محنةُ آلفكر ألأنسانيّ – ألحلقة الثالثة
محنة الفكر في هذا الزّمن؛ هي آلمحنة آلكبرى للشعوب والأمّم؛ هي محنة الأنسانيّة عبر التأريخ, مذ هبط أبينا آدم(ع) على الأرض, لذلك فإنّ سعينا لعلاجها .. هي علاج محنة الأنسانيّة كلّها, بغضّ النظر عن الخصوصيات الفرعية الطبيعية من شعب لآخر أو أمة لأخرى و التي لا تخرج ولا تؤثر على السّياق الأنساني العام الذي يشترك فيه كرامة الجميع بنفس واحدة, و تلك كانت و ما زالت فلسفتي في الحياة بعد ما تحمّلت أعباء قضايا الفكر الكونيّ مبكراً يوم لم أكن محصّناً إلّا بحصن الله تعالى و ولايته التي أغنتني عن كلّ شيئ حتى الوالدين!

مع إني علمت مبكراً من أيّام صباي؛ بأنّ الفوارق الطبقيّة و الظلم و الأجحاف الواقع بحقّ المعذبيّن من قبل المترفيّن قضية معقدة و مترادفة نوع ما في حياة البشر, ولا يمكن أن تنتهي يومأً إلا في آخر الزمان .. على يد المنقذ و بإذن الله خارج المنظومة الفكرية البشرية ألمشوّهة و التي هي السبب في إيجاد الطبقية و البرجوازية و الدكتاتورية و كلّ المظالم الأخرى التي شهدناها و نشهدها اليوم في كل الأرضّ!

لذلك و بعد ما رأيت الظلم مخيمٌ على الشعوب و الأمم؛ رأيت من الأنسب جعل عنوان هذا البحث؛ (محنة الفكر الأنساني) بدل (محنة الفكر في العراق), خصوصاً بعد ما وجدتُ أنّ عقلاً (قومياًّ) للنّخاع خلال القرن الماضي قد إستخدم هذا العنوان بلا وعي إنساني للأسف مقوّضا بنفسٍ قوميّ للغاية أجحف معها بحقّ الفكر و نظريات المفكريين الأنسانيين, و أسفي ليس لسبقه و إختياره للأسم .. بل حين أطلعت على الكتاب؛ تأسفتُ كثيرأً, حتى على صرف أكثر من ساعة على قرائته, لانهُ كان إسماً على غير مسمىّ و تشويهاً للحقائق, و لعلّ الكاتب أو من كتب حولهم؛ أشار لمسائل جانبيّة كثيرة إلا ما يتعلق بآلفكر الأنسانيّ الأصيل و جذور المحنة في العراق و في كل العالم, و تلك علامة تُعبّر عن حقيقة شيوع الثقافة السّطحيّة السّائدة في بلادنا و التشويه الفكريّ و العقائديّ الذي إنتشر بسبب التربية و المقالات و الكتب التكرارية – التراكمية, التي أشرت لها في الحلقة الأولى و التي نتجت الخراب و الحراب و الدّمار و الفساد و الفقر و الأرهاب في أمتنا, لكون بلادنا هي المصدر و المُصدّر لأسس تلك الأفكار و الثقافة للعالم, منذ أن تأسست مدينة بابل (بابلون) كأوّل مدينة على سطح الأرض و كذلك قبائل الجّهل و القنص و البداوة في الحجاز و غيرها من المدن و الحضارات العريقة العديدة التي ظهرت في بلاد ما بين النهرين و شرقها في بلاد فارس جنوبها في مصر ثم اليونان شمالاً الهند, ثمّ تلتها في الهند و الصّين لتنتهي بعصرنا الحاضر المخيف .. الذي يتحكم به أسوء و أرذل خلق الله من قبل مجموعة صغيرة لا تتعدى ألـ (300) شخص تُسيطر على معظم موارد و منابع الأقتصاد في العالم عبر الحكومات و الأحزاب و المنظمات المنتشرة في كل بلدان العالم!

لذلك .. و كي يكون العنوان شاملاً و مناسباً لمتن البحث؛ فقد إخترت عنواناً أمثل و أدقّ يتناسب مع الفلسفة الكونية, ليكون آخر بحث حول الأنسان الكونيّ, وهو:
[محنة الفكر ألأنساني].

مشكلة المثقف (العراقيّ) كما (العربيّ) و حتى (العالميّ) تكاد تكون واحدة في خطوطها العامة, و هي: فقدانهم لبوصلة الفكر الأنسانيّ الكونيّ ألأصيل, و ترك أصل الوجود و المبادئ الكونية و التشبت بنظرياتٍ لم يجزم حتى مبتدعوها بكونها الأفضل على الأقل في المجال الأجتماعي!

