حكمت البخاتي/مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث
لم يتأسس الالحاد الحديث وفق تصورات أو أفكار الالحاد القديم لدى الاغريق الذي كان منطلقه أفكار وتصورات فلسفية في الوجود، ونود الاشارة الى انه لم ترد قبل الاغريق اشارات الى الحاد أقدم، بينما ينطلق الالحاد الحديث من جملة عوامل تاريخية وسياسية ارتبطت بالتحولات نحو الحداثة ومغادرة أفكار وطقوس العالم المسيحي في ظل هيمنة الكنيسة القروسطية على مقدرات وتفاصيل الحياة الاجتماعية والسياسية في الغرب.
وهنا نؤشر احتضان ردة الفعل لفكرة الالحاد تجاه الممارسات اللاإنسانية الكنيسية، تلك الممارسات التي قادت الى ترويج افكار القدر والجبرية في ادارة الله للكون والحياة والانسان، مما دفعت بالمجتمعات المسيحية الى التخلي عن ذاتها وعن إمكاناتها وطاقاتها في العمل والابداع والحضارة، وبالتالي منحت الانسان حق إلقاء مسؤولية ما يتعرض له في الحياة من معاناة ومأساة وويلات التي كان يمتلأ بها تاريخه الاجتماعي والسياسي على الله – الخالق لكل شيء والفاعل لكل ظروف الحياة.
هكذا تتحمل أفكار الجبر والقدر التي صنعتها وغذتها مدارس دينية مسيحية واسلامية آثام الالحاد ومسؤولية التخلي عن فكرة الله. لقد تحول الانسان في ظل افكار وتقاليد وطقوس الكنيسة الى مخلوق ضعيف مسلوب الارادة والقدرة على التفكير والابداع او انتاج اشيائه الذاتية والموضوعية، وجدل الحداثة عموما في الحرية وحقوق الانسان بإزاء استلاب الكنيسة لهما وتحريره من افكار الجبرية والقدرية واحالته الى قوانين الحتمية – الطبيعية من خلال مبدأ ومفهوم العلوم الطبيعية التي راهنت الحداثة على اعادة الوعي بالذات للإنسان بواسطة هذه العلوم، ومن أجل أن يكون الإنسان هو الوعي الحقيقي للوجود لكن بصبغته المركزية في الوجود.
سعت الحداثة في العلوم الطبيعية عند بول هنري دولباك “1723 – 1789م” الى تأكيد إستنفاد فكرة الله أغراضها، بعد ان تم تفسير الكون والطبيعة وفق قوانين الميكانيكا وعلم الاحياء، وتبنى دولباك على اثرها مقولة استبعاد أي برهان على وجود الله وفق منطق العلوم الطبيعية، وهكذا بدأ يتأسس الالحاد او محاولة تأسيسه في فضاءات العلوم الطبيعية، وكان دولباك ملحدا متطرفا اعتبر نفسه العدو الشخصي للإله، وهو تعبير عن ردة فعل عاطفية تجاه الإله الكنسي الذي يؤسس للجبر والقدر في الحياة، ويبدو ذلك واضحا في اعتقاده ان من يؤمن بمذهب الالوهية فهو جبان.
هكذا يبدو الجبن او الضعف الذي تغرسه افكار الجبر والقدر في الانسان هي محفزة له على الالحاد، لكنه يريد ان يسعف موقفه بأدلة او مقولات العلوم الطبيعية، انها نوع من ايديولوجيا العلم التي تقصيها الذاتية عن الموضوعية، فالعلم يخبرك الحقائق كما هي، والعالم هو من يقوم بتوجيه هذه الحقائق باتجاه قناعاته باعتباره عالما، نفيا او تثبيتا لاسيما في العلوم الطبيعية، ولذلك نجد عالما ملحدا او عالما مؤمنا فالعبرة في القناعات الشخصية والذاتية لكل منهما.
العلوم الطبيعية واحتكار التفسير
لكن العالم القديم قبل اكتشافات العلوم الطبيعية الحديثة كان يتعامل بشكل واقعي مع احداث وكوائن الطبيعة، انه كان يعقد علاقة دالة بين النجوم والجغرافيا وعلاقة دالة وعالمة بين الشمس والفصول في ظاهرة المواسم، كان الرعي والزراعة هما المحفزان على تلك العلوم، ولم يكن العالم القديم يستحضر تلك التفسيرات الاسطورية في تعامله الواقعي مع الطبيعة رغم ايمانه الديني والنظري بها، ولذلك نشأت الحضارات الكبرى في ذلك العالم واستلهمت من خلال صلتها الفاعلة بالطبيعة مبادئ التأسيس الاولى للثقافة الانسانية، وهي ليست حكرا على منطق العلوم الطبيعية او على مكتشفات ومبتكرات الحداثة.
وهنا في قبالة العلم كان ليفي شتراوس يضع المنطق البري بإزائه لغرض التوكيد على عقلنة الاقوام البدائية التي تشكل انموذجا حيا ومعبرا عن تعامل العالم القديم مع الطبيعة، تلك الطبيعة التي في نظر دولباك ان الجهل بقوانينها هي التي تقود الى الايمان بفكرة الله، وهو يفسر الايمان بالله بانه تعبير عن الرعب العام ازاء كوارث الطبيعة، ومن هنا تبدو لديه اهمية العلوم الطبيعية في تفسير الطبيعة والكشف عن حقيقتها، لكن هذا الرعب لم يكن هو السائد بإزاء الطبيعة بل هو استثناء او احتمال متوقع، وهو ما تكشفه الجوانب التاريخية والانثروبولوجية في توقعات ونظريات وتعاملات الاقوام القديمة مع الطبيعة.
