تشكل الجامعات العالمية العريقة أحد أهم مصادر المعرفة والانتاج الفكري عبر ممارسة البحوث الأصيلة والمرتبطة بالمشكلات الاجتماعية بمختلف المجالات, الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية والسياسية, الى جانب المشكلات ذات الطابع العلمي الصرف, بهدف الوصول الى الحلول الممكنة لها, عبر ممارسة المنهج العلمي وخطواته المعروفة في حل المشكلات. كما تشكل تلك الجامعات وكادرها العلمي أحد روافد عملية النقد والتقويم لمختلف الاحداث والمنعطفات والازمات الكبرى التي تمر بها تلك البلدان, بهدف ايجاد الحلول لها والمساهمة في بلورة رأي علمي يتمتع بمصداقية كافية يسهم ببلورة رأي عام في القضايا المصيرية. ومن نافلة القول أن ثورات كبرى حصلت في التاريخ كانت نتاج الفكر الجامعي وتطلعاته نحو الحرية والديمقراطية والاستقلال, وكان الطلبة فيها خير قوة محركة لمسار الأحداث !!!. 

 

في العراق ” وإن كان ليس إستثناء عن البلاد العربية وبلدان العالم المتخلف ” فأن دكناتورية نظام البعث السابق إستطاعت أن تروض الاستاذ الجامعي لخدمة النظام ومستلزمات بقائه عبر بث سموم الفكر القومي الشوفيني والمعادي للانسانية وللمكونات الاجتماعية والاثنية للمجتمع من خلال تربية الطلبة واعدادهم للانتماء للفكر الشوفيني المتحجر وتعطيل القوى العقلية والفكرية للطلبة. وقد ساهم ذلك على مستوى الطالب والاستاذ في تعطيل نشأة فكر نقدي في أروقة الجامعات, مما ساد مزاج عام للمصالحة مع قيم التخلف والاستبداد والقمع وتكريس قيم الولاء للدكتاتورية والفاشية والبعث !!!.

 

وقد أنقسم الاساتذة الجامعيين بين موال مطلق لفكر النظام وممارساته ومدافع عنه وحتى منتسبا لقواه المخابراتية والقمعية, وبين مستسلم للاكراه على الانتماء للحزب الحاكم, مختزلا دوره في تأدية المهمات التقليدية ذات الطابع التدريسي في معظمها, وأعمال البحث العلمي التي لا تتجاوز الاهداف العامة المرسومة من قبل السياسات الرسمية في المؤسسة. ويكفي أن نشير هنا الى أغلب “الاعمال البحثية والاطروحات العلمية ” للحصول على الدرجات العلمية المختلفة, من ماجستير ودكتواره وخاصة في العلوم الانسانية كانت تكرس موضوعاتها الاساسية لخدمة النظام وفكره وبقائه وتمارس الدجل بواجهات البحث العلمي, الى جانب الاصدارت الكثيرة واالمقررات الدراسية التي تشير في صفحاتها الاولى الى فكر القائد وفضله وقدراته الخارقة, والى محتواها الذي لا يفارق الثناء للقائد عندما تسنح الفرصة لذلك. وقد انتج ذلك اجيالا من الطلبة والطلبة ـ الاساتذة لاحقا, من ضعاف القدرات العقلية والعلمية !!!.

 

لقد تراوحت معظم أعمال الاساتذة بين العبث والترف الفكري والبحث عن الشهرة بشكل مشوه والبحث والمساهمة في مؤتمرات وندوات داخلية وخارجية, أقل ما يقال عنها إنها ضعيفة الصلة بمشكلات المجتمع المحلي, وذات صفة استعراضية ذات جدوى محدود جدا. كما تحول هاجس الترقيات العلمية الشكلية الى أحدى مستنقعات المافيا والوساطات والعلاقة الشخصية الرديئة التي لا تليق بمكانة الاستاذ الجامعي ومكانته. وعلى خلفية ذلك نشأ جيل من الاساتذة قد يستغرب المرء من سذاجة فكرهم العام وثقافتهم الشخصية, مما أخل بمبدأ تكامل الاعداد المطلوب للكادر الجامعي !!!. 

