محلة التوراة في قلب بغداد، إرث اليهود المنهوب بنايات آيلة للسقوط وقبر حاخام يتحول لمزار إسلامي
تتوسط العاصمة العراقية بغداد محلة تحوي تأريخاً مهماً للمدينة حيث سكنها أشهر شخصيات بغداد وأكبر جالية يهودية عراقية حتى منتصف القرن الماضي. التحقيق التالي يسلط الضوء على واقع تاريخ المكان وما تبقى منه كتراث مهمل.
المرور في منطقة “قنبر علي” وسط بغداد يحتم على المار خوض رحلة في عمق التأريخ القريب لهذه المنطقة التي كانت تعد قلب بغداد البهي حتى منتصف القرن الماضي قبل أن تعبث بها يد المنون وتطلق من قلوب سكانها وحوش الكره الكاسرة التي فرقت الجيران وأسست لأسوأ صفحة من صفحات بغداد التي ستتكرر بصيغة أخرى بعد نحو نصف قرن، ألا وهي صفحة “الفرهود” التي تعني السلب والنهب ولو أدى للقتل أو كما يسميها البعض بفرار اليهود (فر اليهود او فر يهود؛ فرهود) كما يرى بعض الباحثين العراقيين.
فقد هجم المئات من سكان بغداد على محلات اليهود العراقيين عام 1941 لينهبوا بالقوة كل ما خف أو ثقل حمله وغلا أو رخص ثمنه. بتحريض من حكومة رشيد عالي الكيلاني المؤقتة التي كنت توالي ألمانيا آنذاك وأطاحت بالوزارة واجبرت الوصي عبد الاله على الفرار، حيث كان للخطاب القومي والديني ضد اليهود أثره في هجوم الغوغاء على محلات اليهود والاعتداء عليهم ونهب ممتلكاتهم و قتل أعداد كبيرة منهم بينهم عدد من الأطفال الذين كانوا يلعبون قرب بيتوهم وهرع أهلهم للهرب داخل البيوت خوفا من هجمات الغوغاء. ولم تفلح تدخلات بعض جيران اليهود من المسلمين فقد وصل عدد القتلى نحو 850 قتيلاً من اليهود خلال يومين ودفن عدد كبير منهم في مقبرة جماعية ببغداد. ولم يعثر ذوو الأطفال على أحد منهم بين الأحياء يومئذ.ويرى الكثير من العراقيين أن تلك الهجمات لم تكن دون توجيه مسبق يحمل بعضهم حكومة رشيد عالي وضيفه الحاج أمين الحسيني مسؤوليتها ويحمل آخرون المنظمات اليهودية في العالم على تضخيمها واستخدامها كمحرض لهجرة اليهود العراقيين إلى إسرائيل.
ويشبه بعض المتابعين هجرة يهود العراق قبل أكثر من نصف قرن بهجرة مسيحييه اليوم ولنفس الأسباب وإن تغيرت وجوهها.

قنبر علي
أهالي محلة قنبر علي ينسبون تسمية المكان لخادم الإمام علي بن أبي طالب قنبر الذين يقولون أن قبره في أحد مساجدها. لكن غيرهم يرى أن القبر منسوب إلى رجل متأخر زمنا عرف بقنبر. حيث أشار الشيخ محمد صالح بن محمد سليم إلى أن القبر يعود لأبي طالب نصر بن علي الناقد الملقب بقنبر من رجال الخليفة المستضيء بالله.. أما الدكتور حميد هدو فقد ذكر أن قنبر هذا هو مولى الإمام علي الهادي بن محمد الجواد في القرن الثالث الهجري ودفن في مقبرة باب أبرز في هذا الجامع الذي عرف عند العامة بجامع قنبر علي وكنيته أبو طالب”.
وسكن قنبر علي الكثير من الشخصيات العراقية لعل أبرزهم الزعيم العراقي السابق عبد الكريم قاسم مؤسس جمهورية العراق الذي ولد في منطقة المهدية تحديداً. وعدد من الوزراء والسفراء.
كل ذلك يدل على قدم هذه المحلة التي تئن اليوم تحت مطرقة الإهمال القاسية. ولم ترحمها هجمة الحرب الطائفية التي عصفت بالعراق عامي 2006 و 2007 حيث شهدت تبادل القصف بمدافع الهاون من محلة الفضل المجاورة لها. وتسببت بتهديم عدد من شوارعها وبناياتها.

التوراة والفرهود
ولعل محلة التوراة في منطقة قنبر علي من أبرز المحلات التي تعرضت للفرهود وهجرها سكانها الأصليون بعد حملات ترهيب داخلية وخارجية أجبرتهم على الفرار للبصرة وإيران ثم لأوربا ولاحقا لإسرائيل. لكن معالم هذه المنطقة لما تزل تدل على يهوديتها برغم الإهمال الذي طال مبانيها و طمر بعضها فهي لا تزال وقفاً يهوديا وان تناوب السكن فيه عن طريق المساطحة (السكن لفترة معينة من الزمن) سكان آخرون أعطوا للمنطقة توجها أثنيا واحدا اليوم. لكن كل من تسأله عن أي بيت فيها يدلك على أصله اليهودي.
فمعبد اليهود في المنطقة لم يتبق منه إلا نصف جدار وأرض عبارة عن ساحة لوقوف السيارات أو رمي الأوساخ قائمة على أعمدة صخمة للمعبد الذي يقع قبالة المدرسة اليهودية التي كانت ملحقة به وهي لما تزل قائمة حتى اليوم تطوقها أذرع الإهمال من كل الجهات.