و قد تفاقم الأمر أكثر حين دخل عالمنا اليوم (عصر ما بعد المعلومات)(1), كنتاج طبيعيّ لعدم معرفة الغاية من الخلق و الوجود و بآلذّات خلق الأنسان, و لعدم التفريق بين (الثقافة و العلم)؛ بين (الحضارة و المدنية)؛ بين (الفلسفة و العلم)؛ بين (المعرفة و الجّهل)؛ بين (الرّوح و الجّسد) بين (الفكر و آلتكنولوجيا) و هكذا (الكوانتوم), بل و الخلط فيما بينها, إحداها على حساب الآخر في مكوّن غير متجانس خصوصا بعد تشوه الدّين على يد رجال الدِّين أنفسهم, بينما كلّ مفردة من تلك المفردات كـ (النظام) أو (الحضارة) أو (الثقافة) و (الفلسفة) و (العلم) و (الرّوح) و (الجسد) يُمثل ركناً من أركان و عوالم هذا الوجود الذي لا نهاية له على ما يبدو, فكل منها على حدة تُمثّل مجموعة من المعالم و القيم و المبادئ و الأسس المنتقاة من روح الرّسالات السماوية و الأديان و التراث و المجتمع و نتاجات الفكر .. و بعد تأثير المنظومات الأجتماعية التي سادت كحكومات ترعى و تُنمي تفاصيل الحياة السياسية و الأقتصادية و العلمية و التربوية و الثقافية و الرّوحية لتحقيق أهداف معيّنة سلباً أو إيجاباً!

أمّا المَدنيّة, أيّ (العلم) (التكنولوجيا) فأنّها تُمثّل مُجمل ما حقّقه الأنسان من خلال البحث العلميّ – التكنولوجي – التّجربي ببعديه النفسي (الأنسانيّ) و آلآفاقي (الكونيّ) الذي يتجلّى و ينعكس على صحة و سلامة المجتمع من الناحية السّايكلوجية و البايلوجية و كذلك في الطبيعة, من خلال العمران و البناء و الشوارع و أنظمة المرور و قوانين البيئة و ما إلى ذلك من قوانين مدنية تّخص البعد (الكوني)!

جميع المؤلفات التي طبعت بهذا الشأن, إمّا أنها لخّصتْ الأتجاهين بإتجاه واحد, أو تطرفت في جانب على حساب الجانب الآخر, حتى إن الغرب و للأسف الشديد حاول خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي حذف الفلسفة و الأجتماعيات و الجانب الحضاريّ من مناهجها التربوية و الأكاديمية للتركيز فقط على الجانب المدنيّ, و كانت فرنسا التي تعتبر أوّل دولة رفعت راية الثورة و المدنية الحديثة بعد عصر النهضة(الرينوسانس), قد فرّطت بجانبٍ على حساب الجانب الآخر؛ و هي بطريقها اليوم و بعد مؤشرات عديدة لأستئصال الجوانب الأنسانية – الحضاريّة من مناهجها التعلمية و آلتركيز على الجوانب المدنيّة – التكنولوجية, بمعنى قتل الأنسان بغطاء التمدن كحلّ نهائي لأزماتها الأجتماعية – الأقتصادية المعقدة, تطبيقاً لنهج (نيتشه) و أتباعه من المعاصرين كفوكوياما الذين إعتبروا التمسك بالأداب و الأخلاق و القيم الأنسانيّة يمثل نهج الضعفاء و الفاشلين و لا أثر لها في سعادة و مستقبل الأنسان!

و رغم ملاحظة النتائج السلبية الكارثية و تفاقم الأوضاع الأجتماعية و الرّوحية والعائلية والتربوية بسبب هذا المنحى الخطير في معظم الدّول الغربية؛ إلّا أنّ الأنظمة الأجتماعية – ألسياسية – الأعلامية, و مناهج الاحزاب و المراكز التربوية ما زالت مصرّة على تنفيذ هذا النهج المتطرف, معتبرين ذلك ردّاً “سلبياً” على الأرهاب و التعصب الدّيني للجّماعات ألرّاديكاليّة المتطرفة التي حمّلوها كل المآثم, و هم أنفسهم في الحقيقة مَنْ أوجد هذا الأرهاب وآلجماعات الإرهابية, بحيث لم يعد هذا خافيا اليوم على الناس!

