هذه الترانيم وما يصاحبها من غوايات متنوعة عاطفية و وطنية، هي الرواية الثامنة للروائية الفلسطينية الأردنية “ليلى الأطرش” والصادرة حديثا (2014 ) عن “منشورات ضفاف” في بيروت. وكانت روايتها الأولى “وتشرق غربا” قد صدرت عام 1988 مما يعني قرابة ربع قرن مصاحبة للإبداع الروائي وما رافقه من قصص وأعمال أخرى كلها ذات علاقة بهوس الفن والأدب والإبداع المتميز. فما هو جديد “ترانيم الغواية” هذه التي تصدر في وقت حرج وشائك يلفّ مدينة القدس وشعبها وتاريخها، حيث هذا الثالوث (القدس، الشعب، التاريخ) هو السكّة التي يدور عليها قطار الرواية طوال 300 صفحة وعلى متنه العديد من الشخصيات، أغلبها تلتف بعباءة الترانيم الدينية أمام الجماهير، وفي السرّ تمارس غوايات متنوعة منها ما هو نتيجة رغبة ضمير وإنسانية رغم خوف ورعب خلفية الترانيم سواء كانت الكنيسة أم الجامع، ومنها ما هو نتيجة رغبة الجاه والمال حتى لو كان على حساب تفتيت نسيج المجتمع أو بيع أراض تاريخية له لغرباء أحسنوا التخطيط بدهاء وحنكة.
إعادة إحياء وبناء المدينة روائيا،
وهذا الإحياء والبناء مارسه أكثر من روائي فلسطيني خاصة كما أعتقد بعد أن طال الغياب عن تلك المدن التي تمّ اقتلاعهم منها، هذا الاقتلاع الذي يقترب من دخوله العقد السابع مصاحبا بتراجع الأمل في قرب الرجوع لتلك المدن، ولمّا كان لمدينة “القدس” مكانتها التاريخية والدينية التي تقترب من حد التقديس في الديانتين الإسلامية والمسيحية، لم يكن غريبا على من ولدت ونشأت في “بيت ساحور” قرب “بيت لحم” القريبتين من القدس أن تعيد بناء المدينة وصفحات من تاريخ شعبها، رغم ما في هذه الصفحات التي سطّرتها من ألم وغدر إلا انّها الحقيقة الموثقة سواءا أعاد بعضنا ذكرها أم تغاضى عنها. هذه الروائية البيت ساحورية ( ليلى الأطرش ) قراءتي مرتين لروايتها هذه، أعادت لذهني تأملا طالما فكّرت فيه كقارىء من خلال تداعيات متابعتي لكثير من كتابات نقاد الرواية العربية. هذا التأمل وتداعياته جعلتني ألاحظ مستويين من الكتابات النقدية:
الأول،كاتبه ناقد له أهميته النقدية والأكاديمية يكتب باحتراف مهني يتوجه به لنقاد في مستواه، لن يفهم أغلبه القارىء العادي المولع بقراءة الروايات، وهذا النوع من النقد مع أهميته للمتخصصين يغصّ بالمصطلحات والمفاهيم النقدية الأكاديمية عالية المستوى موردا العديد من الاستشهادات منقولة من كتب المتخصصين في نقد الرواية العرب والأجانب مما يجعل الكتابة النقدية هذه كأنهّا فصل من أطروحة أكاديمية لنيل درجة جامعية. وهذا المستوى من النقد الأكاديمي مهم للنقاد المتخصصين الذين هم قلّة في مواجهة قراء الرواية العاديين الذين هم الأكثرية وأكاد أجزّم أنّهم لن يفهموا غالبية هذا المستوى من الكتابات النقدية ، وما تضمنته من مصطلحات أكاديمية عالية وعميقة المستوى لا يدركّها إلا المتخصصون الذين هم قلّة إذا قورنوا بنسبة قراء الرواية بشكل عام.