الشيخ إسحاق
وخلف المدرسة تكمن المأساة الحقيقية التي تدل على ازدواجية لأحد لها. فهنا يقع أكبر مكب لازبال المنطقة الذي يطوق مكاناً مقدسا يضم قبر شيخ إسحاق كما مدون على بابه الذي هو قبر حاخام يهودي بنفس الاسم. ويتبرك السكان به من خلال آثار الحناء على باب القبر الأخضر بين أنقاض الأزبال.
كان علينا أن نقفز على الجدار المهدم نصفه ونتجاوز جبال الأزبال لنصل لمكان القبر الذي هو عبارة عن ضريح تحيطه شموع قليلة وزهور بلاستيكية وضعها بعض الزوار المسلمين الذين هم على الأغلب من سكان الحي الذين لايكفون عن الحديث عن كرامات صحاب القبر شيخ اليهود اسحاق كما يسميه البعض. دون أن يزيلوا بعضاً من اكوام الاوساخ عن هذا المكان.
وحين سألنا امراة كانت تحدثنا عن سرعة استجابة الشيخ إسحاق لأي دعاء، عن سبب تركه وسط الازبال قالت إنها كثيرة وهو إمام يهودي. ومثلها قالت فتاة من جيران القبر كانت تتباهى أن الشيخ اسحاق منح اختها العاقر طفلا بعد أن دعته وتوسلت به. مبررة أن هذه الأوساخ هي من مخلفات المارة أو بعض السكان الذي يتكاسلون في إيصالها لمكان أبعد.
يقول أحد جيران المعبد والقبر إن أحد مقاولي البناء عام 1999 ادعى إن لديه إذنا ببناء عمارة قرب القرب والمعبد وقد هدم الكثير من الجدران بالإضافة إلى المرمر الذي كان في القبر ثم اختفى ليكتشفوا انه كاذب. وبقي المكان على حاله يزداد سوءاً وعلق أحد السكان أن محافظة بغداد تستطيع أن ترمم المكان وتجعله مزارا لليهود من العالم كما فعلت مصر. لكن الخطاب الطائفي الواحد يحول دون ذلك إضافة لرغبة بعض الساسة العراقيين بالسطو على المكان من خلال تركه يسير بخطى ثابته للدمار ليشتريه لاحقا ويبنى فوقه بنايات جديدة.
بعد مغادرة مرقد الشيخ أو الحاخام إسحاق نصل لسوق حنون الذي سمي نسبة لأبرز الباعة فيه اليهودي حنون الذي كان يبيع فيه البيض الدجاج. وهو اليوم سوق لبيع الخضار والفاكهة. وعلى جانبي الطريق تبرز سقوف محلات السوق القديمة وقد طمر نصفها أو أكثر وأغلبها مقفلة منذ عشرات السنين.
وعلى امتداد السوق تهزك مناظر البيوت وشناشيلها الآيلة للسقوط وهي تطل على الشارع الضيق تستغيث بالذكرى وقلوب المارة تشتكي هجرانها بعد أن كان يسكنها علية القوم من أهالي بغداد.

الراقصة ليلى
لم نعثر على معمر من أهالي المنطقة ليخبرنا عن ذكرياته مع المكان وسكانه الراحلين فمعظم من التقيناه من مواليد الخمسينيات أو ما بعدها. وتحوي ذاكرتهم ما وصل إليهم من سواهم من السكان أو العابرين.
الحاج أبو كرم أحد سكان المنطقة منذ عام 1952 يقول أن لا سلطة لأحد للاستيلاء على بيوت ومعابد اليهود هاهنا لأنها وقف لهم ولديهم محامون يستلمون مستحقات الإيجار رغم قلتها ويرسلونها لهم.
ويحدثنا أبو كرم عن إحدى أقدم سكان المحلة من اليهود التي توفيت عام 2003 وهي الراقصة اليهودية ليلى التي كانت ترقص في أبرز ملاهي العاصمة بغداد. وقد توفيت وهي عجوز وحيدة للغاية.

زائر غريب
قبل المغادرة لفتتنا بوابة منزل مهيبة تشير إلى أنها بنيت عام 1930 مع لوحة تزينها محفورة كرسم لقلعة أو للمكان نفسه مع كلمة ALLIANCE التي تشير للمكان، مازالت محتفظة بهيبتها. قال بعض السكان أن غريبا كبير السن جاء عام 2003 يحمل صورة بالأسود والأبيض فيها شاب يجلس وخلفه بوابة مهيبة هي ذات البوابة التي طلب أن يتم تصويره عندها، فغادر ولم يعد.
لعله أحد سكان البيت من يهود العراق الذين داعب حلم العودة بعضهم عام 2003 لكن يد الإرهاب والتطرف حالت دون ذلك و حالت دون عودة معظم العراقيين وهي لما تزل تمر هنا وهناك بين فترة أخرى في منطقة قنبر علي ومحلة التوراة وبقية مناطق بغداد مشيرة لسطوتها على المكان والناس.

عبد الرحمن الماجدي