ماذا يريد العم سام هو عنوان لكتاب “نعوم تشومسكي” تطرق فيه للحديث عن أهداف ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية في العالم.
كان من الطبيعي بعد انهيار لإتحاد السوفييتي، وبعد أن تربعت الولايات المتحدة الأمريكية على عرش الهيمنة العالمية أن تعيد صياغة إستراتيجيتها بما يتوافق مع الوضع الجديد، فكما شهد العالم صياغة خارطة سياسية جديدة إثر انتهاء الحرب العالمية الأولى، تمثلت في تطبيق اتفاقيات “سايكس بيكو”، ووضع وعد “بلفور البريطاني” موضع التنفيذ تجسيدا للهيمنة البريطانية والفرنسية على منطقة الشرق الأوسط، وكما شهد العالم صياغة خارطة سياسية جديدة إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتراجع قوة ونفوذ كل من بريطانيا وفرنسا، تمثلت في الاعتراف بالثنائية القطبية، واعتمدت منطق الإزاحة للاستعمار التقليدي واستقلال كثير من الدول في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، فإن الإستراتيجية الجديدة ستنطلق من مسلمات عديدة أهمها تصميم الولايات المتحدة الأمريكية على التأكيد للعالم بأنه لم تعد هناك قوة عسكرية أو اقتصادية منافسة لها.
انفردت الولايات المتحدة الأمريكية بمكانة القوة العظمى، التي تمتلك مختلف عناصر القوة العسكرية والاقتصادية و التكنولوجية و الثقافية، بعد خروجها منتصرة من حربها الباردة مع الاتحاد السوفييتي.
و تحظى قارة آسيا باهتمام كبير ضمن الإستراتيجية الأمريكية، فحسب “هنري كيسنجر”، فإلقاء نظرة على الخريطة الجيواستراتجية لآسيا، يوضح أهمية و تعقيدات المنطقة، فهي تضم بلدا صناعيا متطورا مثل اليابان باقتصاد أكبر من اقتصاد أي بلد تاريخي في أوربا، وثلاثة دول قارية هي الهند والصين وروسيا، و بلدين قريبين من امتلاك الإمكانيات الاقتصادية والتكنولوجية للدول الصناعية والاقتصادية المتقدمة و هما كوريا الجنوبية و سنغافورة، وبلدين كبيرين هم الفلبين و أندونيسيا، اللذان يتألفان من آلاف الجزر و يتحكمان ببعض أهم الطرق البحرية، و تايلندا و بورما و هما بلدان قديمان تعداد سكانهما يقارب تعداد سكان فرنسا وإيطاليا، و كوريا الشمالية و هي دولة تعمل على تطوير أسلحة نووية وصواريخ طويلة المدى، و تنتشر أعداد كبيرة من السكان المسلمين في ماليزيا و أندونيسيا، وهما أكثر الشعوب الإسلامية عددا في العالم، وهناك فيتنام التي برهنت على صلابتها العسكرية ووطنيتها الجامحة في حروبها ضد فرنسا والولايات المتحدة والصين، و ضد جارتيها لاووس وكمبوديا، أين تتمتع بشيء من السيطرة1.
تكتسب دراسة العلاقات الأمريكية-الصينية أهمية خاصة في المرحلة الحالية، وهي التي ستقود المحصلة النهائية لتفاعلاتها إلى تشكيل معالم النظام العالمي في القرن الحادي والعشرين، و يرجع ذلك إلى الوزن النسبي الكبير لكل من الولايات المتحدة والصين من حيث عناصر القوة، و توافر الرغبة والإرادة السياسية لكليهما للقيام بدور عالمي، فالولايات المتحدة الأمريكية بوصفها القوة العظمى حتى الآن، تريد الاحتفاظ بهذا الموقع المتميز الذي تتمتع به بين سائر القوى الكبرى الأخرى في العالم إلى أطول مدى زمني ممكن، و الصين بثقلها الديموغرافي والسياسي و الاقتصادي و العسكري المتنامي باطراد، تسعى للوصول إلى مرتبة القوة العظمى القادرة على التأثير في حركة التفاعلات العالمية في القرن الحادي والعشرين.