الثاني، كاتبه ناقد متخصص يدرّك أنّ مهمة الناقد هي أن يكون جسرا بين الكاتب والقارىء أولا قبل أن يكون ناقدا للنصّ موجها نقده للكاتب سواء أكان سلبيا ام ايجابيا، وعندما يقتنع ويتبنى أنّ دوره الأساسي هو اقامة الجسر بين القارىء والكاتب يتركز نقده على تحليل النص الأدبي تحليلا جماليا يسبر أغوار ما قصد الروائي التعبير عنه روائيا كي يسهّل على القارىء العادي غير المتخصص فهم النص وكشف أعماقه التي قصدها المبدع وربما تغيب عن إدراك القارىء.
انطلاقا من هذا الفهم وكقارىء،
سأحاول تقديم رواية ” ترانيم الغواية ” لأمثالي من القراء وافقوني على فهمي لها أم خالفوني فلكل قارىء ذائقته الخاصة للنص الإبداعي….فماذا تقول… وماذا تقدّم هذه الترانيم من تاريخ وغوايات ومن خلال أية وسائل وطرق جمالية تتعلق بفن الرواية؟. تعتمد هذه الرواية في أساس بنائها ومعمارها الفني على ما عبّرت عنّه الكاتبة قائلة: (عاشقة الحكايا أنا، أمارس لعبة الخلق من سطور الآخرين..أتخيل شخصيات كما لا يراها أحد، أتقمصها ثم أترك لغيري أن يجسّدها برؤيتي)، ص 10 . أرى أنّ هذه الجملة هي المدخل لفهم البناء والمعمار الفني للرواية، فالكاتبة مخرجة الأفلام في الرواية تعشق الحكايا حقيقة كما يلاحظ قارىء الرواية، وتعطي هذه الحكايا معايشة واقعية على اعتبار أنّها حقيقة منقولة من دفاتر الآخرين أو اعتمادا على مراجع تاريخية ذكرتها الكاتبة في نهاية الرواية كمصدر من مصادر إلهامها الروائي مما يجعل قارىء التاريخ الفلسطيني خاصة تاريخ مدينة القدس قبل قيام دولة الإحتلال الإسرائيلي وبعدها، وصراع العائلات الفلسطينية على حساب مستقبل هذه المدينة التاريخية، يتأكد أنّه يتنقل بين صفحات عمل روائي، ولكنّه في الحقيقة يتصفح خلفية تاريخية عاشها البعض في الواقع وقرأها البعض الآخر في تلك المصادر التاريخية. وكل ذلك من خلال معايشة:
شخصيات روائية لها مثيلها في واقع القدس،
وهذا ما أضفى على الرواية تشويقا عبر سرد سهل عميق في محتواه اللغوي. ( يهجم الزمن على جبال الحزن فيجرف حوافها..تنكمش وتبقى ظلالها )، ص 25 . وهذا ما جعل اللغة البسيطة العميقة تصاحب شخصيات الرواية حتى وإن جاءت على لسان من يمكن اعتبارها الشخصية الرئيسية في الرواية، وهي العمّة “ميلادة الحنش” نسبة لذلك الحنش الذي كشف علاقتها السرّية العلنية مع الشخصية الثانية في بطولة الرواية “الخوري متري الحدّاد” الذي يعيش علنا أنغام ترانيم التراتيل الكنسية أيام الأحد، ويمارس غواية القلب والعاطفة سرّا مع العمّة “ميلادة أبو نجمة” صاحبة كذبة الحنش الذي التصق بها اسما عند البعض، وإعادتها لوضعها واسمها العائلي المعروف. وهل هذا الحب بين “ميلادة” و”الخوري” الذي يتمرد سرّا على شروط خورنة الكنيسة أمر شاذ وخاص بهذين الإثنين؟. الجواب ب “لا” عبّرت عنّه الروائية بعيدا عن البلاغة التقليدية قائلة: ” تسكن الشياطين مع الملائكة في صوامع النسّاك، ..تشنّ حرب إغواءلا تتوقف …ترانيم تسكب الخير، وأخرى تزيّن الشر، وأسلحتها شكّ يقود إلى معصية..فأي إغواء زلزل روحي”. وغواية الخوري متري الحدّاد تظلّ غواية مقبولة قياسا بغوايات أخرى تتكشف يوميا في الكنائس التي تمتلك الجرأة للبوح عنها، وفي المساجد التي شعارها ( وإن بليتم فاستتروا).