 

سقط نظام صدام حسين عام 2003 وأحل الامريكان بديل له نظام طائفي وشوفيني تمادى في زرع الخراب في مؤسسات وكوادر التعليم العالي, وقد أنتقل ولاء هذه المؤسسة وطاعتها العمياء من ” قائد الضرورة الأوحد ” الى قيادات ورموز لا حصر لها من طوائف الاسلام السياسي والاثني العرقي, وقد أختفت صورة ” قائد الشعب ” لتحل مكانها صور لا تعد ولا تحصى من الرموز الدينية والقيادات العشائرية والاثنية القومية. وقد أتسمت ابرز ملامح تدهور هذا القطاع وكادره بما يلي:

 

ـ التدهور الأمني المستمر لمؤسسات التعليم العالي وتدخل رجالات الأحزاب والمليشيات الطائفية في شؤون التعليم العالي مما يضع طرفي العملية التعليمية : الطالب ـ الأستاذ والعملية التعليمية برمتها في دوامة عدم الاستقرار والخوف من المستقبل¸مما يترك أثره الواضح في تسرب الطلاب وهجرهم لمقاعد الدراسة وهجرة الكادر التدريسي.

 

ـ الإجراءات التعسفية في إقالة أو إحالة الكادر التدريسي الجامعي ومن درجات علمية متقدمة ” أستاذ وأستاذ مساعد ” على التقاعد بذرائع ومبررات واهية, منها كبر السن أو بتهمة عدم الكفاءة, وهي إجراءات تنفذ في الخفاء بواجهات سياسية أو انتماءات طائفية, وتحرم هذه المؤسسات من خيرة كادرها المتمرس في التدريس والبحث العلمي.

 

ـ تدهور البنية التحتية اللازمة لتطوير التعليم العالي من مكتبات علمية ومختبرات وشبكة انترنيت ومصادر المعلومات المختلفة, وقد تعرض الكثير منها إلى الحرق والإتلاف الكامل والى التخريب والسرقات المقصودة لإفراغ الجامعات من محتواها المتمثل بالمراجع والكتب والأبحاث والمقررات الدراسية بمختلف التخصصات, وغلق أقساما للدراسات العليا بكاملها تحت ذريعة عدم توفر الكادر التدريسي اللازم لها .

 

ـ تدهور المستوى العلمي والتحصيلي للطلاب جراء تدهور الوضع الأمني والانقطاع عن الدراسة, أو النجاح بأي ثمن تحت وطأة تهديد الأستاذ الجامعي من قبل مليشيات الأحزاب السياسية ـ الطائفية وفرض معايير مشوه للتفوق الدراسي لا تعبر عن إمكانيات الطلاب الفعلية, بل تعبر عن أولويات الانتماء السياسي أو المذهبي أو الطائفي, وهي تذكرنا بممارسات التبعيث لفرض النتائج الدراسية وانتقاء الطلبة على أساس الولاء للحزب الحاكم.

 

ـ تغييب الكليات الإنسانية والتضييق على دورها المهم في الحياة الثقافية العامة عبر الحد وعرقلة أنشطتها المختلفة التي يفترض لها أن تسهم بإشاعة ونشر قيم التسامح والعدل والحق ومكافحة الإرهاب, وقد شهدت هذه الكليات حرق العديد من مكتباتها بالكامل, وعرقلة إصدار دورياتها الثقافية الشهرية أو الفصلية أو السنوية, وانعدام الأجهزة اللازمة لاستمرار عملها كأجهزة الاستنساخ والطباعة وغيرها, إضافة إلى محاصرة العديد من مبدعي وكتاب هذه الكليات ومنعهم من الظهور العلني للحديث عن نشاطاتهم ونتاجاتهم الثقافية والأدبية المختلفة.

 

ـ استشراء الفساد بمختلف مظاهرة الإدارية والمالية, من محسوبية ومنسوبيه وسرقة الأموال المخصصة لهذا القطاع وتزوير للشهادات والتلاعب بسجلات الدرجات من خلال ممارسة الضغط والابتزاز على إدارات الأقسام الدراسية و عمادة الكليات لمنح ضعاف التحصيل ما لا يستحقوه أو إضعاف المتفوقين دراسيا والعبث بدرجاتهم بدوافع الانتقام والثأر بواجهات مختلفة, سياسية ومذهبية وطائفية وغيرها.