لقد عقدت تلك الاقوام بينها وبين الطبيعة علاقة روحانية–نبيلة، فكانت الطوطمية صورا من صور هذه العلاقة القرابية اتي كانت تثير الطمأنينة في نفوسهم وليس الرعب، لقد كان الرعب في عقيدة تلك الاقوام يتولد من الاساءة الى الطبيعة، ولذلك كان التابو لدى البدائيين نوع من التحريم لكل عمل يؤذي او يسيء الى الطبيعة، ولذلك لم يكن الرعب والخوف والجهل هو الذي يحيل الى الايمان بالغيب بل وفرة العيش في الطبيعة، وهي سمة الطبيعة الاولى والطمأنينة خلف الغابات والاحراش. وليس ادل على ذلك من عدم توفر الاسلحة الفتاكة عند الاقوام البدائية، وخشية الشرور التي تعكر عليهم صفو حياتهم هي عوامل كلها تحيل الى الايمان بالغيب، او الايمان باله متصور وفق ما تمليه عليهم صور ووقائع الطبيعة. لقد كانت قوة الكشوف العلمية ومبتكرات الفكر الانساني في التفسير والتبرير في عصر الحداثة توحي بقوة المنطلق الذي باشرته تلك الكشوفات والمبتكرات وهنا بالدرجة الاولى مبتكرات الفكر والمنطلق هنا هو العقل الذي اعادت اليه الحداثة صولجانه الذي ارادت ان يكون له ابديا.
ان التغول في صلاحيات العلوم الطبيعية، او حتى التغول في امتيازات الحداثة باعتبارها الكاشفة والمبتكرة للحقائق، يقود الى احتكار المعرفة الاحادية بالإنسان وبالكون والغاء كل التقويمات الاولى والتعريفية بالإنسان وبالطبيعة التي كانت سائدة في عالم ما قبل الحداثة، ولذلك توصم بالجهل وتفسر بعامل الخوف.
وفي أبدية ذلك الصولجان تكونت المعيارية المحتكرة للعقل وترتب عليها ازدراء وجهات النظر الاخرى وافكار وتصورات عالم ما قبل الحداثة واختزالها بمفهوم او تبريرات الجهل، لقد كان الايمان بالإله في العالم القديم تعبيرا مختصرا عن الجهل السائد فيما قبل الحداثة وطرائق الحداثة وذلك من وجهة نظرها المفترضة في ضرورة احتكار العلوم الطبيعية للتفسير، لكن المعيارية في تصويب تلك الحقيقة المفترضة غائبة بكليتها ولم تتكون معيارية علمية واضحة الملامح ومحددة الهوية في تقويم حقيقة الالحاد وارتباطه بالعلم والمنطق العلمي وفق العلوم الطبيعية، بل لم تتوثق معيارية أخرى واضحة وفق منطق العلوم الطبيعية في نفي الايمان، ماعدا بيانات تنشر احيانا اقرب الى ان تكون استطلاعات رأي في تحديد اعداد المؤمنين والملحدين من العلماء.
وقد اشارت دراسة في الولايات المتحدة الاميركية بعنوان “التعليم والالحاد”: الى نسبة 7% من العلماء الاميركيين المنتخبين في “الاكاديمية الوطنية للعلوم” كانوا مؤمنين ونسبة 20% كانوا لاأدريين ونسبة 73% كانوا ملحدين، لكن هذه الدراسة اشارت الى هذا الانخفاض في اعداد العلماء المؤمنين في السنوات الاخيرة عن اعدادهم في السنوت السابقة – (سيسيولوجيا الالحاد في العالم العربي، عبد الصمد الديالمي/مواقع الانترنت) -مما يؤشر طبيعة هذا التحول– الانخفاض بارتباطه ليس بالضرورة بالتطورات العلمية او الحقائق المكتشفة، انما بارتباطه بعوامل اخرى لم تفصح عنها هذه الدراسة او تبين اسباب تصاعد نسبة الالحاد بين هؤلاء العلماء، مما يدع المجال لتصورات عديدة واحتمالات متوقعة غير يقينية في تفسير ظاهرة الالحاد، وليس بالضرورة ايعازها او تفسيرها بالعلاقة بالعلوم الطبيعية او بالعلم بصورة مجملة، هذا مع ضرورة التنويه الى عدم الدقة واختفاء الموضوعية احيانا في ظاهر استطلاعات الرأي التي تقوم بها مؤسسات أوربية وأميركية لغرض الترويج او التأسيس لاتجاه او رأي عام في البلد، كما حدث في استطلاعات الرأي في اميركا حول فوز وخسارة ترامب–كلنتون، والتي جاءت النتائج بخلافها تماما.
ان السعي الى حيازة تأييد العلوم الطبيعية للإلحاد انما يدخل في حروب او نزاعات اعلامية وايديولوجية تمارسها جهات وأطراف لادينية تسعى الى الغاء او طرد فكرة الله من الحياة الحديثة وفق اجندات التفسير الضيقة لديها، وهي بذلك تعكس ذلك الجانب الايديولوجي في توظيفات العلم لصالح الايديولوجيا وإناطة احتكار التفسير للعلوم الطبيعية فيما هو خارج نطاق الطبيعة او خارج مجال تخصصها العلمي.
* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث