ماجد عبدالله : يكتب
“قالت للرئيس مرسي: نحن نقبل أن تبقى رئيساً من دون سلطات! فرد عليها: على رقبتي! فخرجت من عنده وقالت لمساعدي الرئيس: أنا موجودة في السفارة، فمتى ما اعتقلوكم ووضعوكم في السجون وأردتم مني خدمة فأنا على أتم الاستعداد لتقديمها لكم”!
حادثة ذكرها العضو الإخواني محمد البلتاجي عن سفيرة أمريكا في مصر (آن باترسون) في اللحظات الأخيرة التي سبقت الانقلاب، وهي تختصر بدقة وتشير إلى حقيقة من يتحكم بالدولة المصرية وسياستها، خاصة في الثلاثين سنة الأخيرة .. ولكن قبل الحديث عن ظروف الانقلاب ومسبباته أود تقديم صورة لهيكلية الدولة المصرية التي بناها الهالك عبدالناصر كي يتصور القارئ الوضع الذي واجهه مرسي خلال فترة حكمه الأولى والتي امتدت سنة واحدة فقط ..
كانت ولا تزال “مصر” درة تاج المستعمر الصليبي منذ قرون، ولن يتخلى عنها بسهولة، فهي رافعة العرب والمسلمين، وعمودهم الفقري، ولذا سعى في تدميرها قيمياً وثقافياً وإبعادها عن دينها من خلال التغريب والغزو الفكري الذي استمر لعقود – قامت ثورة 25 يناير ومكثت 18 يوماً وهي تبذل كل ما استطاعت بذله، حتى شعرت الدولة العميقة والجيش الذي يحميها أن الثورة ماضية في طريقها، ولكي يوقفها ويقطف ثمرتها تم الاتفاق على التخلص من رأس الدولة العميقة وبعض رجالها، فتم التواطؤ فيما بينهم في سبيل تحقيق ذلك حتى أعلن أحد رجال الدولة العميقة (عمرو سليمان) تنحية مبارك وتسليم السلطة للجيش من خلال مجلس عسكري يديره وزير الدفاع وقيادات الجيش!.
– لا أريد الإسهاب فيما جرى بعد ذلك وأكتفي بتصريح الإخوان: بأنه لا نية لهم في الترشح للرئاسة وأنهم سيقتصرون على البرلمان والشورى لمعرفتهم بوضع الدولة العميقة وعلاقتها بالجيش وأنه لن يتمكن أي رئيس من إدارة الدولة إلا بالتواطؤ مع الدولة العميقة والتنازل عن المبادئ والسلطات!
وكان خيارهم التصويت لأحد المقربين لهم (أبو الفتوح أو حازم أبو إسماعيل) ومن ثم التفرغ للتشريعات التي ستُحيّد الدولة العميقة وتفككها وتمنعها من التحكم بمفاصل الدولة.
– أثناء الترشح للرئاسة تفاجأ الإخوان بقيام الدولة العميقة بترشيح أثنان من رجالها (أحمد شفيق وعمر سليمان) وبالتالي ستسخر لهما كل قدرات الدولة العميقة لإيصال أحدهم للرئاسة! وبما أن جميع المرشحين الآخرين ليس لديهم القدرة التنظيمية والجماهيرية في منافستهم فقد اضطر الإخوان لترشيح الشاطر ومن ثم محمد مرسي لقطع الطريق على الدولة العميقة من إيصال أحد رجالها ورموزها إلى قيادة رأسها (الرئاسة) وبالتالي وأد الثورة في مهدها!
– صدقت توقعات الإخوان وانتقل محمد مرسي وشفيق للمرحلة الثانية من انتخابات الرئاسة، وتم تسخير كل طاقات الدولة العميقة لإنجاح أحمد شفيق من خلال التزوير الناعم (الرشاوي وغسل العقول) خلال مرحلة التصويت، وبينما العالم كان يترقب إعلان النتائج تم تأجيلها على أمل التزوير المعتاد من لجنة الانتخابات وإصدار بعض الأحكام لإلغاء مجموعة من الأصوات المؤيدة لمحمد مرسي إلا أن التحذيرات الدولية والخوف من انفجار ثورة أخرى تطيح بالدولة العميقة وتقتلعها من جذورها؛ اضطرت لتقبل فوز محمد مرسي العياط كأول رئيس منتخب لجمهورية مصر العربية في تاريخها.
– وصل الرئيس محمد مرسي للرئاسة وهو على تصور شامل لوضع الدولة العميقة والجيش وبالتالي كان كل حرصه الاهتمام بالتشريعات كي يشل الدولة العميقة ويُحيدها من التحكم في مفاصل الدولة؛ فقام بإصدار قراره بإعادة المجلس التشريعي (البرلمان) الذي ألغته الدولة العميقة قبل وصوله من خلال أحد أدواتها (المحكمة الدستورية) بهدف منع الرئيس من التسلط عليها، فثارت ثائرتها حتى تمكنت من وأده من جديد.