 

ـ ضعف التنسيق بين الجامعات والكليات الأهلية من جهة وبين الجامعات والكليات الحكومية من جهة أخرى, حيث الإرباك في تكرار الاختصاصات المتشابهة في كلا الطرفين وعدم انتهاج مبدأ التكامل في التخصصات بين المؤسسات التعليمية العالية الحكومية منها والأهلية, الأمر الذي لا يخدم أغراض التنمية وسد الحاجة لمختلف التخصصات, وانعدام الهيكلة الإدارية التي تضمن بقاء التعليم الأهلي تحت إشراف فعلي وليست شكلي من قبل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي على تلك المؤسسات, مع احترام استقلاليتها الإدارية والمالية, بل يدخل التعليم الأهلي في أحيان كثيرة كمنافس للتعليم الحكومي و كمصدر لاستنزاف الكادر العلمي والتدريسي من المؤسسات الحكومية تحت وطأة المغريات المادية والمالية, وبالتالي فأن الكثير من خريجي الجامعات والكليات الأهلية مهددين بالبطالة وانعدام فرص العمل لاحقا بسبب من ضعف الحاجة لاختصاصاتهم, علاوة على ذلك نرى أن التوسع السريع في إنشاء مؤسسات التعليم العالي الأهلية والذي زاد عددها أكثر من ضعف مقارنة بعهد النظام السابق يثير تساؤلات كثيرة عن جدوى هذا التوسع والحاجة الفعلية له !!!.

 

ـ عدم السماح وعرقلة جهود المنظمات الدولية كالأمم المتحدة وأجهزتها المعنية بشؤون التعليم العالي على الإشراف والتأكد من ظروف عمل هذه المؤسسات بما يستجيب لشروط الجودة العالمية لهذه المؤسسات وحماية خريجها من عدم الاعتراف بالشهادة, وكذلك عرقلة جهود اللجنة الدولية للتضامن مع أساتذة الجامعات.

 

ـ في ظروف العراق الحالية والذي توقفت فيه التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الشاملة, تضعف فيه كنتيجة منطقية قدرة ودور الجامعات والمؤسسات البحثية في المجتمع وبالتالي تضعف روابط التعليم العالي ودوره الأساسي في التخطيط والاستجابة لظروف التنمية البشرية الشاملة وحاجتها الفعلية لمختلف القيادات والكوادر في مختلف التخصصات العلمية والأدبية والمهنية والتقنية وغيرها.

 

ـ تشير الكثير من المقابلات الميدانية التي أجريت مع أساتذة جامعات وقيادات أدارية وطلابية إلى أن الكثير من مؤسسات التعليم العالي تحولت إلى مؤسسات مصغرة للمساجد والحسينيات والجوامع, تجري فيها الشعائر والاحتفالات والطقوس الدينية على نسق ما يجري في المساجد والجوامع, وكأن لم يكفي الآلاف من المساجد والجوامع المنتشرة خارج الجامعات, حتى أن العديد من المختبرات العلمية تحولت إلى حسينيات لزمرة هذا الحزب السياسي الطائفي أو ذاك, ولكي تتحول بالتدريج إلى بؤر للفساد والاحتقان الطائفي والمذهبي وللتفرقة بين الطلاب, حيث تسيطر كل ميليشيا حزبية على إحدى الكليات ومرافقها داخل الجامعة, وانتشار صور المعممين في أروقة الكليات والجامعات والشعارات الدينية الطائفية الاستفزازية والعبث بمسميات هذه المؤسسات وتسميتها برموز قيادات أحزاب أو طوائف, انه امتهان للحرية الأكاديمية وتسييس للمؤسسات العلمية وزجها في الصراعات الدينية والمذهبية والطائفية .

 

ـ ضعف الإنفاق على التعليم العالي والبحث العلمي باعتباره دعامة أساسية لإعادة بناء بنيته التحتية وإقامة المشاريع البحثية والتعليمية المتقدمة, وبالتالي فأن أي نوايا للإصلاح دون توفير الأموال اللازمة هي نوايا باطلة وقد تعكس بنفس الوقت رؤى متخلفة للقيادات التربوية والتي ترى أن ما يصرف على التعليم هو من باب الاستهلاك الغير ضروري وليست الاستثمار طويل الأمد.

 

ـ ضعف وتدهور البحث العلمي وأصالته ومكانته في حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية, وضعف استقلالية الأستاذ الباحث الذي يتعرض إلى ضغوطات مختلفة لتوجيهه الوجهة التي يرغب فيها هذا الكيان السياسي أو ذاك, وأن اغلب ما يجري من أبحاث يعتمد على نظريات ومفاهيم مهجورة أو أنها تقادمت في ظل عصر تتغير فيه المعلومة يوميا, أو أنها هجنت بطريقة عجيبة نتيجة للقيود والضغوطات الرقابية والحزبية والطائفية, وهي تذكرنا بحقبة توظيف ” البحث العلمي ” لخدمة مصالح الحزب القائد وتمجيد قائد الضرورة.

