ما يميز حياة البشرية وما يحيط بها أن كل شيء قائم على التفاضل، لا أحد يشبه أحداً، ولا ذو نفس يشبه ذا نفس، ولا ثمرة تشبه أخرى، ولا بيئة مماثلة لثانية، ولا سلعة تشبه أختها، وهذا التفاضل هو الذي يعطي للحياة رونقها وحيويَّتها وديمومتها، فلو تساوى الناس في كلِّ شيء ما عاد للحياة طعمٌ، ولو تساوت الثمار ما عاد للذوق أثرٌ، ولو تساوت السلع ما عاد للسوق حراكٌ، ولو تساوى الرجال ما عاد للنسل من بهجةٌ، ولو تساوت النساء ما عاد للجمال سحرٌ.

والحياة الرتيبة بالنسبة لبني الإنسان حتى في حال التفاضل والتمايز هو موت آجل، فكيف إذا غاب التفاضل؟ فلا شك أنه موت عاجل، وهذه حقيقة مسلّم بها، يعيشها كلُّ إنسان في كل مراحل حياته، وحتى في الموت تتفاضل الجنائز ومراسيمها وإن كان المآل إلى حفرة ينام فيها الغنيُّ والفقيرُ والعزيزُ والذليلُ، على أن التفاضل يترك أثره في الحياة الدنيا لصاحبه ومن يلوذ به، ويبقى معه في قبره وبرزخه وعند الوقوف للحساب ويسري هذا التفاضل على الجزاء، فالجنةُ جنةٌ ولكنها مراتبٌ حسب تفاضل روادها في عالم الدنيا، والنارُ نارٌ ولكنها دركاتٌ حسب تسافل روّادها في عالم الدنيا.

ولكن هل التفاضل بين جنس البشر تكويني ليس للإنسان دخل فيه؟ تتمايز الأجوبة، فالعقلاء يدركون أن التفاضل هو من سنخ عمل الإنسان، وهناك مؤثرات تساعد الإنسان على تسلق سلم التفاضل ولكن الخطوة الأولى تعود لإرادته، لأنها هي التي تخلق من القليل الكثير، وخوار الإرادة لها أن تحيل الكثير قليلاً، والفاشلون وحدهم يرمون الخيبة على رب العباد تارة وتارة على الآباء وأخرى على الظروف، وبالطبع فإن الإرادة وحدها لا تكفي إن لم تسدد بالعقل السليم والتفكير الحليم تلحق بهما دعوات الوالدين، وتحيط بكل مفردات الإرادة وتوابعها الإيمان بواهب الخير.

فالأمر كل الأمر عائد للإنسان، وكما في قوله تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً) الإسراء: 84، فالنتائج تسوقها أفعال العباد منظورة فيها إرادة رب العباد، ولذلك نرى في الحياة الدنيا عظماء صالحين وجبابرة طالحين، ونرى نجباء عاملين وعاملين جبناء، ونرى ملوكا قاسطين وقاسطين ملوكا، ونرى عالماً فاضلاً ونرى عيلماً فضيلاً، إذن فالتمايز قائم بين جبهتي الخير والشر، وهو قائم بين أفراد جبهة الخير نفسها وأفراد جبهة الشر نفسها، وهذه سنة الحياة الدنيا وتوابعها في عالم الممر وعالم القبر ونتائجها في عالم المقر، والإنسان الناجح هو الذي يقفز على الملمات ويتصيد المسرات، والإنسان العاجز هو الذي يرمي الناجز بحجر ويبكي غدر الدهر.

وهذا التفاضل هو الذي يدفع الانسان الجاد إلى البحث عن مقومات النجاح، فإن وجدها عمل بها وإن تعثر في رحلة البحث ووجدها عند غيره أخذ بها، ولعل واحدة من أهم مقومات المرحلة الثانية هي قراءة  الآخر (خيراً أو شراً) وسبر حياته والوقوف عند محطاتها للاستزادة والاستفادة وبلوغ الريادة أو الاعتبار والاتعاظ وتجنب الزيادة، وهذا السبيل يسَّرته المذكراتُ الشخصيةُ التي يكتبها أصحابها ويتركونها ثروة للآخرين، بغض النظر عن نوعية الكاتب، فنجاحه في مكان يقدم للقارئ عوامل الفلاح حتى يأخذ بأحسن منها، وفشله في مكان يهديه على طبق من ذهب تجربة مرة حتى يتقي المحظور والوقوع في المحذور.