لذلك يجب – بل ليس أمامنا سوى الحرص على بناء العقل و القلب و الرّوح و الثقافة الأنسانية و إستحضار المكونات (الحضارية) التي تُعمّق الرحمة بنفس المستوى الذي نحرص فيه على التمدن و الأسس (التكنولوجية), لأن حدوث أيّ خلل في أحداها ستؤثر على الأخرى و تسبب خللاً جوهرياً فيها, لوجود تأثير متبادل بينهما, لأندماجهما في الكثير من التفاصيل!

إن الذي يحدث لو تمّ عزلهما عن بعض؛
أو تقوية أحداها على حساب الآخر؛
هو أنحلال و فساد المجتمع و الأمة!
فلو تمّ تقوية الجانب المدني(التكنولوجي) على حساب الجانب التربوي و الأخلاقي؛ فأنها ستدمر الوجود الأنساني و تحطم ذاته و تنهي ضميره و وجدانه لتبقيه جسداً مسلوب الكرامة و خاضعا للمنظمة الأقتصادية العالمية!

أما لو تمّ العكس؛ تقوية الجانب الأنساني – الحضاري على حساب الجانب ألمدني – التكنولوجي؛ فأنها ستسبب أيضا النفاق و الأتكالية و آلأنتهازية و الظلم من أجل التسلط على الآخرين بإستغلال الدّين و غيره, ممّا يُعمّق الفواصل الرّوحية و المعنوية بين القيادات و المراجع من جهة و بين عموم الناس الذين سيفقدون الحاجات الأساسية من وسائل الراحة و الغذاء و اللباس الكافي!

و كنتيجة طبيعة لفهم الدِّين في هذه الحالة (حالة فصل العلم عن الأخلاق)؛ فأنّ آلقيم الجاهلية و العشائرية و الخرافات و الشعودة, ستبرز بين الناس و تسبب في النهاية بروز رؤؤساء القبائل و الأحزاب و المشايخ و المراجع كنجوم إسطورية مقدسة لا بديل عنها,بل و يسهل إستغلالها من قبل المهيمنين على مقدرات الأقتصاد العالمي.

و من الجانب الآخر سيكون للعامل الأقتصادي الأثر الأكبر في تحديد قوة هذا الأتجاه, و هذا ما نلحظه اليوم بوضوح من خلال نهج (المنظمة الأقتصادية العالمية) التي أصبحت (دُولة للأغنياء بين الناس), و تأثيرها الكبير على البلاد و العباد في العالم, من خلال الشركات و البنوك و منابع الطاقة و السيطرة على الأراضي و الممتلكات الزراعية و الصناعية و الوسائل الأعلامية الكبرى, و آلتي مكّنتهم في الأرض, بحيث تتعامل بشكل و كأنّ عموم البشرية رعايا و قطعان من الأغنام أمامها, همّها علفها الذي يتحكمون بزراعته و مقداره و توزيعه وسعره, و لذلك بات كلّ شيئ عند الناس لأجل الحصول على هذا (العلف) لتُبقي أبدانهم متحركة تتنفس تحت ظلّ رحمة نجوم الأقتصاد و المضاربة في أسواق (وول ستريت) و (نسداق)!

إن (الوجاهة الأسطورية للأفراد) كانت و ما زالت هي الحالة الطاغية على الأوضاع الأجتماعيّة و السياسية و الأقتصادية و العسكرية كحكومة عليا و مرجعية عظمى بغضّ النظر عن أهدافها و إنسانيتها أو حيوانيتها ..

في البدء كانت (الوجاهة) محصورة بالمنسوبين إلى الآلهة, قبل و بعد (كلكامش) كأول إسطورة نجومية برزت في التأريخ حين سرق قصص الأنبياء و جعلها بإسمه و ربما مازالت بقاياهم موجودة هنا و هناك, ثم تلتها أنجم عديدة كحمورابي و نبوخذنصر و سرجون و فرعون و هامان و كورش، حتى تطورت و أصبحت لـ “العائلات” المنتقاة من قبل تلك الآلهة كما يقول الباحث أسامة عكنان!

ثمّ تطوّرت لتغدو الوجاهة (النجوميّة الأسطوريّة) التي يقوم عليها التغيير؛ نجوميّنة “أعراق” مُنِحت تمييزاً عنصرياً استعلائيا لسبب أو لآخر, ثم أخيراً (نجوميّة) المنظمة الأقتصادية العالمية, هذا في مقابل نهج إنساني كونيّ يناضل بقوة للتحرر من ربقة كل مواضيها البائسة و المتهالكة، لتغدو نجومية “أفكار” تُفسر الوجود، و تعيد إنتاج الواقع الموضوعي على أساس الفكر الكونيّ” الذي يحي القلوب.