– خلال عام كامل خاض الرئيس حربا ضروسا خفية مع الدولة العميقة، ولو لم يحصن الرئيس قراراته ومجلس الشورى والدستورية بإعلانه الدستوري لطالته يدها ونسفته! وهذا ما يفسر ردة فعلها العنيفة على إعلانه الدستوري التي امتدت لشهور! .. وهكذا استمرت الدولة العميقة في تفجير الكثير من القنابل في طريق الرئيس كي لا يتسنى له التفرغ لها والتفرغ لبناء الدولة واستخدمت في إعاقته وتشويهه جميع أدواتها في الوزارات الخدمية والإعلام والقضاء والأمن والبلطجية بأنواعهم المختلفة، ورافق ذلك تنسيقا خارجيا دوليا وإقليميا.
– بعد صدور الدستور وحصانة مجلس الشورى من الحل أيقن الرئيس محمد مرسي أنه ما عاد بوسعه مواجهة الدولة العميقة بأدواتها المتغلغلة في الدولة إلا بثورة شعبية جديدة تدك معاقل الدولة العميقة ومن يقف ورائها، وتقتلعها من جذورها! .. وكانت وسيلته في ذلك وضعها في مواجهة الشعب مع يقينه بأن الجيش لن يصمت على ذلك وكانت هناك رسائل من حين لآخر تنبهه وأحيانا تهدده من الاقتراب منها، ولعل حديث مستشارة الرئيس باكينام الشرقاوي بأن إشارة الرئيس في خطابه عن إنجازات سنة عندما قال: “سنة كفاية” كانت رسالة موجهة للجيش وتهديداته المتكررة، وأن أحوال الدولة ما عادت تحتمل وجود رجالات الدولة العميقة يجولون ويفسدون دون حسيب أو رقيب، وأن لا بد من التحرك، وبالفعل اُعدت القرارات فحدث الانقلاب الذي خُطط له بعناية من خلال استخدام ادوات الدولة العميقة.
– الكثير يعتب على الرئيس ضعفه وحلمه! والحقيقة أنه ما كان بوسعه أن يعمل أفضل مما عمل ولذا أشار رئيس حزب الوسط (أبوالعلا ماضي) إلى ذلك وقال لو كان هناك رئيس آخر لمصر في هذه الفترة غير محمد مرسي لسُحِل في الشوارع! لمعرفته بحقيقة الوضع والصعوبة التي يواجهها من الجيش والدولة العميقة، وكذلك أشار الكاتب الصحفي فهمي هويدي إلى أن أي رئيس آخر لم يكن بوسعه أن يعمل أفضل مما عمل مرسي!.
– بعد نجاح مرسي في إثبات صدقه ونبله وحرصه ونظافة يده وسلامة اختياره ونجاحة في مشروع زيادة زراعة القمح وقراراته المتعلقة بالعدالة الاجتماعية وتدشينه لمشروع تطوير قناة السويس مع صمته وتنازله عن حقوقه ضد من تطاول عليه من حثالة بلطجية الإعلام والذي اكسبه تعاطفا كبيرا من شرائح متعددة من الشعب، شعر أنه قد حان الوقت لوضع الدولة العميقة والجيش في مواجهة مع الشعب من خلال اتخاذا قرارات مصيرية تقتلع جذور الدولة العميقة في الدولة، مع يقينه بأنه لن يتمكن من إصداراها بسبب تحرك الجيش لحمايتها! ولعلكم تلاحظون الجرأة العجيبة والثقة الرهيبة في هجوم الإعلاميين (مثل باسم يوسف وعكاشة) أو القضاة (مثل الزند) ليقينهم أنهم يأوون إلى ركن شديد!. وبالفعل تحرك الجيش ومنع الرئيس وخطط لانقلابه.
– مارس الجيش ضغوطا رهيبة على الرئيس محمد مرسي كي يكون خروجه من الرئاسة دستوريا وشرعيا بتنحيه واستقالته، لئلا يتورط الجيش في انقلاب غير دستوري تكون له تبعات مكلفة داخليا وخارجيا! فتمسك الرئيس بشرعيته وجابه تلك الضغوط بعصامية رهيبة حتى اضطر الجيش إلى انقلاب عسكري، خطط له من شهور بالتواطئ مع أقلية قبطية وبلطجية الدولة العميقة حتى جاءت اللحظة المحددة ليعلن انقلابه بمشاركة شكلية لبعض الشخصيات الدينية والسياسية.
