت تتوهج حول ضريح ( أبو رابعة ) في العظمية .
عندما يحين موعد الكسلة في كرادة مريم كان الناس يأخذون _ منذ الصباح الباكر _ بالزحف نحو ضريح السيدة من كل جهة من جهات بغداد حتى تضيق بهم البساتين والحقول المحيطة بالضريح . ويأتي مع الناس , الباعة المتجولون بأنماط شتى من الأطعمة والمرطبات واللعب . ومع هواة الطرب ألوان مما عرفت بغداد في ذلك الوقت من أدوات اللهو والغناء . ويكون يوما مشهودا يفوق في صخبه ومسراته أيام العيد ويطبع في الأذهان ذكريات لا تنسى .
أما أصل الكسلة فمجهول , وكذلك المعنى الذي ينطوي عليه . وأغلب الظن أنها وجدت بدافع الرغبة في مداومة المرح والتعطل الذي يستروحه الناس طوال أيام العيد . وفي مجتمع ضيق يخنقه الحرمان , كالذي زاملته بغداد في الجيل الماضي تفرض مثل هذه النزعات تأثيرها الفوي على الأفراد . أن حاجة الناس إلى التفسح والخروج من أسر القيود التي تكبلهم تؤلف على الدوام حافزا يدفع بهم نحو البحث عن منافذ يتنفسون من خلالها . وهكذا كانت لأيام العيد في بغداد , بما تحمله للناس من مسرات , أهميتها البالغة وأصداؤها البعيدة في النفوس . وكانت الكسلات مناسبة فرعها البغداديون من أعيادهم تطمينا لهذه النزعة . ولعل في أطلاقهم أسم ( الكسلة ) على هذه الأيام ما يؤيد هذا الظن أو يقربه من الصواب .
مجلة بغداد ـ تشرين الاول 1964