ويقول “صامويل هنتغتن” أنه في الستينيات كانت الصين كحليف للاحاد السوفييتي، بعد ذلك حدثت القطيعة بينهما وأصبحت الصين قائدا للعالم الثالث، وبعدها شاركت الصين في لعبة توازن القوى بين القوى الكبرى آنذاك، تحالفت مع الولايات المتحدة الأمريكية في السبعينيات، ثم انتقلت ٳلى دور الموازن في الثمانينات، وبعدها اضطرت الصين ٳلى تغيير ٳستراتجيتها تماشيا مع الأوضاع الدولية الجديدة، حيث بدأت تركز على ثقافتها و حضارتها المفقودة وسعت لجعل نفسها القوة المهيمنة في أسيا2، و لعل من أهم من عبروا عن هذا “زبيغنيو بريجنسكي”، حيث عالج الصين ضمن قارة آسيا التي اعتبرها القارة الحاسمة فيما يتعلق بمحافظة الولايات المتحدة على وضعها المتفوق عالميا، إذ اعتبر”بريجنسكي” الصين من اللاعبين الجيواستراتيجيين، ومن ثم يمكنها تحدي الولايات المتحدة في منطقتها و العالم، و لم يكن الأمر مقصورا على التغير الذي لحق بالنظام الدولي وعلاقات القوى فيه، و إنما رافقه تطور نوعي في عدد من السياسات الصينية المحلية والإقليمية و الدولية، التي تتصل بقضايا ذات أهمية حيوية بالنسبة للسياسة الأمريكية، و بدت هذه السياسات في البرامج الصينية المتعلقة بتجارة الصواريخ والتكنولوجيا النووية، و برامج التحديث العسكري الصيني و مشترياتها من السلاح، ومنازعاتها الإقليمية في بحر الصين، ثم الفائض التجاري المتزايد مع الولايات المتحدة الأمريكية.
فصعود الصين هو الأعقد من بين كل التحديات التي تواجه الولايات المتحدة منذ أن أصبحت لاعبا رئيسيا في سياسات القوى الكبرى، فعلى عكس ألمانيا النازية أو الاتحاد السوفييتي، الصين لا تمتلك إيديولوجيا عالمية، و لا يبدو أن لها طموحات توسعية إقليمية، إنها نوع مختلف من القوى، فهي في كثير من الأحيان توظف القواعد الغربية، فنموها يتزايد بفضل اقتصاد السوق، و قد بدأت في الاندماج الفعلي في المؤسسات الدولية كالمنظمة العالمية للتجارة، و تلعب دورا بارزا في الأمم المتحدة، بالنسبة للبعض فهذه السياسة هي وسيلة تمويه تتبعها الصين لمنع الدول الأخرى من التخوف من صعودها، وبالنسبة للبعض الآخر فهي مؤشر إيجابي، و نتيجة لذلك يبقى عنصر الشك و اللايقين يحيط بالصعود الصيني3.
وفيما يخص الصعود الصيني وتأثيره على مصالح الولايات المتحدة الأمريكية ، تطرح الٳدارة الأمريكية مجموعة من الأسئلة أهمها:ٳذا أصبحت الصين قوة عظمى، هل تهدد المصالح الأمريكية if china becoming a great power,wil it threaten American in interests ?، هل يمكن تسيير هذه القوة العظمى الصاعدةcan its great power emergence be managed ?،هل ستكون الصين أكثر ديمقراطية (وٳلى أي حد يجب على الولايات المتحدة الأمريكية أن تقوم بترقية الديمقراطية في الصين)will china become more democratic(and how much should the united states do to promote democracy in china) ?، أما هنري كيسنجر (Henry Kissinger) يقول فيما يخص العلاقات الأمريكية-الصينية-السوفياتية سابقا خاصة من الناحية الجيوبوليتيكة وقضية التوازن بينهم “التوازن كان ٳسم للعبة، لم نكن نريد أن تنخرط الصين في مواجهة مع الاتحاد السوفييتي، لكننا موافقون على أن يتم كبح الطموحات الجيوبوليتكية للاتحاد السوفييتي، نحن نتفق على ضرورة ٳبطال وٳحباط الطموحات الجيوبوليتيكة، لكن كان لنا الحق في الانخراط في الصراع الايديولوجي”، ولهذا سعت الولايات المتحدة الأمريكية على تطوير العلاقات مع قوى أخرى كانت الصين أهمها في أسيا4، إن هذه الحالة من الغموض فيما يخص حقيقة الصعود الصيني وتأثيره على المصالح الأمريكية، أدى إلى تعدد الرؤى الإستراتيجية حول الشكل الذي ينبغي أن تكون عليه هذه العلاقة، و يمكن حصر هذه التصورات في ثلاث اتجاهات رئيسية، و هي:
-1 الاتجاه الصراعي: يرى أنصار هذا الاتجاه أن الصين الصاعدة سوف تتحول إلى قوة عدوانية، وستقود إلى زعزعة “استقرار” آسيا، و تحدي المصالح الأمريكية الحيوية فيها، و من ثم فالأمر يتطلب أن تقوم الولايات المتحدة بتعزيز تحالفها مع الدول المحيطة بالصين، و زيادة الانتشار العسكري الأمريكي في آسيا.
ويؤكد أنصار هذا الاتجاه على أن الصين ستسعى إلى تحقيق قائمة طويلة من الطموحات التوسعية السياسية على حساب الولايات المتحدة إقليميا و عالميا،و أن على الولايات المتحدة أن تبذل قصارى جهدها لإضعاف الصين و الحيلولة دون وصولها إلى مرتبة القوة العظمى.