رابعا: السؤال الذي يطرح نفسه: هل ينجح الانقلابيون في سيطرتهم على السلطة وتدخل “مصر” في دورة جديدة من الفساد ولعقود متتالية؟ أم ينجح الرئيس محمد مرسي في استعادة سلطته وعودته للرئاسة من خلال ثورة جديدة تقتلع جذور كلا الدولتين (العميقة والجيش)؟!
المعركة اليوم بين طرفين: أحدهما يرى أن لا شرعية إلا للقوة وآخر يرى أن لا قوة إلا للشرعية .. وكلاهما يرهنان على الزمن! الأول يستميت كي يبني له شرعية من قوته والآخر يجاهد ويكافح كي يوجد له قوة من شرعيته فمن يسبق؟!
الطرف الأول (الجيش) يجد صعوبة متنامية في اكتساب شرعية من الداخل، سيما وأن معظم من وقف معه في انقلابه هم من الفلول أو كارهي التيار الإسلامي إلا من القليل الذي لا يؤبه له! ولو نظرنا إلى من وقف بجانبه لوجدنا أن النسبة العظمى هم من (فلول الحزب الوطني والدولة العميقة والأقباط والعلمانيين والبلطجية) وهم مكرهون من عامة المجتمع، وعلى الصعيد الخارجي فلم يقف معه من الدول سوى الدول العربية الكارهة للتيار الإسلامي السياسي والتي كانت علاقتها في الأصل فاترة مع الرئيس محمد مرسي.
وبينما توقفت معظم الدول في الاعتراف بالانقلاب فقد شجبت دول أخرى وصرحت بأنها لن تتعامل مع الحكومة الجديدة غير الشرعية وأن تعاملها مقتصر مع الرئيس المنتخب!
ومما زاد المشهد ارتباكا أيضا تجميد عضوية مصر في الاتحاد الإفريقي لحين عودة الرئيس المنتخب! إنها معضلة بالنسبة للجيش لأن القوة تحتاج لشرعية متنامية تحفظها وإلا تلاشت بانقلاب داخلي أو ضعف تأييد!.
أما الطرف الثاني، فشرعيته ثابتة وقوته في الحشد ولذا سعى الجيش إلى حصاره من خلال إغلاق القنوات الفضائية المتعاطفة معه (17 قناة) وسجن قادته ومنعه من بث فعالياته في الميادين وتسليط الدولة العميقة بأمنها وبلطجيتها لترويع الناس من الحشد!.
خامساً: وقفات:
– شدة البلاء مؤشر على قرب الفرج، ومن رحم الألم يولد الأمل، وتجمع أعداء الإسلام كلهم ووقوفهم مع الدولة العميقة يشعر أن الله أراد أن يجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا ثم يمحقه بثورة شعبية تقتلع جذوره ولا تبقي شروره وما ذلك على الله بعزيز وهذا من مكر الله بالمجرمين كما قال سبحانه: {قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون}[النحل:16]
– من يتابع طريقة وصول الرئيس محمد مرسي للرئاسة ويتفكر في الألغام التي وضعت في طريقه وانفجرت في أعدائه والمكر الكبار الذي قام به الكثير لتوريطه وإفشال مشروعه وحتى الانقلاب عليه يوقن أن هذا لا يجري وفقاً للسنن الغالبة، ولا يمكن تفسيره إلا أنه تهيئة لمراحل أخرى عظمى!.
– استبشر الناس بوصول رئيس إسلامي دعم غزة، ووقف موقفا مشهودا من سوريا، واُعلن النفير للجهاد من أرضه لأول مرة في تاريخ العرب الحديث، لنتفاجأ من بعد ذلك أن جيش مصر قرر الانقلاب بسبب هذا الموقف بالذات! وسوريا لا زالت تشتكي وهي بأمس الحاجة لمن يدعمها من المسلمين دون تقديم تنازلات، مما يشيء إلى عودة قريبة ولكن ليس كرئيس وإنما كزعيم! .. والله سبحانه شكور يشكر من عبده وسعى في مرضاته وهو سبحانه لا يضيع أجر المحسنين!.
– تواطؤ أمم الأرض على الرئيس محمد مرسي مع انه يملك الشرعية التي طالما تشدق بها الغرب في وقوفه مع الطواغيت من أمثال بشار الأسد الذي قتل من شعبه ما يزيد على 100 الف ولا زال العالم يعتبره الحاكم الشرعي! لقد افتضح الجميع وما عاد بمقدورهم التخفي.
هناك الكثير من الدروس والعبر في قصة ثورة مصر والانقلاب عليها والتي ستنتهي عاجلا بمشيئة الله بعودة رئيسها الشرعي محمد مرسي العياط .. لعل الله ييسر كتابتها فيما بعد والله الموفق والحمد لله رب العالمين.