 

مرآة الأمم

 فالمذكرات هي بواقعها قراءة ذاتية من واقع الحياة تشكل مرآة للأمة بخاصة إذا كان مذكرات عظيم من العظماء في أية جنبة من جنبات الحياة، وإذا جاءت المذكرات بقلم فاضل من الفضلاء عن عيلم من العلماء، فهي وإن لم تستغرق كل لحظة من لحظات المكتوب عنه، لكنها تشكل ثروة معرفية وحصيلة علمية وكتاباً مفتوحاً للقراء ينهلون منه التجارب، وهذا ما لاحظته عند قراءتي لكتاب (المحطة الثانية في مسيرة الداعية) بقلم المؤرخ والأديب الفقيد عبد الحسين حسن الصالحي المولود في كربلاء المقدسة بالعراق سنة 1353هـ والمتوفى في طهران سنة 1435هـ والمدفون في قزوين، الصادر حديثا (2015م) عن بيت العلم للنابهين في بيروت في 127 صفحة من القطع المتوسط، يبرق في أحداقنا “ومضات من سيرة المحقق آية الله الشيخ محمد صادق محمد الكرباسي” صاحب الموسوعة الحسينية (دائرة المعارف الحسينية) الفقيه المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي، منذ غادر العراق قهراً سنة 1391هـ (1971م) واستقراره في لندن مرغماً سنة 1406هـ (1986م).

ولا يخفى أن صاحب القلم أينما حلَّ أو رحل، لا تنفذ محبرته يجري يراع معرفته على بياض أوراقه يُسوِّدها بما يجود به المداد وبما يرى ويسمع، ويفكر ويحلل، ويستطلع ويستقرئ، وهو متقد الذهن يبحث عن جديد يضعه بين يدي قرائه المنظورين وغير المنظورين، وهذه خصلة جميلة وجدتها في الموسوعي الشيخ الكرباسي،  وهي واحدة من تميزه وتفاضله، وخصلة لمستها في كتابات المؤرخ الصالحي الذي كان له حضوره المعرفي في العراق وإيران ولبنان من خلال كتاباته المتنوعة ومشاركاته في الموسوعات الإسلامية الكبرى، وهذا الحس العلمي لدى المؤرخ الصالحي هو الذي دفع به إلى كتابة سيرة مُيسَّرة عن حياة الشيخ الكرباسي بعد أن اجتمع به في لندن سنة 1426هـ (2005) لأسابيع محدودة كانت كافية لأن يستذكر فيها الصالحيُّ ذكرياته مع الكرباسي، ويترجم اللقاءات المتعددة معه في المركز الحسيني للدراسات بلندن إلى كتاب أنهاه في 13 رجب 1426هـ (19/8/2005م) بعد أربعة أيام من رجوعه إلى قزوين حيث مسكنُه، ورأى النور في بيروت بعد رحيله بعام.

يتناول الكتاب (المذكرات) الهجرة القسرية الأولى للمحقق الكرباسي من العراق حيث مسقط رأسه كربلاء المقدسة في 5/12/1366هـ (1947م) إلى إيران في 10/11/1391هـ (1971م) وسكنه في طهران وقم المقدسة التي غادرها يوم 19/6/1393هـ (1973م) إلى بيروت ودمشق سنة 1395هـ (1975م) وبعدها الاستقرار في لندن سنة 1406هـ (1986م) ولازال، وهذه محطات أربع لأربع هجرات، ركز فيها الفقيد الصالحي على المحطة الثانية من حياة المحقق الكرباسي بعد محطة العراق، التي شكلت منعطفاً حاداً في انطلاقته الكبرى إلى عالم إنشاء المؤسسات العلمية والثقافية في عدد من البلدان وتأليف الموسوعات المعرفية الكبرى، وأهمها دائرة المعارف الحسينية في نحو 900 مجلَّد صدر منها حتى الآن مائة مجلد، وموسوعة الشريعة في نحو ألف عنوان طبع منها حتى الآن 53 كتيباً، وموسوعة الإسلام في البلدان طبع منها حتى الآن ستة كتب، ناهيك عن كتب التفسير ودواوين الشعر ودراسات حديثة في العروض، وغيرها من المؤلفات في حقول مختلفة.

