لغة الجسد لغة الإنسان الأول قبل اكتشافه اللغة المحكية، لغة عالمية عامة مشتركة بين بني البشر، وتكاد تكون واحدة متقاربة أو متشابهة لدى كل الأمم يستخدمها الطبيب والمهندس والمعلم، النساء والرجال، الصغار والكبار على حد سواء مع اختلافات نادرة، لغة متكاملة باستطاعتها أن تعوض عن لغة المشافهة إذا اقتضى الأمر. وما لغة الإشارة إلا جزء متمم من مهامها، وفي مقالنا هذا نركز في لغة الجسد ودورها في المهمات الصعبة وليس على تلك الحركات التي يؤديها الأفراد تلقائيا وعفويا مستخدمين تقاسيم الوجه وحركات الأطراف وطبقات أصواتهم ونبراتها في التعبير عن أنفسهم كهز الكتف أو الرأس، ليفهم المستمع ما يريد المتحدث إيصاله على أفضل وجه، فللغة الجسد مميزات وخصائص مضافة إلى اللغة المنطوقة منها تكرار وتأكيد الكلام الشفهي فتقود لفهم الرسالة بوضوح وجلاء، وهي قادرة أن تكون بديلا للكلام المحكي، وبالذات العيون تستطيع نقل رسالة حية عميقة تفوق الكلمات، وقد تعكس أفكارا متناقضة مع ما يريد المرسل إرساله إلى المتلقي، وكثيرا ما تضيف لغة الجسد أو تكمل الرسائل الشفهية فضلا عن مساعدة المتلقي على استيعاب ما تغمضه اللهجات غير المألوفة.
للغة الجسد مهماتها يدركها المعنيون بها من ذوي الوظائف المتخصصة كالسلك الدبلوماسي والرؤساء والوزراء والمحققين والعاملين بالاستخبارات الدولية والتحقيقات الجنائية وأصحاب الأعمال المتخصصين بالمبيعات والمشتريات والتفاوض، الذين لهم مآرب كبرى في تحقيق الغنى المادي أو الشهرة، فهم يريدون قراءة ما يضمره المنافسون الخصوم والأصدقاء خلافا لظاهر الكلام، واكتشاف عوالم الأشخاص المتحفظين والحذرين ممن لا يودون كشف ما يبطنون ويحرصون على عدم إظهار انطباعاتهم للآخرين.
ويؤكد علماء النفس ومنهم البرت مهربيان في دراساتهم أن 7 % فقط من التواصل بين الأطراف، المتكلم والمستمع “المرسل والمستقبل” تفصح عنه دلالات الكلمات المنطوقة و38 % من الدلالة تؤديه نبرة الصوت وجرس الألفاظ و55 % تؤديه لغة الجسد وتعابيرها الحركية، ويميل المتخصصون العارفون إلى تصديق لغة الجسد عند قصور الألفاظ أو اختلاف الكلمات لعلمهم بأهميتها وفاعليتها، ويرون أن توظيف لغة الجسد على مر العصور الماضية لم تدرس لذاتها، وأن عوامل التواصل الإنساني غير الشفوية لم تتناولها وسائل البحث العلمي التجريبي إلا خلال الخمسين سنة الماضية، خصوصا بعد نشر دجوليوس فاست مصنفه عن لغة الجسد، ولكن جذور هذه اللغة تبدو جلية واضحة في قوله تعالى: (سِيمَاهُمْ فِي وَجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ) الفتح:29، وقال صلى الله عليه وسلم: “اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله”.
ومن الناحية التقنية يعتبر كتاب “التعبير عن العواطف لدى الإنسان 1972” أهم المؤلفات تأثيرًا في اختصاصه، ومنذ ذلك الحين اخذ موضوع لغة الجسد يستقطب الباحثين والدارسين وتؤلف فيه الكتب وتعد له حلقات الدرس حتى تجاوز ما أحصاه المعنيون من إشارات ورموز وحركات وقسمات المليون إشارة، جلها في ميدان التفاوض والمواقف الجدية التي ترتبط بوشائج النفس والمشاعر أكثر من لغة العلم والخبر الموضوعي التي تستخدم قناة التواصل الشفهي المباشر. اليوم أصبحت لغة التواصل غير الشفهي جزءا من ثقافة العمل والتفاعل الاجتماعي وتستحوذ على ما يقارب من 90 % من قدرات التأثير في الآخرين عند التواصل وتعتمد على وسائل خارج إطار الكلام الذي نتبادله.
وبعد أحداث سبتمبر التي شهدتها أميركا بدأت توكل إلى لغة الجسد المهمات الصعبة لما لها من أهمية، فقد أخذت جهات دولية كثيرة كالمباحث الفدرالية FBI تدرب شرطتها ورجال التحقيقات لكيفية التعرف على إيماءات وحركات الإرهابيين، وعلى رأس 3 علوم مهمة في مجال فراسة وتحليل الشخصيات: تحليل الخط (الجرافولوجي) وتحليل الإيماءات والحركات والوجوه وتعبيراتها لأهميتها لرجال الاستخبارات والتحريات والتحقيق الجنائي، بل وللمشتغلين بحقل العلاقات العامة، والتشريفات والضيافة، والسالكين طريق الحب والعشق، وبالمناسبة من الضروري ألا تجعل عينيك مرصداً لحركات المقربين منك وسكناتهم، فتحلل بعقلك تصرفاتهم.
وشخص المهتمون برصد مظاهر التواصل تفوق النساء في إدراك لغة الجسد على الرجال بفضل قدراتهن الفطرية في التقاط الرموز غير اللفظية أو الصوتية وفكها وكذلك دقة رصد التفاصيل والأجزاء الصغيرة لديهن، فقدرة النساء على إخفاء عواطفهن والكذب على أزواجهن في مواضع يعجز الكثير من الرجال عن إخفائها والكذب فيها، ويعود السبب إلى نتاج دور الإناث الاجتماعي باعتبارهن أكثر حساسية لانفعالات الآخرين ويستطعن التعبير عن مشاعرهن بشكل أوضح من الذكور، وتزداد مهارة هذه الحساسية لدى الأمهات من خلال اتصالهن بالأطفال قبل إجادة لغة الكلام، وعلى هذا الأساس يفضل معظم أصحاب الأعمال النساء في التفاوض وبالتحديد في الشأن المادي والاقتصادي على الرجال.