وعبر صفحات الرواية تدهشّك شخصية “العمّة ميلادة” التي رغم التقدم في العمر تملك ذاكرة هزمت مرض الزهايمر، فتبدو حقيقة (حكاءة ساحرة..لا عجب أن خطفت قلب كاهن من عبادته )، ص 119 . ويشارك العمّة ميلادة في سرد الوقائع الروائية المشوّقة أخواها “إبراهيم وزوجته المعلمة وردة” و “حبيب وزوجته المفتشة جميلة”. صراع الشخصيات الروائية من اجل مصالح ورغبات ذاتية هو ما أضاع القدس والوطن. “ذيميانوس” البطرك اليوناني ورغبته عبر كل الوسائل والمغريات بقاء السيطرة اليونانية في القدس المسيحية، وعلاقته المتذبذبة مع “الخوري متري الحدّاد”. قصة سكة يافا والقدس وخسارة “سالم أبو نجمة”. جمال باشا السفّاح التركي وعشيقتة “سارة”. قصة موت “مريم” زوجة “سالم” وهو بعيد في الغربة، وغيرها كلها قصص وقائع تاريخية عبر سرد روائي مشوّق نتج عنها ضياع المدينة والشعب ولاحقا الوطن. لماذا؟ ( لم يفهم الفلسطينيون لعبة السياسة فتاهوا في دهاليزها..سذّجا حملوا مفاتيح دور تآمر الجميع على سلبها ) ، ص 107 . وقصص وحكايا من هذه العذابات الفلسطينية في الغربة والوطن لا تملك إلا البكاء و صفحات (سانتياغو) ترويها، ص 101 – 106 . واعتماد الكاتبة على بلاغة أسلوبية غير تقليدية مكّنها من رسم شخصيات الرواية بواقعية مذهلة تجعلك كقارىء تشعر أنّك عرفت تلك الشخصيات وعشت معها وقائع تاريخ تسرده تلك الشخصيات سواء من حكايا العمّة ميلادة المذهلة في تشويقها و واقعيتها، أو “من أوراق الخوري متري الحدّاد” التي تسردّ تاريخ مدينة وشعب تقرأه روائيا بأسلوب أكثر إثارة وتشويقا من كتب التاريخ التي وثقت ذلك.
فلسفة المواقف الفردية الإنسانية،
سمة جريئة من سمات “ترانيم الغواية” تكاد تكون خروجا عن المألوف أو ثورة على السائد. فمثلا هل خرّق الخوري متري الحدّاد شروط الكهنة الكنيسية؟ ولم لا طالما ” الحب كالموت..أنّى شاء طاشت سهامه..لا زمان يردّه ولا مكان..ولا جاه يعانده أو سلطان..لا قدسية أمامه غير إرادته ” ، ص 146 . وأيضا التبسيط الآدمي للمفهوم الإلهي حيث هذا المفهوم يقترب عند الغالبية من المحرّمات، لكنّ العمة ميلادة وهي تروي لقطات من علاقتها الغواية مع المطران متري الحداد الذي يرى” شمال بلادنا اخضر و أزرق وألوان..الرب تبارك اسمه، لمّا شق المياه بعصاه وخلق اليابسة لوّن الشمال بالأخضر، وهو يمدّ عصاه إلى الجنوب قلّت الألوان..فدهن الجنوب باللون الباقي منها. وكان الأصفر، رمل وقحط وحر وجراد وسخام..وحتى في بلادنا، فوق خصب و مطر، وتحت صخور وعطشن وكلّما نزلنا قلّ الأخضر ” العمّ ميلادة تعقّب : ” الله يخليك بلاش تزعّل الله، ما صدقنا رضي علينا..ضحكنا وأخذني في صدره..قال لا تخافي..الله معنا ويعرف أنّنا نفكر وهو يسامحنا لأنّه خلق العقل لنستعملها لا لنحملها فقط”، ص 188 – 189 .