 

وتلك الأيام

ويلاحظ في المذكرات أن المؤرخ الصالحي انطلق من المحطة الثانية في حياة المحقق الكرباسي ليعود بنا إلى أيام العراق تارة وإلى أيام الشام والمملكة المتحدة تارة أخرى، في محاولة منه للإحاطة ولو بقدر من سيرة الكرباسي منذ ولادته، وفي هذه الرحلة المعرفية في إطار المحطة الثانية تنقل بنا إلى وقائع وحوادث من التاريخ القريب والبعيد، ينقلها مرة من مشاهداته الشخصية حيث عاش في العراق وإيران وزار الشام، وثانية من مشاهدات الكرباسي نفسه وثالثة من مرويات التاريخ، وهو في كل مرة يضعنا على تفاصيل حادثة هنا وواقعة هناك شكلت بمجموعها مجرى التاريخ الحديث حيث نشأة العهد الملكي في العراق ونشأة العهد الشاهنشاهي في إيران، وقيام العهد الجمهوري في العراق وتقلباته وتعدد انقلاباته ونشأة الجمهورية الاسلامية في إيران، وما أحاط بالمنطقة من مؤامرات خارجية وداخلية عملت وتعمل على تمزيق العالم الإسلامي إلى أوصال ودويلات ونهب الأموال والخيرات.

وفي المجال العلمي، فإن المذكرات تضعنا على تاريخ النهضة العلمية في الحواضر الإسلامية الكبرى وبخاصة تلك التي نشأ فيها المحقق الكرباسي دارساً ومدرساً، وهي معلومات بعضها تفصيلية لا يعلمها الا القليل، وهي تفاصيل وبخاصة عن الحاضرة العلمية في كربلاء المقدسة سيجدها القارئ في مذكرات الفقيه الكرباسي نفسه، التي حبسها عن النشر إلى أجل غير معلوم، فضلا عن أرجوزة في أكثر من ألفي بيت يتابع فيها الأديب الكرباسي حياته مُعرِّجاً على تفاصيل الحواضر العلمية التي تنقَّل بين أروقتها حتى صار يُشار إليه بالبنان.

اختار المؤلف في تتبع مسيرة المحقق الكرباسي أهم المحطات، وهو في رحلة الانتقال من محطة العراق إلى محطة إيران ومحطة الشام التي لها علاقة مباشرة بالمحطة الثانية، دون الخوض في تفاصيل الأيام والسنين، ولهذا جاءت عناوين المذكرات متسلسلة انطلاقاً من: (البداية) من كربلاء المقدسة نحو (الحدود الإيرانية) في (قصر شيرين) ومنها إلى (كرمانشاه) ثم (طهران) والسكن في (بيت شاهبور) حيث التقى صاحب المذكرات في هذا المنزل الواقع في ميدان شاهبور وسط طهران بعدد من المراجع والشخصيات العلمية من قبيل آية الله العظمى السيد أحمد الخونساري، وزعيم حزب الجمهورية الاسلامية فيما بعد آية الله السيد محمد البهشتي، وغيرهما.

وما هي الا فترة قصيرة ويأخذ المحقق الكرباسي طريقه إلى (مدرسة مروي) وفيها قام بتدريس السطوح العالية. ولأنه كان على علاقة مباشرة بقادة الثورة الاسلامية خلال شبابه في العراق ووجود زعيمها في النجف الأشرف وحضور الدرس على يديه، فإنَّ المحطة الثانية في إيران لم تخل من مشاكل أمنية يسجل الصالحي في المذكرات بعضها تحت عنوان (مع الدوائر الأمنية) لأن الشيخ الكرباسي: (كان يتحرك في ظلِّ والده قدس الله سرّه وعدد من أعلام هذه المدينة –كربلاء المقدسة- الذين رفعوا راية النضال ضد الحكم الاستبدادي الظالم الذي كان قائماً في إيران آنذاك)، وتاريخه النضالي السابق إلى جانب قادة الثورة الاسلامية في إيران، لم يثنه عن ممارسة دوره العلمي والمعرفي في إيران فكان من (نشاطه في طهران) كما يشير الصالحي أن: (واصل في طهران تحركه العلمي فقضى معظم وقته بين حضور دروس أعلامها، والتدريس والبحث وتوطيد العلاقات الاجتماعية، بل وشبه السياسية مع العلماء المعارضين للنظام).

 وبعد أشهر من العمل والتدريس في طهران تحصل (الهجرة إلى قم) وممارسة دوره من خلال حوزتها العامرة ليلتحق في (حلقات الدرس) عند مراجع التقليد الكبار السيد محمد رضا الگلبایگاني والسيد محمد كاظم الشريعتمداري والشيخ كاظم التبريزي والشيخ هاشم الآملي والشيخ كاظم الحائري والشيخ محمد حسين الكرباسي، وإلى جانب هذا لم ينقطع عن (التدريس) إذ: (بدأ بتدريس السطوح العالية، المكاسب والرسائل للشيخ الأنصاري في إحدى زوايا أواوين صحن السيدة فاطمة المعصومة(ع)، وحضره في الغالب عدد من الطلاب العرب المهجرين لحاجتهم إلى مواصلة دراستهم باللغة العربية التي كانت آنذاك قليلة الإنتشار في قم)، وخلال نحو عام توطدت علاقاته (مع علماء قم)، ورأيه فيهم: (إن العلماء الذين حضرت عليهم مثلهم كمثل الأزهار والرياحين فإن كل واحد منهم له نكهة علمية خاصة وسلوك مميز في التدريس)، وأعلام قم يختلفون من حيث (الأساليب العلمية)، وفي هذه الفترة برز (الفكر السياسي) كما ظهرت في حوزة قم المقدسة المدرسة الوسطية بين المدرستين الأصولية والروائية.

