كنا قد كتبنا في مناسبة أخرى مقالا تحت عنوان ” ما مشكلتهم مع كوردستان “*، وقد كاتبني الكثير ممن يسألون عن أصل المشكلة هل هو فكرة الاستقلال أم الرئيس مسعود بارزاني؟
والحقيقة هي الاثنان معا، وربما يركزون جام غضبهم وحقدهم على البارزاني اكثر لأنه فعلا هو قائد مشروع الاستقلال الذي يعبر عنه بصراحة وشفافية وجرأة خالية من أي إكسسوارات دبلوماسية، فهو يعبر عن فكرته ومشروعه كبيشمركة لا يقبل القسمة الا على نفسه لتكون النتيجة نفسه أيضا، ومن يتابع أحاديثه ولقاءاته المتلفزة يدرك حقيقة صدق وصراحة هذا الرجل بعيدا عن الفذلكات اللغوية أو المتاهات الدبلوماسية، فهو يتميز بوضع النقاط على الحروف وإعطاء الأشياء والأحداث والمواضيع عناوينها الحقيقية دونما رتوش ومجاملات، ولا يختلف اثنان من قادة العراق والعالم الذين عرفوه على صدقه وصراحته وشفافيته، وهنا تكمن مشكلته مع الأصدقاء والأعداء والمنافسين.
منذ البداية قاد الملا مصطفى البارزاني هذا المشروع، وجمع حوله كل المختلفين والمتفقين في غاية واحدة هي تحقيق الاستقلال، لكنه أيضا لم يتخطى واقعيته المشهودة، فلم يقدم مشروعه دفعة واحدة لكنه احترم ظروف شعبه والمنطقة التي تعيش فيها كوردستان وشركائه في الأرض من عرب العراق، فكان شعار مشروعه في البدء الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكوردستان، وهو يؤمن تماما لو أن العراقيين طبقوا النظام الديمقراطي بشفافية فان استقلاله سيكون أكثر سلاسة كما يفعل البارزاني الرئيس اليوم، حيث يؤكد دوما على التحاور مع الشركاء بشكل سلمي متحضر وبأساليب وأدوات ديمقراطية هي التي ستعتمد أساسا في تحقيق الغاية التي ينشدها شعب كوردستان العراق الذي يتجاوز تعداد الستة ملايين نسمة تربطهم جميعا روابط مشتركة في الأرض واللغة والثقافة والعادات والتقاليد والاهم أنهم جميعا وان اختلفوا في كل الأمور لكنهم يتوحدون تحت راية واحدة وهدف اسمي هو الاستقلال وتأسيس دولتهم بعد أن نجحوا في بناء تجربتهم الفيدرالية منذ 1991م وحتى سقوط نظام صدام حسين، وفشلت بغداد في إيجاد صيغة علاقة تضمن حقوقهم كاملة طيلة ما يقرب من مائة عام!
ولذلك نرى بشكل إجمالي معظم الذين يقفون بالضد من تحقيق هذا الهدف إنما يتناولون شخص السيد مسعود بارزاني والعمل بشكل مستمر على إعاقة مشروعه لتحقيق المرحلة الأولى وهي الاستفتاء، وما هجمة داعش الشرسة إلا صفحة من صفحات معاداة هذا الهدف وما ترتب عليها من استنزاف موارد الإقليم التي كانت قد خصصت لعملية التنمية الكبيرة التي شملت كل مناحي الحياة في الإقليم، وفي نفس السياق فرضت حكومة نوري المالي حصارا ظالما على الإقليم، تضمن حرمانه من كل مستحقاته كشريك أساسي في الدولة العراقية حسبما اتفق عليه في الدستور الأخير، إلا أنهم وأمام إصرار البارزاني على تطوير تجربة الإقليم في مزيد من الاستقلال عملوا بشكل مكثف على مد أصابعهم إلى الداخل الكوردستاني للضغط مباشرة وإرباك القيادة السياسية في الإقليم وتأخيرها من المضي في تنفيذ مشروعها الحضاري.
إن البارزاني ينطلق من تراكم أهداف ومشاعر شعبية ووطنية شفافة لا تقبل المزايدات، فهي تمثل أساس قيام حركة التحرر الوطنية الكوردستانية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، التي عملت لعقود طويلة من اجل تحقيق الاستقلال عبر مراحل، رفعت فيها شعارات تواكب حركة تطور الوعي السياسي للأهالي في كوردستان ولمن يحكم في بغداد، وكانت الخطوة التاريخية الأولى هي اتفاقية آذار 1970م مع نظام الرئيس احمد حسن البكر، التي اعترفت لأول مرة بحق شعب كوردستان بالحكم الذاتي.
ورغم فشل تطبيق تلك الاتفاقية لأسباب كثيرة في مقدمتها؛ إن مراكز قوى مهمة في بغداد آنذاك كانت تعتبر الاتفاقية تكتيكا لاحتواء الحركة التحررية الكوردستانية، إلا إنها كانت منطلقا لاستمرار الحركة في العمل الدءوب على الأرض وفي المحافل العالمية حتى نجحت في انتفاضة ربيع 1991م في تحقيق الاستقلال الذاتي وبحماية الأمم المتحدة والتحالف الدولي آنذاك.
واليوم وبعد إسقاط نظام صدام حسين في نيسان 2003 عمل مسعود بارزاني ورفاقه من القيادات الكوردستانية الأخرى على إرساء نظام ديمقراطي تعددي اتحادي يضمن للجميع حقوقهم بدستور جديد يعتبر كما اتفق عليه غالبية العراقيين ضامن لحقوق كل المكونات، لكن السنوات التي تلت تشريع هذا الدستور والممارسات العملية على الأرض أثبتت إن مبدأ المشاركة غير موجود أساسا في ثقافة الحاكمين الجدد، بل إنهم غير معنيين أو مهتمين بما يريده شركائهم في الأرض والدولة، ولذلك تراهم في تقاطع مع من يعطي الأشياء مسمياتها الحقيقية وعناوينها الرئيسية وهو مسعود بارزاني الذي يستهدفونه أولا في حربهم ضد حق تقرير مصير شعب كوردستان.