وصفحات مؤلمة من تاريخ القضية،
وتناحر طوائفها وركض حاكمها وخليفتها العثماني وراء مصالح دولته التي تجعله يقيم التحالفات حتى مع خصومه إن كان من نتيجتها مصلحة عثمانية ما، وإن كانت على حساب البلاد والعباد أيا كانت انتماؤتهم وطوائفهم وعائلاتهم، تلك العائلات التي عثرت الروائية كاتبة، والسينمائية مخرجة الفيلم في الرواية، على وثائق كارثية تدين أشهر تلك العائلات وقيادات ما عرف ب “جيش الإنقاذ العربي”..وعائلات باعت الأراضي للوكالة اليهودية، ص 112 . وكامل معلومات ورقات ( مكتبة الأسرار)107 – 113 ، وأخطرها تطبيق الإنتداب البريطاني قانون الطابو العثماني الذي يبدو انّه لم يكن قانونا بريئا بل تمهيدا تآمريا لسلب ونهب قادمين. ” يجوز لمن يسستثمر أرضا زراعية من عشرة إلى خمسة عشر سنة متواصلة، أن يتقدم بتسجيلهاملكية رقبة، إن لم يعترض على ذلك أحد”. وكانت النتيجة لهذا الطابو العثماني ” انتقلت ألاف الدونمات سرّا من بدو وسماسرة ومستشمرين، وانتهت إلى الوكالة اليهودية بيعا مباشرا أو عبر وسطاء”، ص 113 . وبالتالي بالمختصر المفيد (ضاعت البلاد وتشرّد العباد)، رغم وحدة المسيحيين والمسلمين في أوقات حرجة حيث استعملوا عقولهم ليتأكدوا أنّ الإنتداب البريطاني والحكم العثماني والوكالة اليهودية لا يفرقون في قتلهم وسجونهم واستيلائهم على الممتلكات بين مسيحي ومسلم فكلاهما في هذه الحالات سواء.
ومن يريد معرفة خلفية عنوان الرواية،
فعليه قراءة الرواية والانتظار لحين وصول سفره بين صفحاتها إلى الصفحة “246 ” ليقرأ بعض هواجس الخوري متري الحدّاد : ” ارحمني يا الله حسب عظيم رحمتك، حسب كثرة رأفتك أمح معاصيّ، اغسلني كثيرا من إثمي..أفكار خبيثة أزعجت تعبدي..تسحبني من صلاتي فأتعوذ من شيطان لا يكفّ عن تجربتي..ترانيم غواية يرتلها في أذني تعارض إيماني، تتنافر مع قلنسوة كاهن..صليّت و صمت..قرأت تجربة المخلّص على جبل قرنطل مرات..تصبّرني فأتماسك، فيزداد إبليس شراسة لإغوائي، ورغبة في قهر صمودي”. وفي نهاية قراءة الرواية للمرّة الثانية، تذكرت قول “ديفيد لودج”: (يشبّه بناء القصة إطار العوارض التي تمسّك المباني الحديثة الشاهقة الارتفاع، فأنت لا تراها ولكنّها تحدّد شكل المبنى وطابعه) “1 “، فإنّ قراءتي لترانيم غواية ليلى الأطرش أوصلتني للعوارض التي حدّدت شكل البناء الفني لهذه الرواية المتميزة. هذه العوارض هي: مدينة القدس أرضا وشعبا ومدينة يختصر تاريخها ماضي وحاضر وطن تمّ الإستيلاء عليه في انتظار أفق لم تبدو أضواءه بعد، ولغة انسيابية غير تقليدية، وشخصيات مثيرة تمكنت الكاتبة من تقديمها كما هي في الواقع وربما عايشها بعض قراء الرواية. رواية أنصح بقراءتها من كل من يريد معايشة هذه العوارض عبر بناء روائي مذهل وشخصيات جذّابه ولغة تحمل بلاغتها الخاصة.
ملاحظات:
1 . من كتاب “الفن الروائي” لديفيد لودج، ترجمة ماهر البطوطي، ص 242 ، ضمن كتب المجلس الأعلى للثقافة في مصر، المشروع القومي للترجمة، عام 2002 .
2 . لمزيد من الروايات الفلسطينية التي أعادت ( بناء المدينة الفلسطينية روائيا )، يمكن الإطلاع على دراسة لي بهذا العنوان رابطها:
http://www.diwanalarab.com/spip.php?article10998