وتبدأ الأنظار تتجه خارج إيران في (سفرة لبنان الاستطلاعية) واللقاء مع الشهيد السيد حسن الشيرازي في بيروت، وتمخض عن لقاء بيروت (فكرة الهجرة) وحضرت معها (الحيرة) في ترك الأب والأم، ونيل (رضا الوالدين) وبعدهما (مع حرمه)، وصار العزم على الهجرة بخاصة (بعد أن تزايدت المضايقات) من السلطات الإيرانية بسبب دوره القديم والجديد وعلاقته الطيبة مع قادة الثورة الاسلامية، وهكذا أعدَّ العدَّةَ و(الاستعداد للهجرة) من إيران إلى تركيا ثم سوريا ولبنان، فكان لابد من (الوداع والهجرة) والاستقرار في بيروت، وقد تحين الفرص من أجل (زيارات خاطفة) إلى إيران، ولم تخل الزيارات على قلتها من (ملاحقة الأمن) فرجع إلى لبنان، ولم يثنه هذا والثورة الإسلامية في أوجها من السفر إلى فرنسا مرتين و(لقاء باريس) في نوفل لو شاتو (Neauphle-le-Château) حيث: (نقل رسالة شفوية من الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد إلى الإمام الخميني، ومن الحركات السياسية الوطنية في بيروت سواء اللبنانية منها أو الفلسطينية) ومؤدى الرسالة: (إنتقال الامام الخميني- الذي كان ينوي العزوف عن باريس بعدما لم تمدد له السلطات الفرنسية فترة بقائه فيها- إلى دمشق أو بيروت). وعندما سقط نظام الشاه و(بُعيد الثورة) عاد الشيخ الكرباسي ليأخذ والده آية الله الشيخ محمد الكرباسي للعلاج في بيروت من مرض سرطان الدم، ولكن الوالد المعظم بعد عودته إلى إيران أُصيب بعارض قلبي حمله إلى بيروت مرة أخرى ولكن الأب وجد لا فائدة من العلاج فرجعا إلى قم وبعد أيام (نعي الوالد) في 5/6/1399هـ (1979م)، وأقيمت الفواتح في قم وطهران وإصفهان وآبادان وغيرها في داخل ايران والعراق ولبنان وسوريا، ولمقامه العلمي الكبير: (حضرها المراجع والأعلام وأوفد الإمام الخميني من طهران وفداً علمائيا للمشاركة في تشييعه وحضور مجلس التأبين كما حضره المراجع الآخرون).

ومرّ المؤرخ الصالحي على (مؤسسات المهجر) التي كان للمحقق الكرباسي الدور المباشر وغير المباشر في إقامتها في عدد من البلدان منها مؤسسة الوفاء والحوزة العلمية في السيدة زينب بدمشق، لكن الكرباسي يعود ثانية إلى (حمل الأمانة) وكانت هذه المرة جثمان السيد حسن الشيرازي الذي اغتيل في بيروت سنة 1980م وحمله إلى قم ليدفن داخل الحضرة الفاطمية.

ويعود الصالحي ليذكرنا بشخص الكرباسي و(نتاجه) المعرفي الذي توجّه بعد انتقاله من بيروت إلى لندن بدائرة المعارف الحسينية ثم ينهي سفره القيم بمقاطع من قصيدة من نظم الفقيه الكرباسي يتناول فيها مجريات المحطة الثانية، وهي قصيدة من منظومة في أكثر من خمسة آلاف بيت ضمها ديوان مخطوط بعنوان (مركب الألفين من شذا القرنين) يؤرخ المحقق الكرباسي لمسيرته شعراً بعد أن أرخها نثراً في مذكرات من مجلدات عدة.

 

مذكرات وذكريات تحكي قصة حواضر علمية وحوادث سياسية ورحلة معرفية، حمل ثقلها الكرباسي على ألواح ظهره سبعين عاما، أبان فيها المؤرخ الصالحي بعض أحمالها، تكشف للقاصي والداني علة التفاضل والتمايز بين بني البشر.