الأنبياء و الفلاسفة وحدهم من حاول القفز بالوجاهة إلى مراتب (الأفكار) و (القيم) و (العدالة) منذ وقتٍ مُبكّر، إلّا أنّ أتباعهم لم يكونوا بمستوى دعواتهم و فلسفاتهم على الأغلب، و لم يتحرّروا من ربقة الوجاهات المقدّسة السّابقة على نجومية “الأفكار” .. هم من كانوا ينتكسون بأديان أنبيائهم و بأفكار فلاسفتهم، عبر تشويهها و تحريفها لمصالحهم ..

أما في المرجعية، و أما في الفهم، و أما في المرجعية و الفهم معاً، ليعودوا بها إلى نجومية “الأفراد” أو “العائلات” أو “الأعراق”، و هكذا يغدو الدِّين الذي دعا إليه النبي هو “النبي” ذاته أو (الوصي) ذاته، أو هو و “عائلة النبي” وحدها، أو هو و”أتباع ذلك الدين” فقط في أحسن الأحوال، و تغدو الفلسفة التي دعا إليها الفيلسوف، هي “الفيلسوف” ذاته، أو في أحسن الأحوال هي كيان عرقي تمترس خلف فلسفته و احتكرها لنفسه و لطلابه في أفضل الأحوال!

في زماننا الراهن و بعد شيوع (الديمقراطية) الغربية لذر الرّماد في عيون المساكين والفقراء كغطاء لتحقيق مآرب طبقة الوجهاء المستكبرين في (المنظمة الأقتصادية العالمية)، باتت تعمل كلّ المؤسسات الإعلامية، و مؤسسات الإنتاج الفني، و معظم مؤسسات التنشئة الاجتماعية بإتجاه هذا الهدف .. بدأت من الأسرة، مروراً بالمدرسة، و دار العبادة، انتهاء بالجامعة، و هي المؤسسات الأكثر تأثيرا في صياغة الذهن الإنساني؛ تعمل على الشّد بالأتجاه العكسي للتاريخ، إذ في الوقت الذي تنزع تقدميّة التاريخ الطبيعية إلى الدّفع باتجاه مبدأ نجوميّة “الأفكار”؛ فإنّ تلك المؤسسات تدفع باتجاه ترسيخ و هيمنة مبدأ نجومية “الأفراد المؤلَّهين”، أو نجومية “العائلات المنتقاة”، أو نجومية “الأعراق المميزة” أو “نجومية الأحزاب” في بوتقة واحدة تريد حصر المال و الأقتصاد لجعله تحت هيمنة (المنظمة الأقتصادية العالمية) التي تدير العالم بإجمعه!

لن نقفز إلى فضاءات الحضارة القادمة المختلفة و المخيفة عن كلّ ما سبق و التي يبدو أنها تؤكد على تركيز الأصالتين (الفردية) و (المجتمعية) .. لا لصالح المجتمع ألأنسانيّ ككل؛ بل لصالح الوجهاء، لذلك لن تتراجع مستويات الصراع التناحري و العنف الذي يشهده العالم، إلا عندما نعيد لحكومة و نجومية “الأفكار” و “القيم الأنسانية العليا” حتى “الآدمية” رونقها و مكانتها لتحكيم العدالة الأجتماعيّة التي وحدها تقضي على الأرهاب و الظلم و تحقيق سعادة الأنسان و خلوده كأوّل و أسمى هدف في هذا الوجود .. بدءاً بالدّنيا التي تعتبر ممّراً للآخرة للخلود في هذا الوجود، على حساب نجوميات “الأفراد” و”العائلات” و”الأعراق” و “الأحزاب” و “الديمقراطيات” المستهدفة التي تُحدّد و تُقلّص حرية و حركة و حقوق الأنسان و مبتغاهُ و سبب وجوده في هذه الدُّنيا!

لذلك .. أرى من الواجب – بإعتباري وارث آلفكر الأنسانيّ المُمْتد من آدم و إلى يومنا هذا – بيان جذور و فلسفة و روح رسالات الأنبياء و نظريّات الفلاسفة و المفكريين الكونيين و بسطها للنّاس الذين كرّمهم الله تعالى في هذا الوجود, لمعرفة الغاية و الهدف من الخلق وعلاقته بآلكرامة الأنسانية, بإسلوب علميّ رصين و واضح .. للوقوف على الحقيقة المذبوحة على أيدي طلاب الدّنيا من الأحزاب و الحكومات و المنظمات و الدّيمقراطيات المستهدفة التي كرّست العبوديّة و الأرهاب و الفساد و الفقر في مجتمعات العالم, و لا حول و لا قوة إلا بآلله العلي العظيم.
ألفيلسوف ألكونيّ
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع سلسلة المباحث الخاصة بعصرنا هذا بعنون: [عصر ما بعد العولمة].