 

ـ غياب إستراتيجية واضحة للبحث العلمي في ضوء احتياجات المجتمع المحلي لها, حيث أن المبادرة الفردية للباحث والأستاذ تلعب دورا كبيرا في تقرير ذلك, ومعظمها يجري لأغراض الترقية العلمية أو لأغراض المتعة العقلية الخالصة للبحث, ويجري ذلك في ظل انعدام صناديق متخصصة لدعم وتمويل البحوث, وضعف القاعدة المعلوماتية, وعدم وجود مراكز أو هيئات للتنسيق بين المؤسسات البحثية, وضعف الحرية الأكاديمية كتلك التي يتمتع بها الباحث في بلدان العالم الديمقراطي, وعدم تفهم أو انعدام دور القطاع الخاص ومشاركته في الأنشطة العلمية حيث لا يزال قطاعا متخلفا يركز على الربحية السريعة والسهلة ولا يعي حقيقة وأهمية البحث العلمي في تطويره.

 

تلك هي ظروف ساهمت في خلق مخرجات تعليمية ضعيفة تمثلت باعداد من الخريجين والدارسين الضعاف. كما ساهمت في خلق كادر تدريسي ومؤسسة تعليمية تعتبر أمتداد لمنظومة الفساد العامة, تقوم باعادة انتاج الفساد الفكري والثقافي على نطاق واسع, وقد أنتفى دور الجامعة المتقدم نسبيا على المجتمع, لتصبح جزء من الخراب الشامل, حيث يقوم الاستاذ الجامعي بأدوار عبر محاضراته المباشرة مع طلبته أو عبر حضوره في وسائل الاعلام المختلفة بأعادة أنتاج الخطاب الطائفي والديني والشوفيني المشوه, وممستميتا في الدفاع عن الاوضاع السائدة وعن استشراء الفساد, مستفيدا من بعض الامتيازات المادية والمالية المؤقتة. أنها سلوكيات انتهازية كانت تمارس في عهد النظام السابق ضمن سياسات التبعيث العامة وعسكرة الحياة, واليوم تعيد انتاج نفسها بواجهات التزييف الديني والخطاب الاسلاموي والاثني المريض !!!.

 

عندما نرى اليوم حجم الحراك المدني الاجتماعي المطالب بالاصلاح الشامل للعملية السياسية ومحاربة الفساد في مفاصل الدولة والمجتمع وما يستلزمه من جهد فكري لرسم ملامح التغير, وتحويل حالة الاحتجاج والتظاهر الى افعال تستند الى وعي موضوعي يفهم جوهر عمليات الصراع الدائرة وقوانينها الموضوعية, نرى حجم الغياب الضار لمؤسسات التعليم العالي وكادرها التدريسي ودوره في مسارات الحراك, والذي يكتفي في معظمه في التفرج على الاحداث الجارية وملقيا بنفسه في بعد عنها تحسبا لفقدان الامتيازات الهشة التي حصلوا عليها بعد سقوط نظام صدام الدكتاتوري !!!.

 

لقد تحرك الكادر التدريسي في مؤسسات التعليم العالي تحركا خجولا على خلفية تقليص رواتب الموظفين والتي لحقت بهم للتعبير عن حالة عدم الرضا في الحد من أمتيازتهم المالية وليست للانتفاض على سوء الاوضاع العامة, وقد عبرت عن ذلك شعارات فقيرة ومتواضعة, ولعل ما فيها كما ورد: رواتبنا خط أحمر, قطع الاعناق ولا قطع الارزاق, قف أنك تقتل أولادي وقرارك مجحف, السكوت على الظلم أقبح من الظلم نفسه, وغيرها من الشعارات الميدانية. انها شعارات بسيطة تم التعبير عنها في أولى موجات الحراك الشعبي, وكان على الاساتذة الجامعيين أن ينهلو بقدراتهم العقلية وتفردهم المعرفي لرفد الحراك الشعبي بمزيدا من زخم البقاء والاستمرار !!!.

 

حديثنا هذا لا يلغي هامش من المناورة وفسحة من الامل لدى العديد من الاساتذة الجامعيين وهم يبحثون عن عوامل البقاء والاستمرار الصحي لمسارات تأثيرهم الايجابي, وهم ينتقلون من جنوب العراق ووسطه بحثا عن فسحة من الحرية في شمال العراق أو خارجه, ولكنهم يصتدمون بعوامل الغربة والاغتراب وتدهور الاوضاع والاحساس بالهامشية ويصتدم بعوامل اللا استقرار في مجتمعات صغرى أو كبرى معبئة بمزيدا من عوامل الصراع والتدهور نحو الاسوء !!!.