-2 الاتجاه التعاوني: يعترف أصحاب هذا الاتجاه بالنمو المطرد للقوة الصينية، إلا أنهم يروا أن نوايا الصين ستظل مرنة، و أن التبني المسبق لفكرة أن الصين ستكون عدائية،من شأنه أن يجعل ذلك حقيقة فعلية، يقول “هنري كيسينجر”: “إذا ظللنا نتمسك بأن الصين هي عدونا القادم، فسوف نحولها بالفعل إلى عدو، و سوف يكون ذلك من صنع أيدينا”، و من ثم يرى أنصار هذا الاتجاه أن علاقة تعاونية مع الصين – يمكن القول بان جذور هذا الاتجاه يعود ٳلى التقاليد التي أرستها دبلوماسية “البنغ بونغ” التي بدأت عام 1972 زمن الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسن- ، سوف تحقق المصالح الاستراتجية الأمريكية في آسيا، كما أنها ستوفر الاستقرار الذي يمكن رجال الأعمال الأمريكيين من المشاركة في تحديث الاقتصاد الصيني الضخم.
-3 اتجاه الحل الوسط: و يقوم هذا الاتجاه على أساس أن الجدل حول الصراع والتعاون، يتجاهل إمكانية اتجاه وسط لهذه العلاقات، لذلك يلجأ هذا الاتجاه إلى الأخذ ببعض ما جاء في كلتا الاتجاهين السابقين.
فعلى الولايات المتحدة في تعاملها مع الصين، أن تراعي ذلك الإحساس الصيني بأنها دولة عظمى، وذلك من خلال الاعتراف بأهمية الصين و بضرورة مشاركتها في قضية الرقابة على التسلح، والاعتراف بدورها في نظام مراقبة تقنيات الصواريخ (و هي اتفاقية وقعتها 28 دولة لمراقبة التقنيات الخاصة بمكونات الصواريخ، و قد انضمت روسيا إليها، و لكن الصين رفضت الانضمام، مفضلة مراقبة القواعد التي يعمل هذا النظام من خلالها)، و لكن على الولايات المتحدة مقابل هذا أن توضح للصين في حالة سعيها لاستعادة تايوان بالقوة مثلا، بأنها ستجابه باستراتيجية رادعة، تقوم أساسا على احتواء النفوذ الصيني، و عرقلة انضمام الصين للمؤسسات الاقتصادية الدولية و غيرها5، و تمثل هذه الاتجاهات الثلاثة الإطار الذي يحدد استراتيجية تعامل مختلف الإدارات الأمريكية مع الصين، والتي تراوحت بين التعامل معها كشريك تارة و كمنافس ٳستراتيجي تارة أخرى في جميع الأقاليم التي تشهد تقاطعا للمصالح الأمريكية و الصينية، و من بينها النظام الإقليمي لقارة أسيا.
ففي هذا النظام الإقليمي الذي تسعى الصين للهيمنة عليه و مد نفوذها، تمتلك الولايات المتحدة مصالح حيوية، و تتمتع بعلاقات إستراتيجية مع معظم دوله خاصة مع الهند و باكستان، كما تحاول الولايات المتحدة استغلال هذه العلاقات لتقليص فاعلية الدور الصيني هناك، و محاصرة النفوذ المتزايد لها، وذلك في إطار الإستراتيجية الأمريكية العالمية، الهادفة إلى منع الصين من البروز كقطب منافس للولايات المتحدة على المستويين الإقليمي و العالمي.
و على الرغم مما تمتلكه الولايات المتحدة من نفوذ في آسيا، بفضل تواجدها العسكري في أفغانستان واليابان ومنطقة الخليج العربي، و وصول علاقاتها مع الهند و باكستان إلى مستويات عليا، غير أن ذلك لا يعني أن الإستراتيجية الأمريكية للتغلغل في آسيا، و إضعاف الدور الصيني هناك و محاولة جعل المنطقة الأسيوية كقفل استراتيجي لمواجهة أي مشروع صيني أو روسي للتوسع في المنطقة ومحاولة السيطرة على أهم منطقة في رقعة الشطرنج الكبرى التي تحدث عنها “زبيغينيو بريجنسكي”، تسير بنجاح و من دون وجود عقبات، بل أنها تواجه تحديات معقدة، تنبع من تعقد و ديناميكية تفاعلات النظام الإقليمي لآسيا.
الهوامش:
1- كيسنجر هنري، هل تحتاج أمريكا إلى سياسة خارجية؟ نحو دبلوماسية للقرن الحادي والعشرين، ترجمة: عمر الأيوبي.(بيروت: دار الكتاب العربي، الطبعة الثانية 2003).ص.106-107.
2- Samuel P. Huntington, el choque de civilizacciones y la reconfiguración del orden mundial, Traducción: José Pedro Tosaus Abadíal (Buenos aires: Impreso en Verlap S.A., 2001).p.162.
3- Francis Fukyama and G. John Ikenberry, The Princeton project on national security: report of the “working group on grand strategic choices , (Princeton University, September 2005). p.15.
4- Klaus Dodds, geopolitics a very short introduction,( Great Britain: Oxford University Press,2007).pp.38-39.pdf.
5- وليد سليم عبد الحي، المكانة المستقبلية للصين في النظام الدولي 1978-2010،(أبو ظبي،.مركز الإمارات للدراسات و البحوث الإستراتجية ،2000).ص. 152.
*جامعي.