صليت البارحة لأول مرة، صلاة الجمعة بمسجد الرملية. وحين انتهى الإمام من الصلاة، قام شاب بصوت رقيق حزين، يطلب من المصلين مساعدته، ومساعدة أبناءه المرضى وزوجه المريضة. وقدّم نفسه على أنه سوري، يقطن بفندق المدينة، ولم يستطع دفع مستحقاته، ولا القيام بشؤون أهله وأبناءه. فقام الناس على الفور، وكل أعطاه حسب طاقته.

 

هذه الصورة، أمست تتكرر باستمرار، عبر مساجد الوطن، ترتفع في المناسبات الدينية، كشهر رمضان والأعياد، وتنخفض حدّتها في غير هذه المناسبات.

 

عرب الجاهلية، كانوا يتّجهون في إحدى رحلتي الشتاء والصيف إلى الشام، لما تحتويه من أمن وسلام، ووفرة في الأكل والشرب، وتجارة رابحة، وطبيعة خلاّبة تسرُّ الناظر وتُريح البدن، ورقّة في التعامل، وحسن ضيافة.

واستمرت الشام على هذا العلو والنقاء، فانتقل إليها حماة الحضارة، فبنوا فيها وبها الحضارة الأموية، التي سادت العالم ردحا من الزمن، بعلمائها وفقهاءها وكتبها وانجازاتها.

 

واليوم، يموت أهل الشام في سورية جوعا، وتُلتقط لهم الصور وهم يبحثون عن مايقتاتونه من حشائش وحشرات، بصدور مكشوفة العظام، ذاب شحمها، وغاب لحمها. وأطفال يصيحون بما تبقى لهم من صوت، نحن جوعى. وموت يحيط بهم من الأرض والسماء..

 

 براميل تفجّر الحجر والشجر، وقنابل تفتّت الإنسان والبنيان، وصور مرعبة مفزعة عن أعناق تتطاير، وأكباد تُأكل، وأعراض تُباع وتشترى، وقتل على المباشر وبالمجان، وسرقة لقوت أطفال، وخبز أرامل، ومصانع تُفكّك، ومآذن تنسف.

 

بلغ الجوع مبلغه بأهل الشام، حتّى أن مفاوضات جنيف، نصّت في بعض بنودها على إدخال المساعدات الإنسانية، من أكل وشرب ودواء وأغطية، للجوعى المحاصرين داخل المخيمات، وبين الأزقة من طرف هذا وذاك.

 

تعلّم المرء منذ الصغر، أن ارحموا عزيزا ذلّ. واليوم بعد الكبر، حق للمرء أن ينادي بأعلى صوته، أوقفوا من كان سببا في جوع أهل الشام دون استثناء، وجعل أغنى حضارة تتسوّل على أبواب فقراء الأمس، وترجوا عطفهم، وتنتظر صدقاتهم.